ينتمي عبدالملك عودة الي جيل الشوامخ في الفكر الإفريقي المعاصر والذي يضم الراحلين أرشي مافيجي أبو علم الأنثروبولجي الإفريقي وداني نابوديري واضع أسس المنظور المعرفي الإفريقي, بالاضافة إلي علي مزروعي وعيسي شيفجي وحلمي شعراوي وغيرهم من الذين شرفت بلقائهم والتعلم من فيض علمهم الغزير. لقد آمن هؤلاء جميعا بضرورة مواصلة إنتاج المعرفة التي تسعي لتجديد الفكروالثقافة في إفريقيا. وعليه يجب أن تكون المعارف الإفريقية الحديثة, رحل العالم الانسان الذي كان يأسرك دائما بشخصيته الفذة التي تجمع بين سعة العلم ورحابة الصدر وخفة الظل. جمع ألقابا عديدة استحقها من تلامذته ومحبيه, فهو عميد العمداء, حيث كان عميدا لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية وكلية الاعلام ومعهد الدراسات الإفريقية, كما أنه رائد الدراسات الأفريقية في مصر والعالم العربي بلا منازع. كنت أناديه بلقب مواليمو والتي تعني المعلم بالسواحيلي, وتعلمت منه مناولة وباللقاء المباشر ما لم أتعلمه من الكتب أو رحلاتي الإفريقية. إنه الأستاذ الذي يجسد شخصية المصري الأصيل. عمل طيلة حياته سواء في الجامعة أو خارجها بجد واخلاص لايبتغي جزاء ولاشكورا. لقد تفاني في مساعدة تلامذته في أمور المعاش قبل الدراسة والتحصيل. أذكر أنه رآني ذات يوم في منتصف التسعينيات من القرن الماضي واجما فسأني بروح الأب الحريص علي ابنه عن السبب فقلت له ان ابنتي بحاجة إلي عملية جراحية فاذا به يتصل بأحد الأطباء من أصدقائه ويقوم بكل الترتيبات اللازمة لإدخالها المستشفي بما في ذلك توصيلي بسيارته الخاصة. وكنت دائما أعتقد أن عبد الملك عودة أنجب ثلاثة من الأبناء هم هشام وجهاد وأنا كاتب هذه السطور. وأحسب أن هذا هو نفس احساس جميع تلامذته ومحبيه الذين تعاملوا معه عن كثب. كان مواليمو عالي المقام صاحب نكتة ويدخل علي المجلس نوعا من البهجة والسرور. وأذكر أنني كنت مشاركا بمعيته في إحدي الندوات التي عقدتها كلية الاقتصاد والعلوم السياسية فوجه له أحد الحضور سؤالا فأشار لي بالاجابة علي السؤال قائلا بخفة ظله المعهوده: هنا محل عبدالملك عوده وولده حمدي عبدالرحمن. لقد جسد الراحل تواضع العالم الانسان وهو ماجعل له منزلة خاصة في قلوب زملائه وطلابه ومريديه في كل مكان. لقد استطعت من خلال علاقتي العلمية والانسانية مع الأستاذ والوالد عبدالملك عودة ولفترة تصل لأكثر من خمسة وعشرين عاما أن أتعرف علي شخصيته العلمية الفذة. إنه بحق رائد الوطنية المصرية في مجال الدراسات الإفريقية المعاصرة. ويمكن أن نشير إلي أبرز ملامح المشروع الفكري الذي أسس له في ثلاثة محاور كبري. أولها, قضية الدولة والحكم في إفريقيا علي الصعيدين الوطني والقاري, وهو ما تجسده كتاباته عن: السياسة والحكم في أفريقيا وسنوات الحسم في إفريقيا والاشتراكية في تنزانيا, ثم ما كتبه بعد ذلك في مقالاته الدورية في الأهرام اليومي والأهرام الاقتصادي عن قضايا التحول والانتقال الديمقراطي في إفريقيا. أما المحور الثاني في مشروعه الفكري يتمثل في متابعته ملف العلاقات العربية الإفريقية وتطورها بمنظور تحليلي ونقدي. وقد انتهي به الأمر ليطرح رؤية مستقبلية لامكانيات تفعيل العمل العربي الإفريقي المشترك, عندما كتب في بداية الألفية عن استراتيجية مستقبلية للعلاقات العربية الإفريقية. ويتمثل المحور الثالث في أعمال د. عودة في دراسة السياسات المصرية في إفريقيا, حيث كانت المصلحة الوطنية هي نقطة الانطلاق المركزية في مشروعه الفكري الإفريقي. لذلك كان دائم التركيز علي دول حوض النيل, كما أنه كتب عن اريتريا وجيبوتي والصومال وإثيوبيا بشكل تفصيلي. وكان يري أن مهددات الأمن المصري المجتمعية تأتي دائما من جنوب الدولة المصرية حيث منابع مياه النيل. ولعلي أشير هنا إلي أبرز نصائحه في ضرورة صياغة سياسة مصر الإفريقية من أجل الدفاع عن مصالح الدولة المصرية التقليدية التي لا تختلف باختلاف الأنظمة الحاكمة وذلك من خلال تأكيد أدوات القوة الناعمة المصرية في إفريقيا. يقول الراحل إننا لا يمكن أن نعتمد علي مقولة الحقوق التاريخية المكتسبة لضمان تدفق مياه النيل إلي مصر فثمة تغير في موازين القوي الاقليمية والدولية, كما أن القانون الدولي حمال أوجه, وهو ما يفرض علي مصر, ضرورة استخدام قوتها الناعمة للدفاع عن مصالحها المائية. سوف يظل عبدالملك عودة, المعلم والانسان نموذجا فريدا للوطنية الأصيلة التي نأت بنفسها عن أهواء السياسة وخطاب الأيديولوجيا. لم يكن غريبا أن نجد الجميع حوله فهو يصعب أن يحسب علي فريق في مواجهة فريق آخر علي الرغم من ظروفه العائلية التي دفعت به إلي مواجهة نظام23 يوليو.1952 ولا شك أن تراثه في الفكر الإفريقي من منظور الوطنية المصرية بحاجة إلي عناية ودراسة لكي يكون أساسا لبناء نهضة حقيقية. لمزيد من مقالات د. حمدى عبد الرحمن