في النصف الأول من ستينيات القرن الماضي كانت معظم المستعمرات الإفريقية قد نالت استقلالها وتحررت من الاستعمار الأوربي. وبدأت تخطو خطواتها الأولي نحو إبراز هويتها الإفريقية الأصيلة, بالعودة إلي تاريخها القديم وإحياء تراثها وتقاليدها التي حرص الاستعمار علي طمسها تماما وإزالتها من ذاكرة الأجيال الناشئة, مستعينا بجهود المبشرين ورجال الإرساليات الكنسية المختلفة, ونشر نظم التعليم الأوروبية واللغات الأجنبية لكي تحل محل اللغات الوطنية واللهجات القبلية. وأدي الحكم الاستعماري القائم علي استغلال الموارد الطبيعية وتسخير الموارد البشرية الوطنية لخدمة المستوطنين الأوربيين الذين كانت لهم السلطة المطلقة في تملك المزارع الواسعة واحتكار النشاط التجاري, مع منح كثير من الامتيازات للمهاجرين الملونين من القارة الآسيوية إلي أن أصبح أهل البلد الأصليون مواطنين من الدرجة الثالثة. ولكن ظهور مجموعات من الأفارقة الذين أفلحوا في تخطي العقبات والوصول إلي درجة من التعليم في الجامعات الأوروبية وشعور بعض هؤلاء الشباب بالاعتزاز بقوميتهم الإفريقية وتاريخها ومطالبتهم باستقلال أوطانهم من الاستعمار من أمثال جومو كنياتا في كينيا الذي درس الأنثروبولوجيا في جامعة لندن علي أيدي أحد أكبر أساطينها وهو برونيسلاف ماليتوفسكي وألف كتابا من أبدع ماصدر عن زعيم إفريقي بعنوان في مواجهة جبل كينيا يعارض فيه كثيرا من آراء الكتاب البريطانيين بمن فيهم بعض أساتذته, ومن أمثال الزعيم السياسي كوامي نكروما في غانا, والشاعر الفيلسوف ليوبولد سنجور في السنغال وكثيرين غيرهم في الدول الإفريقية المختلفة قلب الأوضاع رأسا علي عقب, إذ نشأ جيل من الحكام الزعماء الوطنيين الذين تآلفوا مع جمال عبدالناصر للارتفاع والارتقاء بالقارة السمراء سياسيا واقتصاديا عن طريق سياسة واضحة للتنمية. ولم يقيض لتلك التجربة أن تستمر بعد عهد هؤلاء الزعماء الكبار رغم إنشاء المؤسسات الإفريقية والتكتلات والمنظمات وعقد العديد من المؤتمرات حول مشكلات القارة. ومرت مصر بعدة عقود من الانزواء أوالتباعد وعدم الاهتمام بإفريقيا مما أساء إلي الأوضاع في مصر والدول الافريقية بشكل عام. بل كما هو الحال في كثير من دول العالم الثالث تم الانقضاض علي سلطة بعض هؤلاء الزعماء المؤسسين, واتهم بعضهم بالفساد ولم يسلم نكروما نفسه من ذلك, فقد اتهم بتهريب ثمانية ملايين دولار وهو مبلغ هائل بمعايير تلك الفترة وبالوضع الاقتصادي في غانا... لقد أكلت الثورات أبناءها. في ذلك الوقت بدأت رحلاتي إلي إفريقيا لمتابعة مشروعات التنمية. ولقد حملتني هذه الرحلات إلي منابع النيل وروافده الكبري, وأدركت علي الطبيعة دور ذلك النهر العظيم في تحقيق التواصل الثقافي بين مصر وبقية دول حوض النيل, كما تبين لي مدي فاعلية وقوة الجهود المصرية في تطويع النهر وتطبيعه والتحكم فيه من خلال المشروعات التي أسهم فيها الري المصري, وهي ملحمة بكل معاني الكلمة تحتاج إلي من يسجلها بعد دراسة علمية عميقة يساندها خيال صاف يشبه خيال إميل لودفيج في كتابه الشهير عن حياة نهر أو أعمال الان مورهيد عن النيل الأبيض والنيل الأزرق وانبهاره بهما وبجبروتهما وبما قام الإنسان بإنشائه للتحكم فيه, وهو مايذكرنا بما قام به قبل ذلك فريد سميكة باشا وأرجو ألا أكون أخطأت في الاسم وكيل وزارة الأشغال العمومية في العهد الملكي لتسجيل دور المصريين في المحافظة علي النهر وتطويره وتنميته, وتضحية مهندسي الري الذين عاشوا مع عائلاتهم في استراحات الري المنتشرة في الغابات, وجهودهم في تنفيذ مشروعات توليد الكهرباء وإدارة المصانع وتحويل بعض القري الصغيرة إلي مراكز صناعية مهمة كما هو الحال بالنسبة لقرية جنجاJinja التي كانت مجرد قرية للصيادين علي ضفاف بحيرة فيكتوريا فإذا بها تصبح ابتداء من عام 1907 أكبر ثاني مدن اوغندا بعد كمبالا العاصمة كمركز تجاري وصناعي بالقرب من منبع نهر النيل وتجذب إليها الأيدي العاملة من كل القبائل الأوغندية وتصبح بذلك مدينة متروبوليتانية خصوصا بعد إنشاء خزان مساقط مياه أوينOwen الشهيرة عام.1954 وبطبيعة الحال ليس هناك في الأدبيات الغربية أية إشادة جادة بالجهود المصرية. بل إن الجهود المبذولة من أيام محمد علي والتي تواصلت في عهد الخديو إسماعيل عن إرسال البعثات لاكتشاف منابع النيل لا تكاد تجد لها ذكرا الآن في كثير من الكتابات مع أنها أعمال ملحمية رائدة كانت تدرس في مدارسنا الثانوية بالتفصيل حتي وقت قريب, وآن الأوان للرجوع إليها ليس للإشادة والفخر بها مع أنها تستحق ذلك ولكن للتدليل علي أهمية النهر بالنسبة للتراث الثقافي والتاريخي المصري وقوة الروابط بين مصر ودول حوض النيل التي أهملناها طويلا. بيد أن هذا كله لم يكن يستوجب انصراف مصر عن إفريقيا. فالاستعمار له منطقه وسياساته التي يعطيها أولويات مطلقة وهذا هو الذي وضع مصر في مكان ثانوي بالنسبة للاهتمام بإفريقيا ومشرعات التنمية فيها. كما يبدو من أحد المشروعات التي كانت كفيلة بأن تقفز بجنوب السودان قفزة واسعة, لولا أن الحكم البريطاني الذي انفرد بالسودان بعد تنحية المصريين عن المشاركة في الحكم الثنائي, وأعني بذلك مشروع الأزاندي الذي كان يهدف في ظاهره إلي استصلاح مناطق شاسعة وتحويلها من غابات كثيفة إلي أراض لزراعة القطن وقصب السكر وإقامة صناعات كثيفة لغزل ونسج القطن واستخراج الزيوت من بذرة القطن وإقامة صناعة الصابون من ناحية وصناعة السكر والمولاس والكحول وغيرها وتصديرها لأوروبا لصالح جنوب السودان, ولكنه كان يخفي وراءه سياسة فصل هذه المساحات الشاسعة وضمها إلي أوغندا بعد تنميتها وتطويرها. ولذا لم يكن غريبا أثناء زيارتي للمنطقة ألا يذكر المصريين إلا عدد قليل جدا من السودانيين الجنوبيين المثقفين. ولقد تعرض المشروع للفشل نتيجة الحروب بين قبائل الجنوب, أما الآن وبعد قيام دولة الجنوب, واستتباب الأمن نسبيا فإن مصر يمكن أن تقوم بدور فعال في إحياء المشروع وبعثه من جديد. وما يقال عن مشروع الأزاندي يمكن أن يقال عن مشروع قناة جونجلي الذي كان موضع شد وجذب لستة عقودعلي الأقل, وكان كفيلا بتوفير مقادير كبيرة من مياه النهر وإنهاء الحروب بين الدنكا وبقية القبائل خاصة قبائل المسيرية, ولكن أغلب الظن أن الاستعمار كان وراء هذه الخلافات, خاصة أن مصر كانت ستسفيد من المياه المتوافرة. وقد يعاد النظر في هذا المشروع بعد تغير الأوضاع بالنسبة لجنوب السودان والرغبة في تنمية منطقة بحر الجبل في ظل السياسة الحكيمة التي تتخذها مصر الآن من جنوب السودان ومن دول حوض النيل بوجه عام. في العام القادم ستنشئ جامعة الإسكندرية فرعا لها في دولة جنوب السودان وهذه خطوة بالغة الأهمية. ولكن أليس من الغريب أن جامعة الإسكندرية التي بادرت بإنشاء الدراسات الأنثروبولوجية في العالم العربي منذ منتصف الخمسينيات من القرن الماضي لا تعطي هذه الدراسات أهمية في برامجها ومقرراتها التي هي أساس صلب لدراسة قبائل جنوب السودان ومعرفة بنائهم القبلي والعلاقات الملتبسة بين القبائل العديدة توطئة للمساهمة في تنفيذ مشروعات التنمية؟ إن العلاقة بين الدول ليست برامج تعليمية بقدر ما هي علاقات إنسانية بين الشعوب تقوم علي الفهم والاحترام المتبادل. ولايزال هناك متسع من الوقت لتدارك هذا الوضع. المزيد من مقالات د.أحمد ابوزيد