لا شك أن الأمة الإسلامية تعانى انحطاطا فكريا أصاب الخطاب الدينى إما بالجمود على القديم وإما بالجحود له, وسارت عجلة التقدم تتعثر ما بين جامد لا يرضى أن يدخل أقل تعديل على أصول التعليم الإسلامي, وجاحد يحمل الناس على إنكار ماضيهم وإعلان البراءة منه. وضل الناس فى سعيهم طويلا ناسين أن رسولهم الأكرم قد أنار لهم السبيل حينما قال صلوات ربى وسلامه عليه “الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها”, وبذا ربط رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين القديم والحديث, باختيار أحسن ما فيهما والعمل به. ولم يكن أول لفظ يتنزل به الوحى على رسول الله صلى الله عليه وسلم “اقرأ” إلا دعوة مدوية إلى العلم بكل فروعه الدينى والدنيوي؛ فلا عمل دون علم, ولا علم لمن لا ينتفع به, وقد أكد القرآن الكريم هذا المعنى مرارا بعطفه العمل الصالح على الإيمان “الذين آمنوا وعملوا الصالحات” حتى يكاد هذا العطف يكون مقترنا على الدوام فى القرآن ليلفتنا الله إلى أنه لا إيمان دون عمل صالح ولا عمل صالحا إلا بالإيمان, فالعلم والعمل فى القرآن الكريم مقترنان ومتلازمان, وكذلك فى سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إنك لا تستطيع أن تجد خطا فاصلا فى كل أفعال رسول الله بين النظرية والتطبيق؛ ليؤكد لنا الإسلام أن النهضة لدى أى أمة تقوم على عمودين اثنين هما العلم والعمل.
التربية هى السبيل
وحينما تكون التربية هى السبيل لتقويم السلوك وتهذيب الأخلاق، وتكون المعرفة هى السبيل لإنارة العقل وإعمال الفكر وانشراح الصدر، يبرز دور العلماء والتربويين كجناحى نهضة وقاطرة تقدم لأى مجتمع من المجتمعات.. ولم لا، وقد اهتم الإسلام بالعلم اهتماما شديدا، وأكد طلبه وإن قطعنا فى سبيله آلاف الأميال.. وهو ما دعا علماء الأزهر للاهتمام بالعلم والمطالبة بعودة الهيبة والمكانة الملائمة للعلماء باعتبارهم الوعاء الذى يحوى سر تقدم الأمم ونهضة الشعوب، وهو العلم الذى يحملونه فى صدورهم.
والعلماء كما يوضح الدكتور حلمى عبد الرءوف أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر هم أشد الناس خشية وخوفا من الله تعالي، فقال تعالى “إنما يخشى الله من عباده العلماء”.وهم أيضا أعلى مكانة عند الله عز وجل، فقال تعالى “يرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات”، وجعل الله تعالى العلم النافع هو أحد الأمور الثلاثة التى تبقى لصاحبها بعد وفاته ومفارقته الدنيا، فقال صلى الله عليه وسلم”إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له..”.
والرسول صلى الله عليه وسلم يبين فى أحاديث كثيرة فضل العلماء، وكفاهم شرفا أنهم ورثة للأنبياء، فقال “العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر”، وقال أيضا “إن العالم ليستغفر له من فى السموات والأرض حتى الحيتان فى الماء..”.
العلوم الشرعية والتجريبية
ويبين د. حلمى أن تكريم الله تعالى للعلماء واحتفاءه بهم ليس مقصودا به علماء العلوم الشرعية فقط، بل يشمل أيضا كل عالم يقدم خيرا للبشرية بعلمه فى أى من مجالات الحياة المختلفة, طب، هندسة، سياسة، وغيرها. فالناس إذا كانت بحاجة إلى العلوم الشرعية لمعرفة الله وكيفية عبادته بالوجه الذى يرضيه، فهى أيضا بحاجة إلى أن تتعرف على علوم الدنيا التجريبية حتى يحقق الإنسان رسالته فى هذا الكون من عمارة الأرض وعبادة الله عز وجل.
ولفت د. عبد الرءوف إلى أن أعضاء هيئة التدريس والمعلمين بالمدارس والجامعات وجميع المراكز والمراحل التعليمية هم بمثابة العلماء لتلاميذهم بحسب تخصصاتهم وفى حدود ما يقدمونه من مناهج ومقررات، ومن ثم يجب على الطلاب والمتعلمين بشكل عام توقير معلميهم واحترامهم لنهل ما يحملونه من علم، وفى المقابل على المعلم أن يعلم أن ما يقوم به من عمل ليس مجرد وظيفة يؤديها ليتعاطى عليها راتبا فى نهاية الشهر فحسب، بل هى رسالة تربوية وتعليمية ودعوية يسأله عنها الله عز وجل ويثيبه عليها بقدر إخلاصه فيها وإتقانه لها، خاصة أن تأثير المعلم فى الطالب قد يفوق أحيانا تأثير الأب أو الأم.
وأشار إلى أن العالم الذى يعلم الناس أمور دينهم، عليه عبء مضاعف فى أن يكون نموذجا وقدوة لغيره، ومثالا عمليا لما يدعو غيره إليه ويعلمهم إياه، فلا يليق بمن يعلم الناس أن يدعوهم إلى سلوك معين ويفعل هو غيره أو أن يحذرهم من أمر ويقع فيه، فذلك من الآفات التى يقع فيها بعض الدعاة والعلماء والمعلمين، لاسيما أن السلوك والعمل هو أقوى أساليب الدعوة والتعليم، وإن لم يقصد صاحبه ذلك. لذلك يجب على العلماء أن يعوا عظم المسئولية الملقاة على عاتقهم.
سر التقدم
ويوضح الدكتور زكى محمد عثمان أستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة الأزهر، أن العلم فى أى أمة يعنى التقدم والحضارة والفكر وإعمال العقل، وحينما ننظر إلى أسس الحضارة ومفاتيحها نجد أن المفتاح المهم والأساس الركين هو العلم، لأن العلم يدعو إلى الإيمان، وإلى التبصر والتذكر، وبه نتعرف على الله، وسبيل الوصول إليه سبحانه.
وأضاف: لكننا للأسف الشديد مررنا بظروف عاصفة نالت من مكانة العلم والعلماء نتيجة البعد عن الوعى العلمى والثقافة المعرفية، ولعل ما ساهم فى ذلك على المستوى التعليمي: ظاهرة الدروس الخصوصية، واعتماد التعليم على الحفظ و التلقين وانحسار العلاقة بين المدرس والطالب إلى علاقة نفعية، المعلم يريد المال والطالب يريد أن ينجح، ولا عزاء للتربية والقدوة والسلوك القويم. ومن هنا فقد المعلم هيبته ودوره الرئيس لانشغاله بالمادة.
والطامة الأكبر حينما نصاب فى منظومتنا الدعوية، وتهتز الثقة بعلماء الدين، حيث فقد بعض العلماء مكانتهم وتوقير الناس لهم يوم أن بحثوا عن الشهرة والمال والاشتغال بالسياسة، وعملوا خدما للأنظمة وسيسوا آراءهم وعلمهم الذى بين صدورهم، فضلا عن تقدم أدعياء العلم وأنصاف المتعلمين ومحاولة إيجاد فرصة لهم فى منابر الإعلام والفضائيات عن طريق استغلال خلاف فقهي، أو استدعاء الغريب والشاذ من الآراء. ومن ثم أصبحنا نعيش حالة من الانفصام النكد بين كثير من العلماء ومن يتلقى عنهم العلم الشرعى من جهة، وبين المعلمين وتلاميذهم من جهة أخري.
عودة الثقة
لذا فلابد علاج هذا الخلل وعودة الثقة والاحترام للعلماء والمعلمين عبر ثلاثة محاور مهمة، هي: بيان قيمة العلم، وبيان قيمة المعلم، وبيان قيمة المتعلم. والتركيز على الدور التربوى فى مراحل التعليم الأساسية، على أن تدعم الدولة العلماء والمعلمين ماديا ومعنويا حتى تنهض أولا، وحتى يتمكن كل من العالم والمعلم من أداء رسالته دون ضغوط أو انحراف.
كما يجب على الإعلام أن يسهم فى ذلك بإبراز قيمة العالم والمعلم كما ينبغى لها، وعدم المتاجرة بخلافات العلماء، مع تجنب تصدير أى صور سلبية عن الشيوخ والعلماء والمعلمين، وهو ما وقعت فيه بعض قصص الدراما والسينما.
وشدد على ضرورة توقير العلماء واحترامهم، وحذر من التطاول عليهم مؤكدا أنه لا يجوز تتبع زلات العلماء أو الخوض فى أعراضهم أو الطعن فيهم وتجريحهم، أو تحريف أقوالهم أو تقديم الشاذ من آرائهم بقصد الإساءة إليهم، وغيرها من صور الإساءة، لأنه كما يقول ابن عساكر رحمه الله: إن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله فى هتك أستار منتقصهم معلومة، وإن من أطلق لسانه فى العلماء بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب.