بدت تيارات أو جماعات الإخوان المسلمين بالإقليم، وقوى الإسلام السياسى عموما، خلال الذكرى الرابعة لثورة 25 يناير 2011، وكأنها تلقت صفعة قوية، مع ثلاثة متغيرات إقليمية مؤثرة وذات مغزي، على نحو يزيد من أثر الانتشار المتسم بالإنهيار أو التعثر أو التراجع فى نفوذ هذه الجماعات، بدرجات متفاوتة، فى مصر وتونس وليبيا والمغرب واليمن والاردن وهو المسار المرجح حدوثه بدرجة كبيرة فى دول أخرى خلال التفاعلات الداخلية فى عام 2015. متغيرات ثلاثة أول تلك المتغيرات تمثلت فى فوز البجى قايد السبسى بانتخابات الرئاسة فى تونس، وهزيمة حليف حركة النهضة فى “الترويكا” المنصف المرزوقى. والمعروف أن السبسى أقرب فى توجهاته وعلاقاته إلى دول “معسكر الاستقرار” فى المنطقة، وأبرز أعضاؤه: المملكة العربية السعودية، ومصر، والإمارات، والأردن، والمغرب، مقارنةً بالمرزوقى الذى بقى أميناً على وفائه لتوجهاته وللحظة التغيير التى جاءت به إلى الحكم بالتحالف مع الإسلاميين. وثانى تلك المتغيرات، قرار النظام القطرى بإغلاق قناة “الجزيرة مباشر مصر”، ما تمّ تفسيره بوصفه مؤشّرا على نتائج زيارة المبعوث القطرى الأخيرة للقاهرة، واستجابة للضغوط الخليجية لتغيير موقف قطر تجاه ما حدث فى مصر بعد ثورة 30 يونيو 2013. فى حين لا يزال الموقف المصرى للمضى فى المصالحة يشترط التخلّص من قيادات الإخوان المسلمين الذين يوجدون فى الدوحة، بما يجعلهم فى حالة ترقّب شديد. وثالث تلك المتغيرات، كان رئيس الوزراء التركى أحمد دواود أوغلو ونائبه بولند أرينج، يمدّان طرف خيط ودّ انقطع تماماً فى الآونة الأخيرة، للدولة المصرية، ويلمح إلى إمكانية التعاون مع الرئيس عبدالفتاح السيسى من قبل الأتراك، بعدما كان الرئيس التركى رجب طيب أردوغان بمثابة الخصم الإقليمى والدولى الأول للسيسى خلال الأشهر الماضية، وبما يبدو “إعادة تموضع” من قبل المسئولين الأتراك، بعد الانكسار الكبير فى الرهان على الثورة السورية وقوى التغيير فى “الربيع العربي”، الأمر الذى أضرّ خلال الفترة الماضية بالمصالح الأمنية والاستراتيجية والاقتصادية التركية. هذه المتغيرات الثلاثة تثير تساؤلا رئيسيا هنا: هل ثمة نتائج نهائية مرتبطة بتلك المتغيرات؟ وهل العنوان الرئيسى لتلك النتائج يتمثل فى طى صفحة تأثير الاسلام السياسى فى العلاقات السياسية الاقليمية؟ واقع الحال أننا اليوم فى أشد الحاجة لذلك “الحسّ التاريخي” الذى يتجاوز التسجيل اليومى أو حتى السنوى للأحداث، وينظر إلى حركة المجتمعات والشعوب عبر منظور تاريخى فلسفى عميق، يتكامل ولا يتناقض مع معطيات البحث فى مساحات النظم السياسية، والعلاقات الدولية. وفى هذا الإطار نشير إلى أن الولاياتالمتحدةالأمريكية، فى زمن الحرب الباردة، كثيرا ما كانت تسخر الكنائس فى داخل أراضيها لمهاجمة الشيوعية. وفى السياق ذاته، كان التيار الدينى الإسلامى حليفاً للأنظمة العربية المحافظة، ضد الأنظمة القومية والاشتراكية بالمنطقة. فآنذاك كانت هناك أنظمة فى مصر، وسوريا، والعراق، وليبيا (وبدرجة أقل فى الجزائر) تسعى إلى لعب دور قيادى للعالم العربي. وكان اليمن الجنوبي، على ضعفه، حاضنة للثوريين الأكثر راديكالية، الساعين لنشر ما يسمى بالثورة فى باقى الدول العربية التى كانوا يسمونها ب”الدول الرجعية”. مفارقة سياسية ومن ثم، نشأ تحالف (نتيجة للمصالح المشتركة) بين الأطراف الثلاثة: الولاياتالمتحدة، والأنظمة الخليجية الملكية، والتيار الدينى الإسلامى الذى تحول مع الوقت (بمباركة أمريكية ودعم خليجى) إلى “إسلام سياسي”. وقد توثقت عرى هذا التحالف مع نهاية السبعينيات فى القرن الماضى، حين تبنت واشنطن استراتيجية دعم “الجهاد الأفغانى” فى مواجهة المد الشيوعى بعد غزو الاتحاد السوفيتى لأفغانستان. ومع بداية التسعينيات كانت قوة التيار الإسلامى قد وصلت ذروتها، وهنا تكمن المفارقة!! ذلك أن زمن انهيار الكتلة الشرقية ونهاية الحرب الباردة، هو ذاته الذى وصل فيه صعود التيار الاسلامى إلى ارتفاع شاهق، على الأقل بالمقارنة بحال التيارات والأحزاب الليبرالية والقومية واليسارية. أى أن الاسلام السياسى فقد جزءا كبيرا من دوره الوظيفى بالنسبة لأنظمة الخليج والرأسمالية العالمية، بينما كان هذا التيار فى أوج قوته. لكن هذا لا يعنى أنّ قطيعة وقعت مباشرة بين الجانبين، وخصوصا بين الأنظمة العربية والإسلام السياسي، فهناك علاقات شخصية، وثمة دوائر استخباراتية فى باكستان ودول عربية خليجية ظلت على صلة بذلك التيار. كما أنّ هناك وظائف فرعية ظهرت له. ففى باكستان على سبيل المثال، كان ضروريا الاستمرار فى دعم التيار السلفى فى أفغانستان، لعاملين: أولهما، الخوف من تمدد شيعى وإيراني. وثانيهما، أنّ هذه الجماعات حليف فى وجه الهند، كما فى كشمير. فى ذات الوقت بنت دول الخليج العربى سياساتها الأمنية، بعد الغزو العراقى للكويت، على تحالف مع الولاياتالمتحدة، خصوصاً فى مواجهة العراقوإيران الدولتين اللتين تتحينان الفرصة للانقضاض على الخليج. فيما أدارت العلاقة مع الإسلام السياسى بنوع من المد والجزر، خصوصاً مع انتهاء الأنظمة العربية “الثورية” والأيديولوجية التى كان الإخوان المسلمون طرفا فى الخندق المقابل لها مع الأنظمة فى الخليج. لكن لحظة التغيير العاصف المحمول على “الربيع العربي” حسمت المعادلة، وأصبح هناك تخوف من دور الإسلاميين فى هذا التغيير. وكان زعيم حركة النهضة فى تونس “راشد الغنوشي” ممن توقع انتشار هذه العدوى فى محاضرة شهيرة فى الولاياتالمتحدة، الأمر الذى استفز دول الخليج حينها. وبينما تفردت قطر بمحاولة التحالف مع “الإخوان” وتأييد الثورات، فإنّ الإدارة الأمريكية برئاسة باراك أوباما تبنت موقفا براجماتيا لا يمانع فى عقد صفقات أو صياغة تفاهمات مع قوى الإسلام السياسى الصاعدة للحكم آنذاك، ما زاد من مخاوف غالبية دول الخليج، فقرروا أن يباشروا الأمر بأنفسهم، وأن يستثمروا كثيراً فى منع المزيد من التغيير غير المسيطر عليه فى الدول العربية، كنوع من الوقاية لساحتهم الداخلية، ومن ثم تحركوا باستقلالية، فاختلفوا نسبيا مع واشنطن. فى ذات الوقت فإن النهم الشديد للسلطة والاستفراد بها، الذى جسده سلوك قيادات الإخوان فى مصر، بالتزامن مع العجز والجهل الفاضح بإدارة شئون البلاد والعباد، وضعهم فى مواجهة الجميع. وكانت ذروة الصدام فى الثلاثين من يونيو 2013 وما تلاه من أحداث. الآن هناك من يرى أن الاسلاميين فى العالم يعيشون، منذ سقوط حكم “الاخوان المسلمين” فى مصر يوم 3 يوليو 2013، ما عاشته الحركة الشيوعية العالمية عقب تفكّك الاتحاد السوفيتى فى الأسبوع الأخير من عام 1991 إثر سنتين ونصف السنة من هزيمة موسكو فى الحرب الباردة ومن ثم تفكك الكتلة الشرقية: شعور بالهزيمة السياسية والفكرية مع عدم القدرة على تقديم بديل فكرى - سياسى يتجاوز حالة الهزيمة إلى حالة جديدة، كما فعل لينين بعد صدمته بالحزب الاشتراكى الديمقراطى الألمانى عندما وافق فى أغسطس 1914 على اعتمادات الحرب التى طلبتها الأركان الألمانية حيث قام بتأسيس بديل فكرى - سياسى عن “الأممية الثانية”. تفاوتات متباينة وفى هذا السياق تدلل المقارنة بين سلوك تنظيمات الإخوان المسلمين فى المنطقة على أن التنظيم المصرى هو الأكثر جمودا والأشد استعطاء على التطوير، هذا على الرغم من كونه، «التنظيم الأم» الذى تفرعت عنه، أو استلهمته عشرات التنظيمات فى المنطقة والعالم. ولعل ذلك كان سببا رئيسيا فى لجوء البعض لتلك المقارنة السابقة، بما تنطوى عليه من درجة ما من التعميم الذى لا يلتفت إلى التفاوت الواضح بين تلك التنظيمات فى درجة الاستعداد للتطور، ومراجعة المواقف للحفاظ على مواقعه، وتجنب الكارثة، أو ما يسمى فى أدبيات ذلك التيار ب«المحنة». وإذا كان الفرق بين ممارسات الإخوان فى مصر، وحركة النهضة فى تونس هو أبرز المؤشرات على هذا التفاوت فى الوقت الراهن. فهذا ليس المؤشر الوحيد، كما أنه ليس الأول من نوعه، ولن يكون الأخير أيضا! فالاستعداد للمراجعة قبل الإرتطام بالحائط، الذى أظهرته حركة النهضة فى تونس (ومن ثم حصلت على نحو ثلث مقاعد مجلس النواب فى انتخابات أكتوبر الماضى، وتمكنت من تقليص خسائر أكبر بكثير كانت مهددة بها) سبقها إلى ذات النهج إخوان الجزائر» حركة مجتمع السلم» الذين رفضوا العنف خلال العقد الدموى الذى نتج عن الصدام بين السلطة الحاكمة وجبهة الانقاذ، فى أعقاب الانتخابات النيابية فى عام 1992. ولهذا ظلت «حركة مجتمع السلم» منذ أيام زعيمها «محفوظ نحناح» رقما مهما فى كل الإئتلافات الحكومية التى تشكلت فى الجزائر منذ منتصف التسعينيات تقريبا وحتى وقت قريب. وفى السياق ذاته، تدلل ممارسات «جمعية المنبر الإسلامى» فى البحرين على أن الإخوان هناك من أكثر التنظيمات الإخوانية فى منطقة الخليج استعدادا للتطور. كذلك الحال وأكثر بالنسبة لحزب العدالة والتنمية فى المغرب، وإن كان هذا الحزب لا يعد من تنظيمات الإخوان التقليدية، مثلما هو الحال فى الجزائروتونس المجاورتين. لكن بالمقابل، يبدو تنظيم إخوان الأردن هو الأكثر شبها بالتنظيم المصرى، وذات الأمر ينطبق على إخوان فلسطين (حركة حماس) وثيقى الصلة بالتنظيم الأردنى. فالفريق الأول لم يستفد كثيرا من مزية التمتع بالمشروعية القانوية منذ تأسيسه فى أربعينيات القرن الماضى، وامتداد تلك المشروعية إلى ذراعه السياسية «جبهة العمل الإسلامى». ولهذا استمرت علاقته مع السلطة الأردنية تراوح بين التعاون والصراع. ومع أحداث وتطورات «الربيع العربى» اتجهت العلاقة أخيرا إلى تباعد وتوتر غير مسبوق. بل أن ثمة معلومات وتقارير عن تورط عناصر من تنظيم إخوان الأردن، فى المخطط الذى تباشره الآن حركة حماس بهدف «عسكرة الضفة الغربية». ولعل ذلك يفسر حملة الاعتقالات غير المسبوقة التى باشرتها السلطات الأردنية مؤخرا، ضد بعض قيادات وكوادر إخوان الأردن. أما الفريق الثانى الذى ارتبط بإخوان الأردن وجمعهما وعاء تنظيمى واحد هو «إخوان الشام» قبل أن ينفصلا إلى (إخوان الأردن – حركة حماس) فقد ظل يعيد انتاج الكثير من أخطاء التنظيم الأردنى فى مناسبات مختلفة... والشاهد أن حركة حماس، بعد عام من سقوط حكم الإخوان فى مصر، حسمت أمرها، ويممت وجهها مؤخرا شطر إيران، وبذلك تكون قد راهنت على حل مأزقها المستفحل، بذات الأفكار القديمة والأدوات التى لم تعد صالحة للإستخدام، وذلك بدلا من إدارة فشلها على نحو ما قامت به «النهضة» من مهارة وحنكة، حفظتا لها ماء الوجه ووفرتا عليها مزيداً من الخسائر. نموذجان متعاكسان وهكذا فنحن أمام نموذجين ملموسين ومتعاكسين فى إدارة الفشل، الأول تقدم فيه «النهضة» مثالاً جيدا للخروج من المأزق، أو على الأقل تخفيف حدة الخسائر التى لا مفر منها، فيما تقدم «حماس» فى المقابل قصة أخرى من التحجر الفكرى والتخبط السياسي، فضلاً عن الخطاب «الخشبي» الذى بات يحكم سلوك الجماعة الأم فى القاهرة. المقصد من كل ما سبق، أننا أمام ممارسات متباينة، واستعدادات متفاوتة للتطور من قبل تنظيمات الإخوان والإسلام السياسى. وهذا معناه فى الحاصل الأخير أنه ورغم العاصفة التى هبت على تنظيمات الإخوان بالمنطقة خلال العامين السابقين، ثمة حضور بدرجات مختلفة لا يزال ملموسا لتلك التنظيمات فى الواقع السياسى العربى. هذا الحضور وإن انعدم فيه البعد المبادراتى فى تشكيل التفاعلات السياسية العربية والإقليمية، لكنه بالتأكيد ما يزال ملموسا، على الأقل كمادة للسجالات العربية – العربية. تجليات ذلك واضحة، منها على سبيل المثال التفاوت الملموس فى درجة إلتزام الأنظمة العربية بالقائمتين الإماراتية او السعودية للإرهاب، التى أعلنت مؤخرا، وإن كان ثمة تضييق مقارنة بحرية الحركة التى تمتعت بها فى فترات سابقة. وكذلك فى التوترات الطارئة فى علاقات المغرب مع كل من مصر والإمارات العربية المتحدة، لكن تم حلها مؤخرا. غير أن الدعم الإقليمى للإخوان المسلمين قد تراجع كثيرا مقارنة بحالة الصعود التى برزت فى مرحلة ما بعد الحراك الثورى فى عام 2011.