ينتمى مواليمو على الأمين مزروعى الذى رحل عن دنيانا يوم الاثنين 13 أكتوبر 2014 إلى جيل الشوامخ فى الفكر السياسى والاجتماعى الافريقى الذى دافع عن فكرة التضامن والجامعة الافريقية طيلة سنوات مابعد الاستعمار. لقد عاش الراحل حياة مليئة بالعطاء والتميز الفكرى والانسانى حتى أضحى نموذجا يحتذى به ليس فقط على المستوى الوطنى فى كينيا ولكن على المستوى العالمى أيضا. ولد على مزروعى فى مدينة مومباسا الساحلية فى كينيا عام 1933، وهو سليل أسرة عربية عريقة من عمان حكمت هذه الدولة المدينة خلال سنوات القرن التاسع عشر. ومع أن والده كان كبير القضاة فى كينيا فإنه تلقى تعليما غربيا حديثا فى مانشستر ونيويورك واكسفورد ليعود بعدها للعمل أستاذا فى جامعة ماكريرى الأوغندية. بيد أنه سرعان ما اصطدم مع عايدى أمين ليضطرإلى السفر للمنفى الاختيارى ويعيش ويتجول حول العالم ،إلى أن استقر به المقام فى الولاياتالمتحدةالأمريكية والتى ظل بها حتى وفاته. والمتابع للتراث الفكرى والمعرفى للراحل يدرك أنه تميزعن سائر أقرانه بأسلوب أدبى راق وبسيط فى الوقت نفسه وهو ما يقع فى اطار السهل الممتنع حيث كتب ونشر أكثر من أربعين كتابا بالاضافة إلى عدد هائل من المقالات، أى انه قدم منظومة معرفية متكاملة ومتعددة الأبعاد تغطى جوانب الثقافة والفكر والسياسة فى إفريقيا والعالم . لقد تمسك على مزروعى منذ البداية باطار ثقافى ومعرفى فى التحليل يركز على مسألة الهوية والانتماء الافريقى ويؤكد قيم التضامن العربى والافريقى . ففى عام 1963 صاغ مفهوم «نحن جميعا أفارقة» والذى نشر فى المجلة الأمريكية لعلم السياسة ليشكل نقطة انطلاق كبرى فى تطوره الفكري. لقد وصل هذا المقال لوضعية إفريقيا فى مرحلة ما بعد الاستقلال من خلال منظور أفريقى ثقافى جامع يؤمن بأهمية محاربة الاستعمار وتحقيق حلم الوحدة الإفريقية، ولعل ذلك هو ما دفع بمزروعى لمصاف الريادة الفكرية فى مشروعات نهضة إفريقيا المستقلة. عقب التسعينيات من القرن الماضى عندما انفتح علم السياسة على الأبعاد الثقافية أعاد مزروعى تأكيد مرة أخرى منهجه الثقافى ودخل فى مناظرة علمية جادة مع صامويل هنتنجتون صاحب نظرية صدام الحضارات. وفى عام 1997 دعته مجلة الشئون العالمية لكتابة مقال للرد على هنتنجتون فكتب مقالته المشهورة القيم الاسلامية والغربية. ومنذ ذلك الحين أصبح الدكتور مزروعى مدافعا عن الاسلام الوسطى المعتدل فى الغرب حتى إنه اتهم بعد أحداث الحادى من سبتمبر بمساندة التنظيمات الارهابية . ورغم هذه الضغوط والانتقادات التى مارسها اليمين الأمريكى المتطرف عليه فقد ظل الرجل صامدا مدافعا عن مبادئه حتى آخر رمق فى حياته. ومن المعلوم أن على مزروعى كان مثيرا دوما للجدل حيث انتقد أيديولوجيات التنمية التى انتهجها الزعماء الأفارقة بعد الاستقلال واعتبرها غير ملائمة للواقع الإفريقي. كان يعتبر نفسه على يمين زملائه من تيار اليسار الجديد ، حيث عبر أكثر من مرة عن توجهه الليبرالى ؟ فالليبرالية المنقحة والمعدلة هى الأنسب لإفريقيا من وجهة نظره. وأذكر أنه دعى ذات مرة لالقاء محاضرة فى أكرا عن الراحل كوامى نكروما فاذا به يخاطب الحاضرين قائلا.: لقد أراد نكروما أن يصنع من نفسه لينين افريقيا فإذا به يصبح قيصرا لغانا. إن نكروما كان عظيما على المستوى الإفريقى حيث عاش من أجل حلم الوحدة الإفريقية، ولكنه لم يكن كذلك على المستوى الوطنى داخل غانا لأنه قاد اقتصاد بلاده إلى الهاوية، وهو الأمر الذى أسهم فى الاطاحة به من السلطة عن طريق انقلاب عسكري. وعلى الرغم من تقديره للرئيس جوليوس نيريرى فى تنزانيا باعتباره مفكرا ورائدا لحركة الوحدة الأفريقية فانه انتقد بشدة سياساته ومواقفه من المثقفين واعتبره خائنا لطبقته. ولم يقف الأمر عند هذا الحد حيث دفعت به رؤيته الوحدوية إلى المطالبة باعادة استعمار افريقيا من خلال القوى الإقليمية الافريقية، أى الدعوة لاستعمار داخلى هذه المرة من أجل وضع حد للحروب والصراعات المسلحة التى تشهدها كثير من بلدان إفريقيا. إلا أن هذه الرؤية الثورية لمزروعى دفعت به إلى ساحة المناظرات العلمية الحامية الوطيس ، ولعلنا نتذكر هنا مناظرته الشهيرة مع رائد الأنثربولوجيا الافريقية الراحل أرشى ما فيجى حول هذا الموضوع. وبالإضافة لأعماله المكتوبة فقد قدم مزروعى عام 1986 المسلسل التليفزيونى الوثائقى المكون من تسعة أجزاء بعنوان:الأفارقة:الميراث الثلاثى بالاشتراك مع هيئة الاذاعة البريطانية . وقد ظهر هذا العمل لاحقا فى شكل كتاب يحمل الاسم نفسه حيث أكد مزروعى أن الاسلام والمسيحية والمعتقدات التقليدية تشكل معا مكونات الهوية والموروث الحضارى الافريقي.واستنادا إلى خبرته الشخصية من حيث انتمائه لأصول عربية خليجية معروفة فقد وصل لمفهوم جديد يحكم اطار التضامن العربى الافريقى سماه أفرابيا Afrabia بحسبانه تجمعا حضاريا يؤكد عمق الروابط التاريخية والثقافية والحضارية بين العرب والأفارقة . وفى ذلك يقول إن «التحدى الحقيقى اليوم ليس بين عرب الشمال وأفارقة الجنوب ولكن بين العالم العربى وإفريقيا». ويمكن التمييز فى مسيرة على مزروعى الفكرية بين مرحلتين أولاهما استغرقت النصف الأول من حياته حيث ركز على أيديولوجية الجامعة الافريقية ومناصرة قضايا الجنوب بشكل عام فى مواجهة النظام الرأسمالى العالمى غير العادل. أما المرحلة الثانية والتى لازمته حتى وفاته فقد انشغل فيها بدفاعه عن الاسلام حيث نجد على سبيل المثال كتابه الصادر عام 2004 الاسلام بين محاربة الارهاب والعولمة. وقد قمت شخصيا عام 1998 - بعد موافقته وترحيبه - بنشر كتابه: قضايا فكرية: إفريقيا والإسلام والغرب على أعتاب عصرجديد، حيث ترجمه للعربية بعض الزملاء المتخصصين فى الدراسات الافريقية. وقد طرح مزروعى رؤى تجديدية مهمة فى تفسيراته للاسلام حيث رأى أن الشريعة لا تتعارض مع الديمقراطية وهو الأمر الذى قوبل بمعارضة شديدة من قبل معارضيه. لقد حاز الراحل الكبير على العديد من الأوسمة والنياشين العلمية ودرجات الدكتوراه الفخرية. ففى عام 2000 حصل على جائزة الألفية من مجلس اللوردات البريطاني، كما أنه جاء ضمن تصنيف أفضل مائة مفكر على مستوى العالم. ورغم ذلك كله فقد عاش حياة بسيطة ولم يحمل سوى جواز سفره الكينى الذى ظل معتزا به حتى آخر لحظة. ومن الطريف أن مواليمو مزروعى لم يحصل على رخصة قيادة للسيارات أو يذكر أنه تعلم القيادة طيلة حياته حيث كان يرى بأسلوبه الساخر أنه ينتمى إلى زمن قد مضى أوانه. إنه برحيل على مزروعى ومن سبقه من الرواد أمثال آرشى مافيجى وعبدالملك عودة يكون قد اسدل الستار على جيل موسوعى فى علم الاجتماع الإفريقى والذى اتسم برؤية فلسفية عالمية فى تحليل الظواهر الاجتماعية. وكان مزروعى فريدا فى استخدامه للغة الانجليزية بحيث يبهر دوما من يقرأ له أو يستمع إليه. وعليه يظل تراث (المزروعية) بحاجة إلى جمع وتدقيق ودراسة من قبل طلابه وزملائه الذين شرفوا بتبادل الأفكار معه. ونأمل أن تكمل مكتبة الاسكندرية ما بدأته حيث إنها قد استضافت الراحل وترجمت أحد أعماله للعربية ونشرته .فهل نهتم نحن فى مصر والوطن العربى باحياء تراث الراحل الذى عاش من أجل الدفاع عن قيم الوحدة والتضامن بين العالمين العربى والإفريقى؟. لمزيد من مقالات د. حمدى عبد الرحمن