ما هدف التحرك الغربى المكثف ضد «داعش»؟ ضربات جوية واستنفار ودعم عسكرى، لكنه حتى الآن يتحدث عن تعاطٍ من بعيد، ويحرص على عدم الاشتباك المباشر، ويكتفى بتسليح القوى المتحاربة مع الدواعش. هل يريد الغرب القضاء تمامًا على ما يسمى «الدولة الإسلامية» واستعادة الدولتين «العراق وسوريا» وما تم اقتطاعه من أراضيهما؟ أم مجرد وقف تمددها وتوسعها فى اتجاه أربيل وبغداد؟ التحرك الغربى العملى فى ظاهره يسعى إلى احتواء «داعش» داخل حدودها الحالية، ولو مؤقتًا، والتحرك العربى فى المقابل خلال اجتماع جدة، اهتم أكثر بتأمين باقى الدول العربية من خطر «داعش»، مع الدعوة لإجراءات لا تهدد وجود هذا التنظيم فى مناطقه، لكنها يمكن أن تحدّ من قدرته على التوسع فحسب. إذا كان هذا هدفًا، فهو هدف مشترك عربى غربى داعشى. ■ ■ ■ منذ بلورة ما سُمِّى لاحقًا «المشروع الإسلامى» وهناك جهود كثيرة نجحت فى «صهينة» هذا المشروع، بمعنى منحه فى التفكير والتنفيذ ملامح مستمَدة من تجربة الحركة الصهيونية العالمية، بدءًا من تأسيس الجماعات والتنظيمات على نمط الوكالة اليهودية والعصابات الصهيونية، حتى تأسيس الإطار الفكرى المتشدد القادر على تلبية رغبات المتدينين فى شرعنة ممارساتهم فى القتل والسبْى واستهداف الأقليات والتطهير العرقى، وبناء المجتمعات البديلة. فى هذه «الصهينة» للمشروع الإسلامى، صار حلم «الخلافة» موازيًا لحلم أرض الميعاد، وكما تحول الوطن القومى اليهودى إلى جزء من العقيدة بفعل حاخامات صهاينة، تحول السعى للخلافة إلى ركن من أركان الإسلام، أو أحد الفرائض الغاضبة. وكما عززت الحركة الصهيونية من عزلة اليهود فى المجتمعات الأخرى، واستغلت حوادث استهداف لهم، ودعمت نموذج «الجيتو» لتكريس مزيد من الانعزال لليهود عن مجتمعاتهم، وارتكبت جرائم لإجبارهم على الهجرة، خرجت فى المقابل ذات الأفكار التى تُكفّر المجتمعات الإسلامية بالشكل الذى يجعلها غير صالحة لعيش المؤمنين، وتعزل الجماعات والتنظيمات عن محيطها بأنساق ثقافية وفكرية وعقيدية مختلفة، حتى فى الشكل وضعت هؤلاء فى «جيتو» مماثل، بينما فكرة الهجرة ماثلة فى الأذهان. ■ ■ ■ التلاقى المرحلى حاليا بين «داعش» والغرب يفسره نجاح التنظيم فى طرح نفسه فى صيغة الدولة وفرض هذا الواقع، تأمين حدودها واستخراج جوازات سفرها، واستكمال مقوماتها ومؤسساتها القضائية والشورية والشرطية فى إطار المفهوم الشرعى المعتمد. الفارق بين «داعش» والتنظيمات السلفية الجهادية الأخرى كالقاعدة، أن الأخيرة رضيت طوال وجودها بوضع التنظيم المقاوم المجاهد للاستكبار الصليبى الصهيونى، ويوضحه حديث القاتل البريطانى الذى ذبح الصحفى الأمريكى، حين خاطب أوباما قائلًا: «نحن الآن دولة.. وطائراتكم تقصفنا وتعتدى علينا». بهذا المنطق تتصرف «داعش» منذ إعلانها الخلافة بأنها استطاعت كما استطاعت العصابات الصهيونية، تأسيس الوطن القومى لكل المتشددين الراغبين فى العيش بهذا النمط وتحت هذه الراية. وبالتالى توزع المنشورات فى كل دول العالم وعبر الحسابات الإلكترونية للدعوة إلى الهجرة إلى دولة الخلافة «الوطن القومى أو أرض الميعاد فى العراق والشام»، وتتمادى فى تأثيم كل من يستطيع الهجرة ولا يهاجر، باعتباره يتغافل عن فريضة باتت هى الوحيدة التى يمكن التفريق بها بين المؤمنين والكفار فى كل العالم، باعتبار الدولة أرض الإسلام، وكل ما فى خارج حدودها الكفر. ■ ■ ■ تأمين الدولة فى هذه المرحلة أهم من التوسع. هنا تتلاقى الإرادات غربيا وعربيا وداعشيا أيضًا، وهو ما قاله لى دبلوماسى غربى التقيته قبل يومين، من أن وجود «الدولة الإسلامية» يمكن أن يفيد فى تجميع كل العناصر المتشددة من العالم، خصوصا مع تأثيم من لم يهاجر إليها، ومع اتخاذ إجراءات صارمة لمنعها من التوسع وتهديد جيرانها ستظهر عند حجمها الجغرافى الطبيعى كما حدث مع إسرائيل، وستفيد المجتمعات العربية والإسلامية فى العالم كله بإزالة الوصمة من عليهم، لتصبح كلمة «إسلامى» معناها المواطن الذى يحمل جنسية الدولة الإسلامية، وليس المسلم فى مكان آخر من العالم. ■ ■ ■ وطن قومى آخر لمهاجرين مهووسين دينيا، ومخلب جديد لتأديب المنطقة والتحكم فيها.. هل هذه مقامرة جديدة أم محض خيال؟!