صديقى رئيس الوزراء اسمح لى أن أخاطبك بهذه الصفة، وأن أبدأ عودتى إلى الكتابة فى «الأهرام» العزيزة التى أبعدنى عنها حبى لك ووفائى بوعد قطعته على نفسى للسيد رئيس الجمهورية. وبما أننى حققت وعدى للرئيس، وحققت كل ما التزمت به معك رئيسا للوزراء، وعدت إلى منصبى الذى لا يعلو منصب عليه، وهو الأستاذ الجامعى الكبير (فى السن)، فسوف أكمل عامى الحادى والسبعين فى هذا الشهر (مارس)، وأحتفل به مع أحفادي، هادئ البال، مستريح الضمير، راضيا بما حققته من وعود وعدت بها، وما أنجزته على امتداد شهور طويلة مرهقة فى منصب لم أسع إليه، بل كلفتمونى عبئه ومسئوليته، ثقة منكم ومحبة واحتراما مني. وهأنذا قد حققت للرئيس ما وعدته، وأرسلت إليه المنظومة الثقافية الجديدة للدولة كما وعدته ووعدتك، مع إحدى عشرة مذكرة تفاهم بين وزارة الثقافة وغيرها من الوزارات المعنية بالوعى الثقافى للأمة، مصحوبة بإعادة هيكلة كاملة لقطاعات وهيئات وزارة الثقافة كى تدخل العصر الحديث الذى نعيشه، والذى يخشى من أعرفهم وتعرفونهم من الدخول فيه، وبعد أن تحققت إنجازات ما كان يمكن أن تتحقق فى أشهر معدودة، والفراغ من صروح ثقافية عديدة، أرجو أن تفرح مع المثقفين بافتتاحها ما بين حلايب وشلاتين إلى الاسكندرية، ولن أنسى افتتاح متحف جمال عبد الناصر فى موعده القادم مع احتفالات ثورة يوليو العظيمة التى لولاها ما أصبحت أنا أستاذا جامعيا ووزيرا للثقافة التى اشرف بالانتساب إليها مثقفا تنويريا، يؤمن بانتسابه إلى المثقفين بعامة، والتنويريين الحالمين بأن تكون مصر دولة مدنية حقا، ووطنية ديمقراطية صدقا، لا مكان فيها للتمييز بين المواطنين أو الحجر على حرياتهم الفكرية والإبداعية، خصوصا بعد أن أوشكنا على استكمال خريطة الطريق الذى أدعو الله أن يمد فى عمرى كى أرى أعلامه الخفاقة التى تحركها نسائم الحرية والعدل والكرامة الإنسانية والاستقلال الوطني، محروسة بمبادئ التسامح والإخاء وقبول الآخر وحق الاختلاف من أجل مصلحة الوطن. ولن أنسى لك يا صديقى رئيس الوزراء- ما أبديته لى صادقا من مشاعر محبة ومودة وتقدير غمرتنى بها، وذلك منذ لقائى الأول بك، بناء على طلبك لي. وقد أخبرتنى برغبة السيد الرئيس فى أن أحقق ما وعدت به، وفتحت لى قلبك بمحبة غمرتنى وأسرتني، وبعد حوار صداقة ومحبة صافية، تركتك قائلا لك بعد أن قلنا ما ليس من حق غيرنا أن يعرفه : لقد أحببتك، وسأعمل معك متشرفا بصداقتى لك، وهى صداقة لها حقوقها وأصولها، ولا أنسى أنى قلت لك ضاحكا: أنا أكبر منك بخمس سنوات أو ربما ست. وضحكنا من قلوبنا كما لو كانت صداقة عمر تجمعنا. وبدأنا العمل معا. أنت رئيس للوزراء وأنا وزير حريص على أن يحقق ما وعد، وأن يكون جديرا بالثقة التى أوليت له. ومرت الأشهر، والعمل يتتابع، والإنجازات تظهر، ويتزايد الإرهاق والجهد، وطبيبى يصرخ فيّ: لا تنس أنك فى السبعين من العمر وليس الأربعين، ولكنى كنت مليئا بالحماسة، مخلصا للعمل، حريصا على الوفاء بما وعدت. ولكن دون أن أتنكر لمواقفى الفكرية والثقافية المنشورة فى كتبى ومقالاتي. ولذلك كان لابد أن يرضى عنى قوم، ويسخط آخرون، ويرانى بعضهم الأخير خطرا لابد من إزاحته. ولم يكن يعنينى شيء من ذلك، فقد كان الأهم أن أكون حريصا على الكفاءة والنزاهة، عدوا للفساد والترهل، نصيرا لكل فكرة شريفة، منحازا إلى الشباب فى كل الأحوال. وجاءت صدامات وخلافات كنت أتوقعها، وحملات هجوم لم أكن أتوقعها، لكن ما كان يمكن إلا أن أتصرف بما ينبغى أن يكون عليه وزير ثقافة مصر العظيمة، حفيد طه حسين ووريث الاستنارة المصرية والأستاذ الجامعى الذى تخرجت على يديه أجيال عديدة. وكان لابد لأعوامى السبعين التى تثقل كاهلى مع التحديات العامة والخاصة، أن تتغلب على جسدي، فأصبحت أزور الطبيب ليكرر لى تحذيراته الغاضبة. وفى النهاية جاءت نكسة برد قاسية، ظننت أننى نجوت منها، لكنها ألزمتنى الفراش مرغما هذه المرة. وفى صباح الخميس الخامس من مارس الماضى جاءنى صوتك فى الهاتف، فشكوت إليك مرضي، وأبديت تعاطفا تريد أن تعبره سريعا لتخبرنى بنفسك عن التعديل الوزاري، فشكرتك واهنا، وتركت نفسى للنوم، شاعرا أنك أزحت عن كاهلى عبئا ثقيلا. واستسلمت تماما لما يحيطنى من حنان الرعاية العائلية. وعندما شعرت ببعض العافية تعود إلى جسدي، تحدثت مع رئيس جامعة القاهرة ، ولم تنته المكالمة إلا وقد صدر قرار عودتى إلى جامعة القاهرة- حصنى وملاذى ومرفئي، وتتابعت الهواتف من المنابر التى كنت أطل منها على القراء كاتبا كى أعود إلى الكتابة. وعندما تحدث أصدقائى بالأهرام العزيزة التى افتقدتها حقا، ولشهور عديدة، جلست أفكر فيما أبدأ بالكتابة. مؤكدا أننى سأعود إلى كتاباتى التنويرية التى سوف تغضب قوما من الأقوام، وإلى دفاعى عن ثقافة الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة التى لا تعجب قوما آخرين، اختاروا أن يعيشوا فى الماضي، لكن كانت صورتك أنت يا صديقى رئيس الوزراء هى التى ألحت على ذهنى عندما جلست إلى مكتبى الخاص الذى أبعدتنى عنه لأشهر ثمانية. وكنت بين الحين والحين تسألني: لماذا لم أعد أقرأ لك فى الأهرام؟ وما كان من اللائق أن أقول لك: إن ما كلفتنى به من مهمة صعبة عسيرة هو السبب، لكنى لن أجد حرجا فى أن أقول للقراء عن فضلك فى عودتى إلى الأهرام كاتبا متفرغا. ولذلك قررت أن تكون عودتى إلى الأهرام تأكيدا لشكرى لك وللسيد الرئيس على أنكما أتحتما لى أن أخدم وطنى فى مرحلة حرجة، وأرجو أن أكون قد حققت لك ما وعدت به. أما عنى فقد آن لى أن أعود إلى متعى التى لن أفارقها بعد اليوم، ومع اكتمال عامى الحادى والسبعين، وهى متع البحث العلمى وتخريج أجيال جامعية جديدة، ومواصلة مباهج القراءة والكتابة، والعودة إلى دور الناقد الأدبى الذى هجرته. وما أسعدنى بما أوتيت نعمة من الله ومنة. -2- اسمح بعد ذلك- سيدى رئيس الوزراء- أن أتحدث إليك حديث مثقف ومواطن فى آن. وأبدأ بالسؤال عن درجة «الوزير» وصفته وخصوصية موقعه. أليس من الأجدى للوطن أن يكون الوزير خبيرا متميزا فى عمله، مشهودا له بالكفاءة والنزاهة، معاصرا فى معارفه، مجددا فى عمله ومجاله النوعى الخاص. أثق أنك ستوافقنى على ذلك، لكن ما أرجو أن أزيده تأكيدا هو أن الوزير لابد أن يكون صاحب رؤية، تتجسد فى مواقف وقرارات وأفعال. وما أعنيه بالرؤية هو مجموع التصورات والمبادئ الكلية والجزئية التى تتصل بالطبيعة النوعية لعمل الوزارة التى ينهض بها هذا الوزير أو ذاك، وموقعها من غيرها من الوزارات وعلاقاتها بها فى الوقت نفسه. ولذلك يفهم وزير الثقافة مثلا أنه ووزارته جزء من مجموعة وزارية، تتصل بالوعى الثقافى العام للأمة، فيعمل بوصفه عضوا فاعلا ومنفعلا داخل مجموعة وزارية، تعمل بدورها كمجموعة متفاعلة داخل البنية الكلية لمجلس الوزراء. ويقينى أنه لا يمكن لوزير أن ينجح إذا لم يكن لديه رؤية متكاملة تنطوى على تصورات واعدة عن مستقبل وزارته ومستقبل وطنه فى آن. وتكون هذه الرؤية بمثابة منظومة العمل التى يقبل على أساسها أن يكون وزيرا، فى حكومة تقبل بدورها هذه الرؤية. وأضيف إلى ذلك أن هذه الرؤية أو المنظومة هى الأصل فى التعاقد بينه وبين الحكومة. وعلى أساس من هذا التعاقد يتحدد جدول زمنى للأعمال والإنجازات التى ينبغى أن تكون معروفة منذ البداية، خصوصا بوصفها نقطة للبدء والختام، وموضعا للمسئولية والمحاسبة، حين يكون هناك مجلس رقابى للنواب. مثل هذا الوزير صاحب الرؤية، إذا قدر الله أن يكون مسئولا عن وزارة ثقافة مصر، ينبغى أن يكون واعيا بخصوصية وأهمية المكانة التى تحتلها الثقافة المصرية الكبيرة جدا بتراثها، والعظيمة جدا بأعلامها، فهو وزير من حقه أن يعي- وإلا ما استحق هذه المكانة- أنه حارس التنوير المصرى الذى لا يزال تراثه ممتدا حوله، وأنه أمين على القوة الناعمة المصرية التى تبدأ من رفاعة الطهطاوى ولا تنتهى عند أصغر أحفاد طه حسين أو العقاد أو توفيق الحكيم. ومن يضعه الله فى هذا المنصب، أو هذه المحنة، عليه أن يكون جديرا بمكانته، فلا يضعف أمام فساد، ولا يخشى من غضبة رجال دين، أو من هجوم سلفى كاسح. إن امتحانه هو صبره على طريق الشوك الذى لابد أن يسير عليه حتى النهاية، لا اعتبار عنده إلا للدستور والقانون وحماية مصالح الوطن الذى أقسم بالله العظيم على صيانتها، ولابد أن يصونها ما ظل مؤمنا بالله العظيم الذى أقسم به علنا أمام عباده، دون خشية من أحد إلا الله العظيم نفسه. والتزامه بقسمه هو التزامه بما وعد به، دون تنازل منه، وإلا فقد صدق إيمانه بالذى هو بينه وخالقه، وبينه وبين المثقفين الذين ينتسب إلى قيمهم الوطنية المدنية والإنسانية، وفقد انتسابه إلى ما يربطه بأعظم ما فى مبادئ ثقافته وأعلامها الكبار الذين رحلوا، والذين يدعو لهم بطول الحياة، والذين يرجو لهم أن يكونوا كبارا كالأساتذة الذين نعرف أقدارهم. ولذلك صدقنى - يا سيدى رئيس الوزراء- إنى سعيد بأنك رفعت عن ظهرى حملا ثقيلا، كدت أنوء به لضعفى وهوانى وقلة حيلتى بالقياس إلى العظام من أساتذتى الذين أفخر بالانتساب إليهم: محمد عبده وطه حسين ونجيب محفوظ وثروت عكاشة وعشرات غيرهم من الأموات الأحياء لا الأحياء الموتي. -3- يبقى بعد ذلك أن أتحدث إليك - بوصفى مواطنا أولا ومثقفا ثانيا- عن موقف الدولة من الثقافة. أعلم أن التحديات التى تواجهها الحكومة كثيرة. وأعترف أنك والمجموعة الاقتصادية تعملون ليل نهار- بلا مبالغة- من أجل حل المشاكل المزمنة التى استفحلت مخاطرها وانتشرت، وزاد من وطأتها تعداد سكان ينفجر على نحو عشوائي، ولا يجد تشريعا يوقفه، ولا رجال دين عقلاء أو مستنيرين يقومون بتحذير الناس من كوارثه، بل نجد من المتمسحين بالدين من يتأول الحديث: «تناكحوا تناسلوا فإنى مباه بكم الأمم يوم القيامة»، متفاخرا بأن خريطة العالم بحلول 2050 سيكون المسلمون هم المسيطرين على العالم بإذن الله. والنتيجة هى ما نراه من كوارث الفقر والجهل والمرض. وتسعى الدولة، لاهثة متقطعة الأنفاس لتواجه طوفان 40% من سكان تحت خط الفقر و10% تحت ما دون هذا الخط- أو ما يسمى الفقر المدقع، فضلا عن تزايد نسبة الأمية التى تمضى مع عشوائيات قد تصل إلى 60%. والحكومة تواجه ذلك كله، عاقدة العزم فى نية مخلصة على رفع مستويات التنمية، والكل يعمل من أجل الاستثمار، وخدمة المستثمرين، وإغرائهم لكى تخرج مصر من عنق الزجاجة. والجهد مخلص والعمل دءوب، والرئيس لا يهدأ ولا يتوقف عن العمل مسابقا الزمن، كى يحقق للوطن ما وعد به أبناءه.وأشهد الله أنك تعمل مع المجموعة الاقتصادية عملا عظيما . إن عدونا الأكبر اليوم- سيدى رئيس الوزراء- هو الإرهاب المتمسح بالدين. وما الإرهاب المتمسح بالدين سوى فكر دينى انحرف عن طريق الإسلام السمح إلى ما هو مناقض لأسباب معروفة. وإذا كان الأصل فى الإرهاب هو الفكر فترياقه السليم ودواؤه الأوحد هو الفكر. وعندما نقول الفكر نعنى الثقافة التى يشيعها تعليم حديث وعصرى بكل معنى الكلمة، وأجهزة إعلام وطنى قوية وحرة تضع المستقبل الواعد فوق حسابات البنوك أو دخل الإعلانات، وفى موازاة ذلك أجهزة شباب ترعى الدولة عقولهم ووجدانهم وأذواقهم مع أجسادهم، وخطاب ثقافى وإبداعى حر، لا يخشى تحريم عقول تنتسب إلى ظلام العصور الوسطي، وذلك كله بتعاون وتآزر ودعم خطاب دينى مستنير، هو- فى النهاية- جزء لا ينفصل عن الخطاب الثقافى العام، بل يمضى معه منطلقا فى أفق الحرية التى تعيد فتح أبواب الاجتهاد الدينى على مصاريعها، فى جسارة اجتهاد الإمام محمد عبده وسماحة الشيخ محمود شلتوت. ولكن أين لنا ذلك ورئيس جمهوريتنا يتحدث عن ثورة دينية، تزيح متفجراتها صخور التقليد الجامد والاتباع الجهول والتشويه الإظلامي. وأغلب المصريين مسلمون يريد عقلاؤهم- مع الرئيس- ثورة دينية داخل الفكر الإسلامى وليس ضده. ولكن كيف نفعل ذلك والسدنة الذين يحتكرون الكلام باسم الدين فى الأزهر تخلو عن رسالة محمد عبده والشيخ شلتوت، وتجاهلوا أفكار العقلانيين كالدكتور محمود زقزوق، وازوروا بل عادوا من خالفهم ومضى فى طريق الاجتهاد الدينى من أبناء الأزهر الذين انفتحت عقولهم لما أصبح يسمى «فقه المستحدثات» التى جاء بها تطور الزمن ومتغيرات الحياة الحديثة مثل سعد الدين الهلالي. وهل ينسى مثقفو الدولة المدنية الحديثة تحالف ممثلى الأزهر والسلفية فى مطاردة صفة «الدولة المدنية» من الدستور حتى نفوها تماما وأحالوها إلى كلمة ملتبسة فى مقدمة الدستور أو ديباجته. أليس دور وزارة الثقافة أن تكون عونا على إيجاد ثورة ثقافية دينية فى الدين ومعه ومن أجله، وأن تكون حريصة على تذكير الحكومة وغير الحكومة بالقيم الثقافية للدولة المدنية الوطنية الحديثة؟! أليست هذه هى مهمة وزارة الثقافة ووزيرها الذى أقسم باسم الله على مراعاة مصالح الوطن، لا هذه الجماعة المتصلبة أو تلك المجموعات المتعصبة لما تراه حقا وهو ليس بحق.أليس الأجدر بوزير الثقافة أن يطيع الدستور والقانون لاغيرهما؟! -4- أعترف لك - سيدى رئيس الوزراء- أننى رميت كل ما حدث وراء ظهري، وامتلأت بهجة لا تعادلها بهجة، وأنا أرى مصر الجديدة التى تولدت فعليا فى مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادى الذى رسم ملامح مصر القادمة، مصر التى رأيتها فى فرحة الشابات السافرات والشباب الباسم الواثق من مستقبله الواعد، وهم يحيطون بالرئيس الذى كان يضحك من كل قلبه، فرحا بهم وبما أنجزته المجموعة الاقتصادية التى عملت معك. لقد دمعت عيناى من الفرح والفخر، وأنا أرى المستقبل الآتى بالنجوم الوضاءة على وجه مصر القادمة، مصر السعيدة التى سبقت اليابان فى نهضتها كما أشار الرئيس، مصر القوية التى أهدت كوريا أسرار التقدم، مصر التى وجدت طريق مستقبلها فى شعارات الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، مغزولة بنول الدولة المدنية الديمقراطية، ومحروسة بمبدأ المواطنة وروح الوطنية المصرية التى بعثتها 25 يناير و30 يونيو من رقدتها، فدبت روح الأمن والتفاؤل بالمستقبل.. المستقبل الذى سوف يحققه شباب وشابات مثل الذين أحاطوا بالرئيس فى حفل الختام. صدقني- يا رئيس الوزراء- لقد ذابت مخاوفى من كلمة استثمار ومدلولاتها التى عكرتها وزارة نظيف البائدة، وصار يعاودنى الحلم الناصرى مرة أخرى عن مصانع كبرى ومزارع خضراء وتماثيل رخام على الترعة وأوبرا فى كل مدينة مصرية. حقق الله لهؤلاء الشباب أحلامهم. ولكل أعضاء المجموعة الاقتصادية والصناعية فى وزارتك التحية والتهنئة، وللرئيس عميق امتنان الشعب الذى تتزايد ثقته يوما بعد يوم فى سلامة توجهه الوطني، فنحن معه فى كل ما ينتزع وطننا من مهاوى الفقر والعوز إلى كل ما يجعل مصر دولة عصرية متقدمة، ينعم أهلها بما ينعم به سكان الصين التى تجاوز المليار عددا بأكثر من مئة مليون. ولكن السؤال الذى سألته لنفسي- وأنا فى الصين- كيف تتحقق التنمية التى حققت معجزة تقدم الصين، فوجدت الإجابة نفسها التى وجدتها فى كتاب كيشور محبوبانى «نصف العالم الآسيوى الجديد». وهى إجابة لا تفصل التنمية عن الثقافة، وتقول لك باختصار: لا يمكن أن تحقق تنمية مستديمة أو ناجحة دون ثقافة. أعنى ثقافة تقوم بتغيير العقول وتجعلها قادرة على التفكير السليم والاختيار الصحيح، وممارسة الوعى النقدى الذى هو أبجدية أى وعى ناجح أو أى تفكير علمى سليم. هل فعلت الحكومة الحالية شيئا مهما فى هذا المجال؟ أعترف أنها قد ابتدأت. وصار لدى حكومتك منظومة ثقافية متكاملة، صاغتها إحدى عشرة وزارة ووقعها اثنا عشر وزيرا ووزيرة. والمنظومة فى مكتب وزير الثقافة، ويشرف على فاعلية التنسيق بين الوزارات فيها مساعد وزير معين خصيصا لذلك. يعنى أصبح عندك مجموعة وزارية موازية للمجموعة الاقتصادية، فابدأ على بركة الله بعد أن تكلل المؤتمر الاقتصادى بالنجاح الباهر- فى عقد الاجتماع الأول للمجموعة التثقيفية، وأبدأ معها طرح قضايا التنمية الثقافية التى هى اللازمة الأولى لأى تنمية حقيقية اقتصادية أو صناعية، وإذا وجدت فراغا قصيرا بين مشاغلك الكثيرة جدا، فاضرب على أزرار «النت» موقع اليونسكو مثلا، وابحث عن تقارير التنمية البشرية، أو عن التلازم بين مفردتى Culture و Development وستجد من الدراسات ما يؤكد لك أنه لا تنمية اقتصادية أو صناعية أو حتى علمية دون ثقافة. هذا ما تقوله تجارب العالم المعاصر، وسر نجاح نمور العالم الآسيوى الجديد التى كانت أقل منا شأنا وأكثر هوانا. وتأمل ما صنعه مهاتير محمد الذى تولى حكم ماليزيا فى عام مقارب لحكم مبارك. وماذا وصلت إليه ماليزيا وإلى ما انتهت إليه مصر قبل 25 يناير-30 يونيو. وأهم من ذلك سيدى رئيس الوزراء- أن الثقافة هى نفسها صناعة واقتصاد، فضلا عن كونها خدمات واجبة، ولذلك فهى مجال للاستثمار. والناس فى مصر يعرفون أن دخل صناعة السينما المصرية فى مصر كان يقترب من دخل صناعة القطن. ومجال الاستثمار الاقتصادى مفتوح على أقصى اتساعه فى صناعة السينما أو المسرح والكتاب والترجمة والفنون والحرف الشعبية، ففيها وفى غيرها مجالات استثمار تعد و تحصي. وقد بدأنا فى السينما بفضلك وتشجيع الرئيس خطوات ناجحة. وقد جعلتُ من المسرح القومى بيتا مستقلا، يمكن أن يدخل-بوصفه بيتا مستقلا- فى مشروعات استثمارية تكون له عونا. ولكن تطوير ذلك يحتاج إلى عقول أكثر شبابا، تعلم ما لست متعمقا فيه عن اقتصاديات الثقافة والطرائق الحديثة لإدارتها. ولذلك كان من القرارات التى أعتز بها إنشاء معهد جديد للإدارة الثقافية بأكاديمية الفنون المصرية، وأعلنا عن منحتين لدراسة الإدارة الثقافية فى أكاديميتنا فى روما. وهى أكاديمية لابد لكل مصرى أن يفخر بدورها الثقافى العظيم. -5- تبقى شكوى المواطن المصرى التى لا أستطيع أن أكتمها عنك. وهى ميزانية وزارة الثقافة. لقد قامت لجنة الدستور بخدمة جليلة للوطن عندما - رفعت بنص فى الدستور الجديد- الموازنة المالية المخصصة لكل من وزارتى الصحة والتعليم. وليتها فعلت ذلك مع الثقافة وأكملت أضلاع المثلث. هل يعقل - يا سيدى رئيس الوزراء- أن يكون نصيب المواطن المصرى فى المنتج الثقافى أقل من جنيهين تقريبا فى العام؟! وأكثر من ثمانين فى المائة من الموازنة يذهب إلى أجور عاملين، نصفهم لا عمل له على وجه الحقيقة، وعدد غير قليل منهم يأبى أن يترك ما ألفه من تكاسل وإهمال. لقد جعلتنى بسبب حبى لك، ووفائى للرئيس، أعمل شحاذا لثمانية أشهر، أستغل احترام الوزراء لى لكى أستعين بهم ماليا لكى أكمل بعض مشروعات وزارة الثقافة. ولم أجد سوى الرئيس الذى لجأت إليه لكى يعفى الوزارة من نصف دينها فى مشروع بناء متحف جمال عبد الناصر، وتوسلت إليك لترى متحف الجزيرة وتنقذ كنوزه، ولم أنجح فى أن أذهب وإياك لنفتتح قصرى ثقافة حلايب وشلاتين، فالاقتصاد ومشاغله الموجعة يصرفك عن الثقافة، وعن هوان ميزانية وزارتها. لا يا سيدى رئيس الوزراء، هذه الميزانية المهينة لا تليق بوزارة ثقافة مصر التى صنعت طه حسين وعباس العقاد ومحمود مختار وأحمد شوقى وصلاح عبد الصبور وأحمد حجازى وآدم حنين ولويس عوض وألفريد فرج والسلسلة الهائلة التى تشمل وحيد حامد وعادل إمام وأحمد زويل وغيرهم. إن ثقافة مصر هى ثروة مصر الحقيقية وقوتها الناعمة التى لا تزال قادرة على النماء والتجدد، وعلى أن تحصد لمصر من جوائز نوبل فوق ما حصدت، وما لم يحصده غيرها فى محيطها الواسع. تصور سيدى رئيس الوزراء- مصر العظيمة هذه، لا يزال وزير ماليتها يتقاضى من مشاهدى المسرح القومى بكل جلاله وتاريخه العظيم ودوره التنويرى الكبير ضريبة اسمها «ضريبة ملاه». شكرا لك -سيدى رئيس الوزراء- أنك أعدتنى إلى أحب مكان لي، وهو كرسى النقد الأدبى فى كلية الآداب بجامعة القاهرة. وامتنانى الكبير لقيادات وزارة الثقافة التى أتعبتها معي، تحقيقا لحلم وطنى لا يزال يجمعنا. وأخيرا، سيدى رئيس الوزراء، ابق لمن يحبك ويحترمك ويفتخر بأنه عمل وإياك من أجل تحقيق بعض أحلام مصر، تحت قيادة رئيس نؤمن معا بقيادته الوطنية. واعذرنى على الإطالة. لمزيد من مقالات جابر عصفور