لا نذكر الدراسات الأفريقية الحديثة فى «مصر» إلا ونتذكره، لا نذكر الأستاذ الجامعى الأب إلا ونتذكره، لا نذكر الوطنى المخلص مستقيم الخلق واضح الشخصية إلا ونتذكره، إنه الأستاذ الدكتور «عبدالملك عودة» الذي تعلقت به الأجيال من تلاميذه الذين يرتبطون به بأقوى الوشائج وأوثق الصلات فقد أعطى وطنه وجامعته وتلاميذه كل حياته دون تطلع إلى منصب أو لهاث وراء موقع، إنه الذى تسلم جثمان أخيه القاضى المرموق بعد إعدامه شهيداً لقضية آمن بها ومات فى سبيلها مهما اتفقنا معه أو اختلفنا حول دعوته، إن «د. عبدالملك عودة» مناضل صلب خرج من طين هذه الأرض الطيبة معبراً عن كل قضية عادلة أو رأى موضوعى أو عمل جاد وعندما ذهب إلى «الولاياتالمتحدةالأمريكية» أستاذاً زائراً عاد وحنين الكنانة يشده متلهفاً على طلابه ساعياً بقوة إلى إصلاح وطنه، ولقد ربطتنى به صلة الطالب بأستاذه ومازلت أتذكر نادرة شهيرة تتحدث عنها أجيال كلية «الاقتصاد والعلوم السياسية» عندما كنت رئيساً لاتحادها «عام 1965» وسعى إلى مدرس جامعى مرموق بالكلية عائد من بعثته فى «الولاياتالمتحدةالأمريكية» ملتمساً منى التدخل للتحدث إلى زميلة لى معروفة بخلقها الرفيع وشخصيتها المثالية طالباً يدها وبعفوية وتلقائية ذهبت إليها ونقلت لها مشاعر الأستاذ الجامعى الجديد ولكنها اعتذرت فى أدب ورقة بالغين، وفى اليوم التالى ونحن فى مدرج الكلية - طلاب السنة الرابعة - استهل «د. عبدالملك» محاضرته الصباحية قائلاً إنه يود أن يقدم الجميع التهنئة للزميل «مصطفى الفقى» رئيس الاتحاد الذى أصبح يعمل «خاطبة»! وسط ضحكات الجميع وضجيج الساخرين والمتسائلين، هكذا كانت روحه دائماً الدعابة أحياناً والجدية دائماً، وفى يوم من الأيام أعطانى رسالة لأسلمها إلى زميلتى الفاضلة «هدى جمال عبدالناصر» التى كانت غائبة ذلك اليوم، وقد كتب فى بدايتها «إلى الرئيس جمال عبدالناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة، من د. عبدالملك عودة الأستاذ المساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية» يشرح فيها معاناته الناتجة عن منع تأشيرة الخروج عنه أحياناً عندما يكون مدعواً لمؤتمرات دولية فى الخارج حيث ظل يدفع فاتورة غالية لظلم وقع عليه ولا يد له فيه، وأشهد أن الرئيس الراحل قد كتب على الالتماس «يرفع اسم» د. عبدالملك عودة من قوائم الممنوعين، ولا يوضع فيها إلا بمعرفتى شخصياً وكانت تلك شهادة تقدير من الزعيم الكبير للأستاذ الجامعى المرموق والذى كان يسمع عنه من أحاديث الابنة النجيبة التى كانت مثالاً للجدية والالتزام. ولقد ربطتنى بالدكتور «عبدالملك عودة» صلات عائلية، إذ كانت الراحلة العظيمة قرينة مشوار حياته السيدة «زينب عزب» المربية والشاعرة تتعامل مع أولادنا مثل أحفادها، لقد ظل «د. عبدالملك عودة» يكبح مشاعره ويكبت أحزانه ويقاوم آلامه طوال رحلة عمره الذى لم يكن سهلاً ولا ميسوراً فحفر بيديه دوره العظيم، ونقش اسمه كواحد من آخر رجال مصر المحترمين، وعندما عمل فى وزارة الإعلام المصرية كان مشهوداً له بالكفاءة والتوازن والبعد عن الصغائر، وعندما تقدمت للدراسة فى جامعة «لندن» «عام 1971» كان هو الذى أرسل إلى بتزكيته هو وأستاذى الدكتور «بطرس بطرس غالى» استيفاء للأوراق المطلوبة للالتحاق بكلية الدراسات الشرقية والأفريقية، إنه «د. عبدالملك عودة» رائد «أسرة النيل» والذى أعطانا من وقته وعلمه ما بخل به الآخرون، فاقترب منه تلاميذه على نحو غير مسبوق وخرجت قوافلهم بدءاً من «على الدين هلال» و«طه خليل»، مروراً ب«حاتم صادق» و«هدى عبدالناصر»، وصولاً إلى «ممدوح عباس» و«ناجى منصور»، حيث غمر الآلاف بأبوته، ونشر الوعى بالدراسات الأفريقية والدولية فى آن واحد، ومازلت أتذكر زيارته لى فى «لندن» وأنا دبلوماسى فى السفارة المصرية صباحاً وطالب فى «جامعة لندن» مساءً، وكيف كانت نصائحه الغالية زاداً لى فى تلك الظروف الصعبة. إنه أستاذى الذى دعانا تلميذه النابه «د. على الدين هلال» لحفل تكريمه فى عيد ميلاده الثمانين بالمجلس الأعلى للثقافة، وأقول اليوم ما قلته فى كلمتى أمامه.. تحية لك يا صاحب العمادات الثلاث الاقتصاد والعلوم السياسية، والإعلام، ومعهد الدراسات الأفريقية.. تحية لك يا أب الأبناء الثلاثة الدكتورين «جهاد وهشام»، أما الثالث فهو كل واحد فينا من تلاميذك عبر العقود الخمسة الأخيرة! بوركت لنا مثالاً للعطاء ونموذجاً للأستاذية ورمزاً للأبوة، أطال الله فى عمرك وأعطاك بقدر ما أعطيت الوطن وأجياله المتعاقبة.