اطلعنى على تفاصيل امتحان المرور فى بلدك، اخبرك على الفور بقدر ما احرزه من تقدم ورقي، وبقدر صعوبته تلمس وتتأكد فعليا من حجم الاهتمام الحقيقى والصادق للحفاظ على اغلى وأثمن ثروات الأمم ممثلة فى البشر. اقول ذلك مع علمى بما يثيره الحديث عن فواجع وكوارث حوادث الطرق فى المحروسة من ذكريات مؤلمة، والألم يزداد ويضغط على مراكز الأعصاب، كلما طالعنا احصائيات عن قتلى الانفلات المرورى فى بلادنا العزيزة، وعجزنا التام عن العثور على حل يحفظ أرواح المصريين على الطريق، رغم كل ما تعلنه الجهات المعنية من قرارات وتحذيرات وتغليظ للعقوبات. وبما أن الحال هكذا فقد قررت أن اقص عليكم تجربتى الشخصية فى الحصول على رخصة قيادة من اليابان التى عشت فيها لخمس سنوات، علها تعطنا درسا مفيدا يرشدنا لسبيل الانتصار فى معركتنا مع أزمة مستعصية اسمها المرور. رحلتى بدأت باعداد المستندات اللازمة، ومن بينها شهادة من مالكة العمارة التى كنت أسكن فيها بوجود مساحة فى جراج العمارة لسيارتي، والشهادة مرفق بها خريطة توضح طول وعرض هذه المساحة ورقمها، فلا مجال للركن العشوائى فى الشارع صف واتنين وتلاتة، فى حين تستغل جراجات العمارات كمحلات تجارية، أو كمخازن ولا عزاء للسكان البؤساء الذين يتصارعون للفوز بركنة قرب المنزل، وهناك من يلجأ للبلطجة بوضع سلسلة فى موقع يختاره على هواه بدون أن يعترض احد، والاحياء مشغولة بما هو أهم من تحول شوارعنا لجراج كبير يفرض فيه القوى سطوته. بعدها اخذت موعدا لامتحان القيادة، وحينما ذهبت فى الوقت المحدد رأيت اليابانيين يراجعون ارشادات المرور، وبدا من مظهرهم أنهم يستعدون للقتال وليس لقيادة سيارة، وتلك ليست مبالغة لكننى شاهدت ما يعترهم من قلق وتوتر من تجربة رهبية يخوضونها، على كل جلست فى السيارة وإلى جوارى الشخص المسئول عن تقييمى ومنحى الدرجات الكفيلة بنجاحى أو رسوبي، وطلب منى الانطلاق بعدما تأكد من ارتدائى حزام الأمان قبل تشغيل السيارة. مكان الاختبار ليس بعض اقماع مرصوصة كيفما تيسر، وسيرى على بركة الله يانورماندى تو، وإنما صورة طبق الاصل من شوارع المدينة بتخطيطها واشاراتها، اتبعت حرفيا ما يطلبه إلى أن وصلنا لعنق الزجاجة، حيث دخلنا لطريق متعرج بالكاد يكفى لمرور السيارة، وتدلت على جانبيه اسياخ من الحديد، إذا لمست جسم العربة بعون المولى فقد رسبت، وسيتعين عليك طلب موعد أخر يكون فى الغالب خلال شهر، وستحصل على نفس النتيجة إذا لمست الرصيف، ما أن مررت حتى تنفست الصعداء، وأجبت على اسئلة الممتحن بشأن قواعد المرور والاشارات الموضوعة، وماذا سأفعل عندما تتعطل سيارتي، وأخيرا عدنا لنقطة البداية مزهوا بعدم ارتكابى أخطاء، وبدلا من سماعى كلمة مبروك اجتزت الامتحان فوجئت بفشلى فى اجتيازه، وردا على سؤالى عن السبب اخبرنى باننى نزعت حزام الأمان قبل اطفاء السيارة، وأنه يمكن أن يقود مثل هذا الخطأ البسيط لحادث وعندها لن ينفع الندم والحسرة. وفى الموعد التالى حرصت على الا اقع فى ذات الخطأ، وظننت أننى ناجح لا محالة إلى أن صدمنى الرجل باخفاقى للمرة الثانية، فقلت فيما اخطأت ياسيدى هذه المرة؟ الاجابة كانت بسرعة البرق باننى اكتفيت بالنظر فى مرآة الجنب لدى اعطاء اشارة بانحرافى يسارا ولم انظر فى المرآة الكبيرة المفترض أنها تكشف لى الطريق خلفى بكامله. ساورنى الشك للحظة أنهم يتعمدون اسقاطى لكونى أجنبيا لن يستطيع التماشى مع نظامهم الصارم، وصممت على التحدى وعدم السماح لليأس بالتسرب لنفسي، ومشحونا بالعزيمة والاصرار توجهت للموعد الثالث والذى كان حاسما حيث نجحت وغمرتنى السعادة، وقمت بعمل الاجراءات المتعلقة باستخراج الرخصة، وجلست منتظرا خروج الضابط لتسليمى وثيقة نجاحي، وما أن دخل القاعة خاطب الحضور بكلمات قليلة، لكنها دالة فقال: ( إن قانون المرور اليابانى لا يعرف الاستثناءات، وأن علينا توخى الحذر فاليابان ليست مستعدة للتفريط فى أبنائها والمخاطرة بحياتهم)، حينئذ فهمت أنهم لا يكترثون بجنسية طالب رخصة القيادة ولونه بل بقدرته على المحافظة على حياة مواطنيهم، فهم لا يريدون الرعونة والاستهتار، ولذلك لا يمنحون الرخصة الا لمن يثقون فى كفاءته للقيادة، وأكاد اجزم بأن امتحان المرور اليابانى اصعب بكثير من نظيره الأمريكى بشهادة العديد من الأمريكيين الذين يقيمون فى بلاد الشمس المشرقة. واختبرت عمليا صرامة قانون المرور اليابانى عندما ركنت سيارتى وسط المدينة ازيد من المدة المسموح بها، وسحبها الونش، ووجدت رقم هاتف مكانها، وقبل أن ادفع الغرامة البالغة نحو 300 دولار شرح لى الضابط الخطأ الذى وقعت فيه، وأن الركنة محددة بسقف زمني، وما أن دفعت الغرامة طلبت استرجاع سيارتى فابلغنى بأنها مركونة فى جراج عمومى قرب قسم الشرطة، وأنه على دفع قيمة انتظارها كنوع من قرص الودن، فالغرض من خلف مبلغ الغرامة الكبير اشعار المواطن بأن الخطأ غير مقبول، فالقانون سن لكى يكون واجب النفاذ والاحترام، ومن يخالفه سيكون عبرة لمن يعتبر. بالمناسبة العاصمة اليابانية مشهورة بزحامها الشديد، فمعروف أوقات الذروة صباحا ومساء، وتوجد شاشات عملاقة على مطالع الكبارى والطرق السريعة تبين الحالة المرورية، وكم من الوقت سيستغرق وصولك فى حالة وجود حادث أو عطل، ومهما كان الزحام خانقا لا يجرؤ كائن من كان على استخدام الحارة المخصصة للاسعاف ولسيارات المطافئ، ولن تجد من يعطل الحارة المقابلة لأنه يود مشاهدة حادث على الجانب الآخر، وبالطبع لن تفاجئك مطبات وحفر تتسبب فى عدد هائل من الحوادث المفزعة. لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي