المحبة للأوطان والانتماء للأمة والبلدان أمر غريزى وطبيعة فطر الله الناس عليها، وحين يولد الإنسان فى أرض ويشرب من مائها ويتنفس هواءها ويعيش بين أهلها يحبها ويواليها ولقد اقترن حب الأرض بالنفس فى القرآن الكريم، قال تعالى " وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ" إن ترتيب “الدين أولاً والوطن ثانياً” لهو ترتيب بين ما لا يمكن الترتيب فيه، ويعنى وبكل بساطة، إلغاء مفهوم الوطن، وهو الأمر الذى تقع فيه حركات الإسلام السياسى فتجرّ الويلات والإرهاب على البلاد والعباد، والشواهد الحية ماثلة للعيان. فهم يغتالون فكرة الوطن ويختزلون الحياة كلها فى الدين، رغم أنهما صنوان لا يفترقان ويتعانق كل منهما مع الآخر. وأكد العلماء أن إثارة قضية الدين والوطن تبديد للجهود وإضعاف للإسلام وإشغال للمسلمين، وأن طرح هذه القضايا مقصد ماكر وخبيث لأعداء الدين والأمة الإسلامية. ويقول الدكتور زكى عثمان الأستاذ بكلية الدعوة الإسلامية بجامعة الأزهر: لقد فات هؤلاء وأولئك أن الدين “وسط” (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ), والوسط يعنى الاعتدال والاعتدال يفضى إلى التوازن والتوازن إذا اختل اختل معه بالتبعية الدين. والتوازن يعنى أنه لا ترتيب بين الدين والوطن, فكلها دوائر تجرى فى أفلاك هذا الكون لتحصل حركة الحياة والدين معا. وعلى دعاة الدين أن ينتبهوا إلى ذلك المزلق الذى يقعون فيه دون قصد, فإن دعواهم بتقديم الدين على الوطن تسلب هجرات الأنبياء إعجازها. فما الهجرة إلا ترك ما تحب “الوطن” لما يأمرك به الله. أفلا ترى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مهاجر يقول عن مكة:” أَمَا وَاللَّهِ لأَخْرُجُ مِنْكِ ، وَإِنِّى لأَعْلَمُ أَنَّكِ أَحَبُّ بِلادِ اللَّهِ إِلَيَّ وَأَكْرَمُهُ عَلَى اللَّهِ ، وَلَوْلا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِى مَا خَرَجْتُ “.وحينما حل بالمدينة قال صلى الله عليه وسلم:” اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ “. تلك خلجات نفس النبى صلى الله عليه وسلم التى تهفو إلى وطنه الأم “مكة” تنازعها خطرات العقل التى ارتأت هجران الأرض التى ضيق عليه فيها. ألم تر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعرض للقوافل والقبائل منذ العام الرابع للبعثة طالبا إليهم أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأطفالهم. فتلك خطرات العقل التى كانت تتنازع رسول الله صلى الله عليه وسلم غلبتها خلجات النفس بحب الوطن إلى أن أمر بالهجرة فى العام الثالث عشر من بعثته. ثم إن الله عز وجل يقول فى كتابه العزيز (إِنِّى جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً) فحدد المكان “الأرض” دون أن يحدد الزمان ودون أن يحدد الدين. والخلافة تقتضى أرضا وشعبا ودينا يحكم حركة الحياة وينظمها فى اعتدال واتزان وتوسط, فلا تعارض ولا تنافر ولا تصادم ولا ترتيب بين الدين والوطن؛ وإنما هى دوائر محكمات تسلم كل دائرة إلى أختها فتتم حركة الحياة والدين معا. إن القرآن يصور الوطن أعظم تصوير حينما يتحدث عن الأرض باعتبارها ميراثا حضاريا فيذكر الأرض أكثر من 450 مرة, والوطن مبنى على التعاون والتآلف والتعارف والتراحم قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا). ولا بد للوطن أن يكون له وجود من خلال قانون الاستخلاف الذى لا يميز إنسانا عن إنسان ولا مسافة عن مسافة, ذلكم الوطن الذى يعرفنا ويعلمنا حقيقة الدين الذى يعرفنا حقيقة الوطن؛ فإنها دوائر متداخلة لكنها سهلة ميسرة، لأن الذى خلق الوطن هو الله والذى أنزل الدين هو الله. أما الدكتور محمد الشحات الجندى، عضو مجمع البحوث الإسلامية وأستاذ الشريعة بكلية الحقوق، فيقول: لا شك أن من المفاهيم الخاطئة التى شاعت بين البعض من مثقفينا أن الاستمساك بالدين يكون على حساب الوطن وخصما من رصيده, ولعل ما يجعل لهذه المقولة شيئا من الذيوع والشيوع ما يردده بعض علماء الدين بأن الدين ينبغى أن تكون له الأولوية على كل ما عداه وهذا حق, ويختزلون الحياة كلها فى الجمود على هذه المقولة واستبعاد حق الوطن وحق المخالفين فى العقيدة من أبناء الوطن, ولو كان ذلك من صميم الاستمساك بالدين ويذهبون فى هذا المسار إلى الحد الذى يغتالون فيه فكرة الوطن ويختزلون الحياة كلها فى الدين حتى لو تمت التضحية بكل استحقاقات الحياة التى جسدتها ثوابت الإسلام وشريعته التى جاءت رحمة للعالمين وإسعاد الناس فى دنياهم وأخراهم على سواء. وهذا ما نجده فى قول البعض منهم “وطنى عقيدتى”, ومن ثم فإن هذا الوطن الذى احتضن الدين وصان أتباعه وأقام به الإسلام دولته, وجعل الإقليم أو الأرض مصدرا وملاذا ضد من يريدون الاعتداء على الإسلام بمهاجمة أوطانه وبلاده واعتبر ذلك أساسا من أسس الجهاد التى بها تحيا الأوطان ويتوحد أبناؤه من المسلمين وغير المسلمين فى سبيل الذود عنه مع احتفاظ كل من المسلم وغير المسلم بخصوصيته وعقيدته دون تعارض ولا تصادم. وهذا ما يجعل إشكالية المواجهة بين الدين والوطن إشكالية مفتعلة فى منظور الإسلام برهانها ما جاء فى القرآن الكريم من الحديث عن الدار بمعنى الوطن فى قوله تعالى (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ). والملحظ فى النص الكريم أنه قدم الدار وهى الوطن على الإيمان وهو العقيدة والشريعة والأخلاق والحضارة باعتبار أن هذه الدار أو الوطن بالتعبير العصرى هو مركز الإشعاع الذى انطلق منه الإسلام فى مكةوالمدينة على التوالى إلى كل بقاع العالم وحمل رسالة الحق والعدل إلى الإنسانية كلها فى تناغم بين الإسلام والوطن وهو ما يشهد له الأثر “حب الأوطان من الإيمان”. وأضاف: إن إثارة مثل هذه القضية والتناحر حولها تبديد للجهود وإضعاف للإسلام وإشغال للمسلمين بقضايا يفترض أنها محسومة لمصلحة التلازم بين الإسلام والوطن, الأمر الذى يجعل طرح هذه القضايا وتعمد إثارة الخلاف حولها ولى بعض النصوص لمصلحة التناقض بين الإسلام والوطن مقصدا ماكرا وخبيثا لأعداء الدين والأمة الإسلامية. ويجدر بدعاة الإسلام أن يفطنوا لهذا الأمر, وأن يصححوا المفاهيم حوله, وأن يجتهدوا لنشر الثقافة الإسلامية السديدة حول موضوع يقرر قطعا التلازم بين الدين والوطن, وأن الوطن هو حاضن الدين الإسلامى بل يتعانق كل منهما مع الآخر.