الذكريات لا تأتي في تسلسل تاريخي, بل تثيرها أحداث وظروف خاصة فعلي سبيل المثال أثارت زيارة أودنجا رئيس وزراء كينيا ذكريات عن المؤتمر الأول لتضامن الشعوب الإفريقية الآسيوية في ديسمبر عام1957. وكان ممثل كينيا في ذلك المؤتمر أوجنجا أودنجا والد رئيس الوزراء الحالي. كان ذلك المؤتمر نقطة تحول في حركات التحرير الإفريقية إذ لأول مرة في تاريخ النضال الوطني اجتمع قادة حركات التحرير تحت سقف واحد بعد أن كان الاستعمار يفصل بينهم رغم تجاورهم وإذا أراد شخص من سيراليون أن يزور غانا المجاورة كان يجب أن يسافر إلي لندن أولا ثم من لندن إلي غانا. وكان ذلك المؤتمر بدء الاهتمام الرسمي بإفريقيا وأنشئ مكتب للشئون الإفريقية يتبع رئاسة الجمهورية وكان يرأسه الوزير محمد فائق. وبعد انتهاء المؤتمر بقي قادة حركات التحرير في القاهرة وتكون أكثر من مكتب لهم وقامت الحكومة بتقديم كافة الإمكانات لهم من سكن ومكاتب ومرتبات شهرية وأصبحت الظاهرة منبرا لحركات التحرير, وقد تسبب ذلك إلي تدهور علاقاتنا مع بريطانيا وفرنسا بالذات, وكان من أوائل المهتمين بإفريقيا الصديق الراحل السفير عبد العزيز اسحق, وهو الذي أخرج ابن واين لومومبا من الكونجو علي جواز سفره الدبلوماسي, وقد عاش الاثنان في منزل عبد العزيز اسحق في الزمالك تحت رعاية زوجته السيدة الفاضلة ماما زيزي كما يناديها أولاد لومومبو. وكان عبد العزيز اسحق يرأس تحرير مجلة صوت افريقيا التي ساهمت في تعريف المصريين بإفريقيا ومشاكلها, وكان من المهتمين بشئون إفريقيا الصديق الراحل الوزير عبد المنعم الصاوي الذي رأس الجمعية الإفريقية والتي تحولت إلي الرابطة الإفريقية. وبعد مؤتمر الشعوب الإفريقية الآسيوية تكونت السكرتارية الدائمة و كان يوسف السباعي السكرتير الدائم وكنت أنا نائبا له وكان معنا مندوبون عن إفريقيا أذكر منهم أوسندي أمانا من السنغال وجون كاف من أوغندا وأوجنجا اونجا من كينيا وكلفت بالاشراف علي الشئون الإفريقية, مما أعطاني الفرصة لإقامة صداقات مع الزعماء الافارقة ولمعرفة المزيد عن المشاكل الإفريقية. كانت أول بلدة إفريقية زرتها هي غانا وكان ذلك في ديسمبر عام1958 حين طلبني الرئيس نكروما للمساعدة في تنظيم مؤتمر جميع الشعوب الإفريقية الذي عقد في أكرا في ذلك الشهر وسبب طلب نكروما لي أنه سبق وتعرفت به عام1956 حين حضرت مؤتمر الوحدة الإفريقية الذي عقد في مانستر في ذلك الشهر وكان الداعي الي المؤتمر والمنظم له جورج بادمور من احدي جزر الهند الذي اختاره نكروما بعد الاستقلال ليكون مسئولا عن الشئون الإفريقية في غانا. وحين وصلت إلي أكرا وجدت مكتبا لي مع جورج بادمور وعملنا معا لتنظيم وإنجاح المؤتمر. وكان اول ما لفت نظري في غانا العلاقة القوية مع إسرائيل, لدرجة تكوين شركة ملاحة مشتركة بين البلدين وعرفت ان وجود إسرائيل في إفريقيا بدأ قبل استقلالها وقت الاستعمار البريطاني والفرنسي الذي عاون إسرائيل في ذلك المجال, ووجدت نفس التغلغل في أوغندا أثناء حكم عيدي أمين وأذكر في حديث لي معه أني سألته كيف وهو الزعيم المسلم يتعاون بقرب شديد مع إسرائيل وقال إنه حين جاء إلي الحكم طلب من الحكومة المصرية معاونته في تدريب الجيش ولم يصله أي رد بينما أسرعت إسرائيل لتقديم المعونة وكانت السمة أن عيدي أمين نفسه تدرب عسكريا في إسرائيل, وهذا يشرح دوره في عملية عنتبي بعد ذلك, وأذكر حين حضرت احتفال كينيا بالاستقلال عام1963 وكان جومو كنتانا الرئيس واوجيني اودنجا نائبه أن دعينا الي حفل ساهر لتلك المناسبة وكانت نجمة الحفل مريام مكيبا أشهر مغنية في جنوب إفريقيا وبدأت الحفل بأغنية شعبية إسرائيلية فما كان منا نحن المندوبين العرب إلا الانسحاب من الحفلة وقدمنا معا احتجاجا لم نعرف نتيجته. ومرت علاقتنا بإفريقيا بفترة هدوء حتي جاء الدكتور بطرس غالي وزيرا للدولة للشئون الخارجية وركز اهتمامات علي إفريقيا. كان يدعو زعماءها ونناقش معهم مشاكلهم ويحاول ان يقدم لهم المعونات, وكان كثيرا ما يدعوني لمقابلة بعض هؤلاء المسئولين وخاصة من كان يسأل منهم عني وبدأ يكلفني بمهام في إفريقيا فذهبت عن طريق صندوق المنحة الفنية الي غانا ونيجيريا حيث ألقيت محاضرات في جامعاتهما من اهم ما قمت به زيارتي لناميبياNamibia لتدريب مجموعة من شباب الصحفيين لإصدار جريدة وكان هناك معي صحفي من جنوب إفريقيا وصحفية من ألمانيا, تعجبت من وجود صحفي من جنوب إفريقيا ولكن زال عجبي حين وجدت أن جنوب إفريقيا لها سفارة في ناميبيا تعجبت لأننا كما يقول المثل ملكيون أكثر من الملك. كنا نقاطع جنوب إفريقيا ونتهم حكومتها بالعنصرية بينما تعترف بها جارتها الإفريقية, بل إن عملة الراند في جنوب إفريقيا هي نفس العملة في ناميبيا. وكان سفير جنوب إفريقيا ينظم حفل استقبال كوكتيل كل يوم جمعة في مقر إقامته وتلقيت دعوة لحضور الاستقبال. وقابلني السفير بالترحاب وسألني إن كنت اريد ان ازور جنوب إفريقيا وطبعا تحمست للزيارة واعطاني السفير الفيزا وسافرت الي جوهانسبرج وفي المطار وبرغم جواز سفري المصري و مشاركة مصر في الهجوم علي حكومة جنوب إفريقيا العنصرية كان مسئولو الجوازات علي درجة عالية من الأدب والترحيب بي في بلدهم. ووجدت زوجة صديقي الصحفي الزميل في تدريب الشباب في انتظاري, وأخذتني في جولة أولا في أحياء جوهانسبرج الفقيرةSlans و كانت تعلق طول الوقت علي الظلم الذي تعرض له غالبية شعب جنوب إفريقيا. كانت مثل زوجها ليبرالية التفكير وقد عرفت بعد ذلك ان الجريدة التي يرأس تحريرها زوجها هي الوحيدة التي يعمل بها صحفيون سود. ذكريات تسابقت في ذهني متدافعة تريد كل منها ان تسبق الاخري, ولكن كلها ذكريات افريقية ذكريات عن زعماء حركات التحرير ثم رؤساء لبلادهم التقوا في مصر ومع مصر في المؤتمرات. لقد اشارت في تاريخ علاقة مصر بإفريقيا التي مرت بمراحل مختلفة مراحل تنسيق وتنافس, صداقات وخلافات تقارب وتباعد ولكن في كل هذه المراحل كانت مصر هي مصر الشقيقة الكبري التي تحمل دون شكوي وتوجه دون رعاية وتشير دون ان تضغط كنا نري مواقف دول ساعدتها مصر في الحصول علي استقلالها وهي تدير لنا ظهرها وتدمع عيوننا, وقد ترتفع نغمة تتحدث عن الجحود او عدم الولاء ولكن لعله حظنا اننا لم نتفهم الخلفية الثقافية والحضارية لإفريقيا, ومما يعطي الامل ان هناك مجموعة من المفكرين من هواة افريقيا الذين يجمع بينهم حبهم لإفريقيا واقتناعهم انها المجال الحيوي الاول لمصر والعرب.