ظل المسيحيون فى المشرق العربى يعيشون مع المسلمين بحق المواطنة والتساوى فى الحقوق والواجبات ،حتى بدأ التهجير القسرى لهم على أيدى المجموعات التكفيرية فى العراقوسوريا بعد الاحتلال الأمريكى للعراق ، وزيادة نشاط المجموعات التكفيرية من المتشددين السنة على اختلاف مسميات تنظيماتهم.وأخيرا يتعرض المسيحيون العراقيون إلى خيار الهجرة حفاظا على حياتهم بعد سيطرة تنظيم دولة الإسلام فى العراق والشام داعش- على الموصل ومحافظات شمال العراق فنزحت عائلات كثيرة من العراق باتجاه سورياولبنان حيث الكنيسة المارونية التى يتبعونها. وتشكل الكنيسة المارونية فى لبنان المرجع لأغلبية مسيحيى الشرق فى العراقوسورياولبنان وحيث يوجد المسيحيون المارون، ويشكل المسيحيون فى لبنان حوالى 39%من عدد السكان الذى يقارب 4.5مليون نسمة بالإضافة إلى مثل هذا العدد فى دول الاغتراب اللبنانى فى المهجر،ويشكل المسيحيون الموارنة الغالبية العظمى من مسيحيى لبنان ،بالإضافة إلى المسيحيين الأرمن والكلدان والسوريان وغيرهم ،وفى لبنان دون غيرها من البلدان العربية والإسلامية يشترط الدستور اللبنانى أن يكون رئيس الجمهورية مسيحيا مارونيا. وفى عام 1976 و تحت خديعة» انقاذ المسيحيين» بعد عام من بداية الحرب الأهلية اللبنانية جاءت أمريكا ببواخرها لاجلاء مليون مسيحى من لبنان لانهم قد يتعرضون للابادة حسب زعمها ، و لكن رئيس االجمهورية اللبنانى سليمان فرنجية آنذاك قال: «نحن عرب و فى هذه الارض متجذرون و لن نغادر « فرد عليه الأمريكان بقتل ابنه ،وذلك فى أوج الحرب الأهلية اللبنانية التى اشتعلت فى البداية بين الفلسطينيين وحزب الكتائب المسيحى عام 1975،ثم توسعت لتشمل المسلمين سنة وشيعة والمسيحيين ،لتستمر حوالى 15 عاما وتنتهى بإتفاق الطائف لتقسيم السلطات بين المسيحيين والمسلمين وغيرهم من 18 طائفة تشكل فسيفساء المجتمع اللبنانى ،وهدأ إلى حين مشروع تفريغ الشرق من المسيحيين . ومع الاحتلال الأمريكى للعراق فى 2003،و كان فيه ما يناهز المليونى مسيحى ، شجعت امريكا وحلفاؤها الغربيون الارهاب مباشرة بيدها او عبر حلفائها فى المنطقة من دعاة النزعة التكفيرية و رفض الآخر ، و كان المسيحيون الضحية فبدأت هجرتهم خوفا من القتل على أيدى الجماعات التكفيرية التى نشأت فى العراق بحجة مقاومة المحتل الأمريكى أو مواجهة المشروع الصفوى الإيرانى ،حتى وصل عدد مسيحيى العراق إلى 300 الف فى مطلع خريف 2010 .و للمفارقة كان المسيحيون العراقيون المضطهدون يعرضون مظالمهم على اهم بطريركية مسيحية فى الشرق و أكثرها فاعلية و هى البطريركية المارونية المتمركزة فى لبنان و يطلبون التدخل و السعى لوقف افراغ العراق من مسيحييه ، و كان الرد من البطريرك الماروني: «من قال ذلك؟ « و «هل لديكم احصاءات؟» و «هل الاحصاءات موثوقة؟ كلام كان يفهم منه المستصرخون ان البطريركية لن تتدخل سواء علمت ام لم تعلم ، و عندما لامست الازمة السياسية فى العراق حلاً قد يقطع الطريق على هجرة من تبقى و يفتحها لعودة من هاجر من المسيحيين ، انقضت الجهات الحليفة لأمريكا على كنائس المسيحيين قتلاً و تدميرا . ومع حدوث الأزمة السورية فى بداية 2011وتحول المعارضة السلمية ضد نظام بشار الأسد إلى معارضة مسلحة مدعومة غربيا وعربيا بالمال والسلاح والمقاتلين ،كانت الكنائس المسيحية فى سوريا فى مقدمة الأهداف التى يجب تدميرها على أيدى التكفيريين من جبهة النصرة ومن على شاكلتها فى الصراع السورى ،بحجة أن سوريا أرض إسلامية ولايجوز بقاء النصارى فيها،فدمرت كنائس معلولا البلدة الوحيدة فى العالم التى لاتزال تتحدث لغة المسيح عليه السلام ،واختطف قساوستها ،وكادت تختفى من الوجود لولا تقدم نوعى حققه الجيش السورى ضد التكفيريين. ومع انتقال التنظيم التكفيرى المسمى بدولة الإسلام فى العراق والشام داعش- إلى أرض المعارك فى سوريا ،ازداد الهجوم على المسيحيين وأماكنهم المقدسة فبدأ هروبهم القسرى باتجاه لبنان كمستقر أو محطة للهجرة إلى أوروبا وامريكا ،ولسوء الحظ أن الدول الأوروبية فتحت ذراعيها واراضيها لاستقبال المهاجرين المسيحيين من جحيم الإسلاميين المتشددين فى سوريا. ومع توسع داعش عراقيا ظهر نمط جديد من اضطهاد مسيحيى العراق فى الموصل والمدن التى سيطرت عليها داعش ،حيث أمرت داعش المسيحيين فى الموصل وماحولها بدفع الجزية أو إشهار الإسلام أو الهجرة او القتل ،فشهدت المدن العراقية تحت احتلال داعش هجرة كثيفة من المسيحيين باتجاه الكنيسة المارونية فى لبنان كمحطة قبل الهجرة إلى الخارج،الأمر الذى زاد من تبعات الحرب السورية فى لبنان خاصة فى وجود حوالى مليونى نازح سورى فى لبنان يعيشون حياة أقل من الآدمية. ولم تكتف الجماعات التكفيرية بتهجير مسيحيى العراق باتجاه لبنانوسوريا بل هددت مسيحيى لبنان بالانتقام ونقل المعركة إلى إمارة لبنان حسب قول داعش ،وهو الأمر الذى أدى إلى قيام الجماعات التكفيرية المدعومة من بعض دول الخليج ومن بعض الشخصيات السنية النافذة فى لبنان إلى القيام ببعض العمليات التفجيرية والانتحارية فى لبنان ردا على مشاركة حزب الله الشيعى فى الحرب داخل سوريا لصالح بشار الأسد وضد المسلحين السنة من جبهة النصرة وداعش وغيرهما ،ولكن جاهزية الجيش اللبنانى وقوى الأمن حال دون وقوع ضحايا كثيرين حيث كانت قوى الأمن تبطل كثيرا من العمليات الانتحارية التى كان يذهب الانتحارى ضحيتها قبل الوصول إلى هدفه. ومع تزايد خطر الجماعات التكفيرية السنية فى سورياوالعراق وأخيرا فى شمال لبنان فى منطقتى عرسال وطرابلس ازدادت المخاوف اللبنانية على مسيحيى لبنان من مصير مشابه لمصير المسيحيين فى معلولا السورية والموصل العراقية. ويرى المراقبون لتفريغ الشرق من المسيحيين ان من مصلحة الصهيونية ان تنشر ثقافة التهجير والاقتلاع و التغيير الديمغرافى فى الشرق ، حتى تبرر ما فعلت و تقضى على احلام اهل فلسطين فى العودة الى ارضهم و لتفرض امرا واقعا فى لحظة ما «كل فرد يبقى حيث انتهى به المطاف»وهنا ترتاح اسرائيل و تتمكن من فرض يهوديتها ويفرض توطين الشعب الفلسطينى حيث هو و بأسهل السبل مثله مثل المسيحيين الذين هجروا ، بعد اسقاط حق العودة بالمبدأ و توفير مكان المسيحيين المهاجرين كمكان للفلسطنيين كما أن من مصلحة اسرائيل ان تقطع التواصل الشرقى الغربى ، و ألا يكون الاتصال الا عبرها وبواسطتها و هنا تؤكد على وظيفة حصرية لها ، فتخلى الشرق من المسيحيين الذين هم القناة الطبيعية للتواصل بين الشرق الاسلامى والغرب المسيحى . كما أن من مصلحة اسرائيل والغرب ان يتم تقديم الشرق فى إطار «صراعات الحضارات» على اساس انه يرفض الآخر و طبعا هذا خلاف للحقيقة لان تاريخ الشرق يعاكس ذلك والا كيف بقى المسيحيون منذ اربعة عشر قرنا ، و تريد اسرائيل ان تفرض على الغرب الاعتماد عليها وحدها فى تأمين مصالحه فى الشرق بالاستناد الى القوة التي تملكها و التى تلزم الغرب بتوفيرها ، لا بالاستناد الى الحوار و التفاهم الذى يمكن للمسيحيين المشرقيين لعب دور مميز فيه .