بمشاركة كثيفة، وبنجاح تنظيمى مبهر، احتضنت مدينة مراكش المغربية أخيرا القمة العالمية الخامسة لريادة الأعمال لعام 2014، بمشاركة أكثر من ستة آلاف فرد من المبدعين والمبتكرين الشبان من مختلف دول العالم، من بينها مصر، فضلا عن ممثلى كبرى الشركات الأمريكية والعالمية، وذلك تحت رعاية الملك محمد السادس عاهل المغرب، وبحضور الوزير الأول عبد الإله بن كيران، وعدد كبير من وزراء الحكومة المغربية وكبار المسئولين والسياسيين الأمريكيين، يتقدمهم جوزيف بايدن نائب الرئيس الأمريكى، وبينى بريتسيكر وزيرة التجارة، فضلا عن شخصيات عامة ومرموقة فى مجال الأعمال من أبرزهم رجل الأعمال المغربى الأشهر عثمان بن جلون. أعمال القمة استمرت ثلاثة أيام وأقيمت فى ساحة فسيحة للمعارض العالمية، أقامتها الحكومة المغربية بالقرب من أسوار مدينة مراكش القديمة للمزج بين العصر التكنولوجى الحديث والتاريخ القديم، وكان شعار القمة "تسخير التكنولوجيا لخدمة الإبداع وريادة الأعمال". كما أقيم على هامش القمة يوم خاص للمرأة للحديث عن أبرز التجارب العالمية للمرأة فى مجال ريادة الأعمال، ودول المجتمع المدنى ومجتمع الأعمال فى دعم المشروعات النسائية، وبخاصة الصغيرة والمتوسطة. قاعات المؤتمر كانت على مدى ثلاثة أيام أشبه بخلايا النحل، آلاف المبدعين والموهوبين المختارين بعناية من دول عربية وإفريقية، جاءوا ليعرضوا أفكارهم واختراعاتهم وتجاربهم الناجحة فى مجال ريادة الأعمال أمام ممثلى الشركات الأمريكية الباحثة عن نقل تجاربها لهؤلاء المبدعين الشباب لتطوير أنفسهم، إما فى جلسات عامة أو فى موائد مستديرة أو غير ذلك، وفى الوقت نفسه، الكشف عن الموهوبين الواعدين الذين يستحقون الدعم المالى، أو ربما ترشيحهم لمزيد من البرامج التأهيلية فى الخارج. انطلاقة المؤتمر كانت نسائية صاخبة، وتحديدا فى اليوم الذى سبق الافتتاح الرسمى، حيث قدمت مجموعة منتقاة من رائدات الأعمال من دول عربية وإفريقية عرضا شيقا لمشروعاتهن التى نالت استحسانا كبيرا من ممثلى الحكومة والشركات الأمريكية الذين يبدو أنهم "فوجئوا" بهذا المستوى الإبداعى الراقى الذى وصلت إليه سيدات الأعمال فى تلك المنطقة. وخلال أعمال هذا اليوم، وما بعده، شاركت جيل بايدن زوجة نائب الرئيس الأمريكى "السيدة الأمريكية الثانية" فى نقاش حماسى ممتع مع مجموعة من سيدات الأعمال وممثلى الشركات، حول سبل زيادة وتقوية دور المرأة فى مجال قطاع الأعمال، خاصة أن البيانات الصادرة عن منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية أشارت إلى أن معدل مشاركة المرأة فى سوق العمل فى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هو الأقل من نوعه فى العالم، إذ تعمل 12% من السيدات فى مجال الأعمال الحرة، مقابل 31% من الرجال. ومن أبرز قصص النجاح النسائية التى استعرضها المؤتمر قصة سيدة أعمال مغربية أسست شركة لإنتاج الشموع التى تعمل فيها 30 امرأة وخمسة رجال، وتصدر جزءا كبيرا من إنتاجها إلى أوروبا، وتقوم بالعمليات التسويقية لمنتجاتها عبر وسائل حديثة - كما شرحت هى تجربتها - من خلال الفيس بوك والواتس آب. وهناك قصة "إسراء" الفتاة المصرية الريفية البسيطة التى فازت بالمركز الثانى فى مسابقة رائدات الأعمال عن اكتشافها طريقة لمعالجة مياه الصرف الصحى بالتكنولوجيا الحيوية، أى بحقنها بالبكتيريا، للتخلص من المواد السامة بها، وبالتالى تحويلها إلى مياه صالحة للرى. ولكن كل هذه الأمثلة لم تمنع بسيمة حقاوى وزيرة التضامن والمرأة والأسرة والتنمية الاجتماعية المغربية من الحديث عن المشكلات التى تعترض عمل المرأة فى مجال الأعمال، فأكدت أن هناك تحديات تواجه المغربيات فى هذا المجال، مثل ضعف التمويل، ونقص الثقة فى المرأة من جانب البنوك تحديدا. ومن أهم أحداث المؤتمر كلمة العاهل المغربى الملك محمد السادس فى الافتتاح الرسمى التى ألقاها نيابة عنه الوزير الأول بن كيران، والتى حذر فيها من خطورة استخدام التكنولوجيا الحديثة ووسائل الاتصال المتطورة فى نشر الأفكار المنحرفة أيديولوجيا، كالتطرف وخلافه، ولكنه مع ذلك دعا إلى تمكين الأجيال المقبلة من منظومة تربوية تتجاوز عملية "التراكم"، ونقل المعارف إلى الانتقال لتشجيع روح الإبداع والابتكار والتفاعل. ومن المصادفة أن كلمة العاهل المغربى تحدثت عن ضرورة التفكير بشكل مختلف كأساس لنجاح الأعمال، حيث قال : "إن صاحب المبادرة فى مجال الأعمال هو الذى يسلك المسارات غير المألوفة ويتحدى الوضع القائم ، بل إنه يبادر دون تردد إلى الإجابة من موقعه على حاجيات لم يتم تحديدها بعد أو لم تتم الاستجابة لها"، وهو نفس ما تضمنته كلمة بايدن التالية مباشرة من مفهوم "التفكير بشكل مختلف" ، حيث قال بايدن بلهجة حماسية أمريكية : "يجب على الحكومات أن تشجع روح الابتكار، وعلى الشباب أن يفكروا بشكل مختلف ، يجب أن يحققوا ما يريدونه فى مجتمعاتهم حتى لا يضطروا إلى الهجرة، وأيضا ليكونوا أقل عنفا وتطرفا". ولكن أخطر ما فى كلام بايدن والقمة كلها ما أعلنه على وقع الهتافات الصاخبة من الأمريكيين الحاضرين للمؤتمر عن إطلاق مبادرة "كريستوفر ستيفنز" للتبادل الافتراضى، أو تعزيز التبادل والتواصل عن بعد بين الشباب الأمريكى ونظرائهم فى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهذه المبادرة ستحمل هذا الاسم تكريما لاسم السفير الأمريكى السابق فى ليبيا الذى اغتيل فى سبتمبر 2012 فى بنغازى. وقدم بايدن عبارات تشجيعية بشأن هذه المبادرة، مثل قوله إن أكثر من مليون شاب سيستفيدون منها، وأن الشركات الأمريكية ستوفر الدعم ورأس المال اللازم لإنجاح المشروعات المبتكرة، ومثل قوله إن الجيل الحالى لديه فرصة للتطور أكثر من أى جيل سبق، وأن استخدام التكنولوجيا وتسخيرها لخدمة المجتمع هو الطريق الوحيد لتغيير الأوضاع وإيجاد فرص العمل ومحاربة الفساد، وقال أيضا إن الابتكار مغامرة وتحد ومخاطر، وليست جينات متوافرة لشعوب بعينها. توصيات المؤتمر كانت تتركز حول الدعوة لتوحيد جهود المساهمين فى شركات ومؤسسات القطاعين العام والخاص ومنظمات المجتمع المدنى لتحسين مناخ الأعمال وزيادة دور النساء فى مجال العمل الحر، غير أن كلمات بايدن أثارت الكثير من الاهتمام بين آلاف الشباب وممثلى وسائل الإعلام ورجال الأعمال أيضا. فأمريكا حرصت خلال المؤتمر على عرض الوجه الأفضل من صورتها، فلم تظهر بصورة الدولة القوية الكبرى التى تتدخل فى شئون غيرها، وتسعى لتغيير الأنظمة وتشعل الحروب هنا وهناك للاستفادة من تصدير الأسلحة والذخائر، وإنعاش تجارة الأدوية، وإنما ظهرت فى صورة الدولة العظمى التى تقوم حضارتها على العلم والتكنولوجيا. أمريكا التى شاهدها الحاضرون لقمة مراكش لم تكن أمريكا جوانتانامو، ولا أمريكا أبو غريب، ولا أمريكا الدولة الأولى فى تصدير السلاح فى العالم، ولا أمريكا الحرب على الإرهاب والطائرات دون طيار، ولكن ما شاهدناه كانت أمريكا المتطورة تكنولوجيا واقتصاديا والتى تمد يد المساعدة للمبتكرين والموهوبين من مختلف أنحاء العالم، لا النشطاء والمأجورين. أمريكا فى مراكش لم تقتحم المنطقة العربية ومنطقة شمال إفريقيا من "شباك" الربيع والتغيير السلمى أو اللاسلمى للحكام والأنظمة وإثارة الفوضى ومخططات التخريب والمؤامرات الدنيئة، ولكنها دخلت من الباب عبر تصدير العلم والتكنولوجيا والخبرات، وتحدثت عما تريده رسميا وصراحة ودون مواربة. صحيح أن كثيرين يمكن أن يفسروا ما فعلته أمريكا فى مراكش على أنه محاولة لشراء العقول العربية والإفريقية لتحقيق مصلحتها الاقتصادية، ولكن هذا على أى حال لو كان صحيحا لكان أفضل بكثير من نشر الأفكار والمفاهيم الغربية بالقوة والإكراه والتدخل فى شئون الآخرين عبر نافذة العولمة، بدليل أن كثيرا من الوفود المشاركة جاءت مراكش بترشيحات من السفارات الأمريكية فى العالم أو مكاتب شركات أمريكية كبرى، وهو ما يعنى أن واشنطن تشعر فى قراره نفسها بأنها تتصرف بشكل لائق هذه المرة، وأنها بالفعل عرفت كيف تأتى إلى المنطقة هذه المرة بالشكل الصحيح ، وتقدم الوجه الأفضل لها. ومع ذلك، فقد خرج كثيرون من المؤتمر يتشككون فى إمكانية أن تكون خطة "ستيفنز" مجرد ربيع جديد، ولكن هذه المرة "بالريموت كونترول"!