لايزال هناك الكثير من القضايا التى حُسمت منذ أكثر من أربعة عشر قرنا، يستدعيها البعض اليوم بهدف إثارة البلبلة والفتنة والاختلاف بين ابناء المجتمعات العربية المسلمة، حيث يتكرر الحديث اليوم بين بعض الشباب المنتمى الى التيار الاسلامى بشأن قضية الانتماء للوطن او الانتماء الوطنى، ويرون أن الانتماء لا يكون إلا للدين فحسب، بمعنى ان الانتماء الذى يعنى الانتساب والولاء لا يكون إلا على اساس الدين. صحيح ان الانتماء والموالاة التى هى لازمة من لوازم الانتماء يجب ان يكون للدين، إلا انه من الصحيح أيضا ان الانتماء للدين لا يتعارض مع الانتماء للوطن، بل الاخير جزء اساسى لتحقيق الاول، فلا يمكن ان يتحقق انتماء الانسان لدينه دون ان يكون منتميا لوطنه ولأسرته. وحتى تتضح الصورة بجوانبها كافة، نشير إلى نقاط عدة تُجلى هذه القضية برؤية تصحيحية لمفاهيم وتصورات سادت بين البعض حتى اعتقد انها من الدين وصحته، فى حين ان الدين منها براء، ومن هذه النقاط ما يلى: أولا- ان الانتماء الأكبر والأساسى هو الانتماء للدين، ثم يتفرع منه الانتماءات الأخرى، ومنها الانتماء للوطن، فلا تعارض بين هذه الانتماءات، بل يكمل كل منها الآخر ويعضده، فإذا انتمى الفرد لأسرته وأهله، فلا بد أن ينتمى لوطنه، وهذا نابع من انتمائه لعقيدته وقيمه وثقافته الدينية. فالفهم الاسلامى الصحيح لمعنى الانتماء إلى الوطن يجعل من الوطن فكرة متشكلة فى العقل والوجدان وليس مجرد رقعة من الارض يعيش المسلمون عليها. وهنا مربط الفرس، فكيف للذين يخرجون اليوم باسم الدين يخربون البلاد ظلما وعدوانا واعتداء على المؤسسات العامة والخاصة وارهاب وترويع الآمنين وقتل الناس أن يعتقدوا بأن هذا يخدم الدين او الوطن، بل يخدم اطماعهم وطموحاتهم فى الحصول على المناصب السياسية وكراسى الحكم، وهو ما حذر منه القرآن الكريم فى قوله تعالى: «الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا». ثانيا- تحقق الأوطان مصالح ابنائها وشعوبها، وهى مصالح جوهرية تتعلق بوجود الإنسان وحاجاته ومقومات حياته بما فيها أمنه، وبفقد الأوطان يختل هذا النظام، ويتهدد وجود الإنسان، حيث تتنشر الفوضى والمخاطر والهلاك والدمار، وهو ما يتعارض مع مقاصد الشريعة الاسلامية التى جاءت لتأمن مصالح الانسان وتحقق سعادته وتضمن توفير أسباب وجوده، وتمنع الاعتداء عليه وعلى ممتلكاته واحترام خصوصيته، بما يستوجب أن تكون هناك أوطان يتحقق فى ضوئها مقاصد الشريعة، فالوطن هو السفينة التى يجب على الجميع الحفاظ عليها حتى تنجو وننجو معها، ولو تركنا من يعبث فيها لهلكت السفينة وهلك كل من فيها، فهل يكون حبنا للوطن صادقا ونحن نترك من يدمره ويعبث بمقدراته وشئونه ويهدد أمنه واستقراره تحت دعاوى خادعة وشعارات مضللة؟ ثالثا- تحمل لنا السيرة النبوية الشريفة مثالا رائعاً يجسد مكانة الأوطان فى الإسلام وذلك عندما خرج الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مهاجراً من مكةالمكرمة الى المدينةالمنورة بكى ونظر الى مكة وقال كلمته المشهورة «والله إنك لأحب بلاد الله الى الله وأحب بلاد الله الى نفسى ولولا أن أهلك أخرجونى منك ما خرجت»، فيستدل على ذلك أن خروجه فى سبيل الله لتبليغ الرسالة لم ينسه حب وطنه، حيث ظل قلبه يتجه نحو مكة التى ولد وعاش فيها حتى نزل عليه قول الله تعالى «إن الذى فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد»، فكان فتح مكة والمعاملة الانسانية الرائعة فى التعامل مع اهلها رغم كل ما صدر منهم بحقه وحق اصحابه هى المثل والنموذج الذى يجب ان يتعلمه شباب اليوم فى كيفية التعامل مع أهلهم واخوانهم فى الوطن. رابعا- يؤكد ما سبق ان للوطن قيمة ومكانة سامية فى الدين، وأن الانتماء إليه ليس مجرد شعارات أو كلمات أو ترف أو رفاهة، بل هو حب وإخلاص وفداء وتضحية، بل الأكثر من ذلك، فقد جعل الإسلام حب الوطن والانتماء له جزءا من العقيدة وجعل الدفاع عن ترابه واجبا مقدسا امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم: «من قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد»، وهو ما يعنى أنه لا يجوز لمسلم أن يخون وطنه أو يبيعه مهما يكن الثمن، كما لا يجوز الاعتداء عليه والنيل من مقدراته والعبث بممتلكاته، مهما يلق الإنسان من ظلم وقهر، لأن الظلم يكون من إنسان مثله وليس من الوطن، فالأوطان لا تستحق من أصحابها ما نراه اليوم من عبث وتخريب وتدمير مهما يرفع المعتدون من شعارات إصلاحية ودعوات خادعة عن التطوير والتنمية، فهل يمكن ان يبدأ الإصلاح بالإفساد فى الأرض وتدمير الأوطان؟ جلية القول إن الوطن بمفهومه الواسع وهو الانتماء الى الدين لا يلغى ولا يتعارض مع الوطن بمفهومه الاقل اتساعا وهو الانتماء الى رقعة الارض التى ولد ونشأ وترعرع فيها الانسان، فقد اودع الله فى داخلنا جميعا حب الوطن وجعله من الفطرة التى فطر الناس عليها. لمزيد من مقالات عماد المهدى