أمس الأول كانت الذكرى 97 لوعد بلفور الشهير، الذى منحت بموجبه بريطانيا الحق لليهود فى إقامة وطن قومى لهم في فلسطين، بناء على المقولة المزيفة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، فكان بحق الوعد الذى منحه من لا يملك لمن لا يستحق. ولأننا نحن العرب مغرمون بصك المصطلحات اللغوية فى توصيف الأحداث التى نمر بها حتى يضحى المصطلح أشهر من الحدث، فقد أطلقنا على وعد بلفور التعبير الشهير الذى التصق به دائما .. «المشئوم» .. وفى اللغة العربية فإن كلمة «مَشْئوم» هى المفعول الخاص بفعل «شأَمَ»، ويقال (شأَم على قومه : جرَّ عليهم الشُّؤْمَ ، أى النَّحْس)، ويقال (رَجُلٌ مشئوم : أينما حلّ لا يتفاءل الناسُ بقدومه) ، وبتطبيق هذه التعريفات على تطورات القضية الفلسطينية خلال 97 عاما سنكتشف أن المشئوم ليس وعد بلفور، وإنما نحن الذين أصبحنا أمة من المشئومين! وإذا كان وعد بلفور هو الاسم الشائع المطلق على الرسالة التي أرسلها آرثر جيمس بلفور وزير الخارجية البريطانى بتاريخ 2 نوفمبر 1917 إلى اللورد ليونيل وولتر دي روتشيلد يشير فيها إلى تأييد الحكومة البريطانية لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، فإن هناك قصة غير مشهورة كانت أحد أسباب هذه الرسالة تستحق أن نتذكرها الآن. فقد أشارت بعض المصادر التاريخية إلى مارواه لويد جورج رئيس الوزراء البريطانى الأسبق في مذكراته، عن الدور الذي قام به عالم الكيمياء الدكتور حاييم وايزمان (18741952م) الذي أصبح بعد ذلك أول رئيس لدولة اسرائيل، في خدمة بريطانيا إبان الحرب العظمى، وذلك عندما ساعد بريطانيا في استخراج مادة الأسيتون التي تستخدم في صنع الذخائر الحربية والتي كانت تستخرج من خشب الأشجار، وكان استخراجها بكميات كافية يحتاج كميات هائلة من الخشب، ولا توجد في إنجلترا غابات كثيرة تفى بهذه الحاجة، فنجح فى استخراجها من مواد أخرى. ورفض الدكتور (وايزمان) أى تكريم مقابل هذا العمل، بشرط أن تصنع بريطانيا شيئاً في سبيل الوطن القومي اليهودى، ولما تولى (لويد جورج) رئاسة الوزارة استغل وايزمان علاقته به حتى اقنعه بمخاطبة وزير خارجيته بلفور بأن بريطانيا تريد أن تجتذب إلى صفها اليهود في الدول المجاورة، وظل يضغط مع قيادات الحركة الصهيونية حتى صدر وعد بلفور. وحين صدر هذا الوعد كان تعداد اليهود فى فلسطين لا يزيد على 5% من مجموع عدد السكان، وبعد ذلك تتابعت الهجرة اليهودية من شتى أقطار العالم. وكانت الحكومة البريطانية قد عرضت نص تصريح بلفور على الرئيس الأمريكي ولسون، ووافق على محتواه قبل نشره، ووافقت عليه فرنسا وإيطاليا رسميا سنة 1918، ثم تبعها الرئيس الأمريكي ولسون رسميا وعلنيا سنة 1919، وكذلك اليابان. وبغض النظر عن حجم الدور الذى لعبه وايزمان ولا يختلف أحد على أهميته فى صدور وعد بلفور، فنحن أمام عالم كبير استغل منجزاته العلمية فى دفع الغرب إلى تبنى قضيته، وهو مايطرح علينا سؤالا مهما: كم عدد العلماء العرب والمسلمين الذين يعيشون فى الغرب ولهم منجزات علمية مهمة ؟ وكم عالما منهم استغل انجازاته العلمية فى خدمة القضايا العربية ؟ .. اترك الإجابة للقارئ. إننا بحاجة إلى دراسة جادة لتاريخ القضية الفلسطينية من وعد بلفور حتى اليوم، لنتعلم منه الكثير، بعد أن نعلم لماذا تحولت القضية من (صراع عربى صهيونى) إلى (مشكلة فلسطينية إسرائيلية)، ومن تحرير فلسطين إلى إقامة دولة على جزء من الأراضى الفلسطينية، ومن قضية العرب الأولى والمحورية إلى مجرد مشكلة تتعدد حولها المواقف والآراء، وكيف تلعب الأفراد والشعوب قبل الدول دورا مهما فى خدمة معتقداتها وتحويل الأحلام المستحيلة إلى واقع. لا ننغمس فى جلد الذات ولكن نتعلم الدروس من حركة التاريخ، لنتمكن من صياغة المستقبل وتغيير الواقع على جميع المستويات. والبداية الحقيقية فى الداخل الفلسطينى نفسه، عندما تتحول الفصائل الفلسطينية المختلفة وخاصة حماس إلى حركات تحرر وطنى، وليست مجرد فروع لجماعات سياسية أو دينية خارجية، أو وكلاء لقوى إقليمية أو دولية، تستخدم لخدمة هذا الطرف أو ذاك بعيدا عن دورها الأساسى، وأن تتوحد هذه الفصائل فى استراتيجية واحدة تتحمل لعبة توزيع الادوار لا تعدد الولاءات، فالولاء لابد أن يكون للشعب الفلسطينى فقط وقضيته. لسنا بحاجة إلى وعد جديد من أى قوى عالمية بالنظر بعين العطف فى إقامة دولة فلسطينية على جزء من الأراضى الفلسطينية، ولكننا بحاجة إلى وعد من كل عربى بأنه سيحرص بشدة على أن يكون قوة مضافة للأمة العربية لا مصدر تخريب فيها، من الطالب الذى يرفع سلاح التفوق سبيلا للمساهمة فى رفعة الأمة، إلى العالم الذى يجب أن يتعلم من درس وايزمان، والعامل والصحفى والطبيب والفلاح والمهندس والمدرس .. وكل من يعيش على الأرض العربية ويعى أن تحقيق حلمه الشخصى مرتبط بحلم الأمة. ولن نستطيع تحرير فلسطين، إلا بتحرير الأمة العربية من التبعية والجهل والتخلف والفقر والمرض، واسترداد القرار الوطنى والإرادة المستقلة. # كلمات: إن الحق بغير القوة ضائع، والسلام بغير مقدرة الدفاع عنه استسلام جمال عبد الناصر لمزيد من مقالات فتحي محمود