دافعت الكثير من الكتابات الغربية في مجال التحول الديمقراطي عن فكرة الاستثناء الغربي، سواء علي مستوي الأبنية والهياكل السياسية أو الأنظمة الثقافية والاجتماعية. وفي المقابل روجت هذه الكتابات لفكرة استعصاء المجتمعات والثقافات غير الغربية علي بناء أنظمة ديمقراطية علي غرار تلك التي تطورت في المجتمعات الغربية. وراجت في هذا الإطار أفكار من قبيل عدم قابلية المجتمعات الإسلامية والآسيوية لبناء أو احتضان الأنظمة السياسية الديمقراطية. واستندت هذه الكتابات علي تشريح الأبنية الثقافية والاجتماعية لهذه المجتمعات للتأكيد علي ما طرحته من افتراضات أو فرضيات، خاصة تركيز هذه الأبنية علي قيم محددة مثل أولوية الجماعة علي الفرد، وعدم قابلية هذه المجتمعات لاحتضان قيم الحداثة. وقد ساعد علي رواج هذه الافتراضات تأخر عملية التحول الديمقراطي بالفعل في المجتمعات الآسيوية، خاصة إذا ما تم إخضاع تجارب هذه المجتمعات في التحول الديمقراطي للمؤشرات الغربية (التعددية الحزبية، الانتخابات الدورية، تداول السلطة...إلخ). فقد تأخر انهيار الأنظمة السلطوية وبدء عملية التحول الديمقراطي في العديد من هذه الدول - مثل إندونيسا، وماليزيا، والفيليبين وكوريا الجنوبية- إلي نهاية عقد الثمانينيات من القرن العشرين (سقوط نظام فرديناند ماركوس في الفيليبين في سنة 1986، إجراء أول انتخابات رئاسية ديمقراطية في كوريا الجنوبية في سنة 1987، سقوط نظام سوهارتو في مايو 1998، وإجراء أول انتخابات رئاسية مباشرة في تاريخ إندونيسيا في سنة 2004)، وهو ما أدي إلي تأخر استقرار تصنيف الأنظمة الآسيوية ضمن الديمقراطيات العالمية إلي نهايات الثمانينيات أو التسعينيات في بعض الحالات. مؤشر polity وعلي سبيل المثال، فقد استقر وضع إندونيسيا عند قيمة 6 درجات علي مؤشر Polity (وهو مؤشر يجريه مركز السلام النظاميThe Center for Systemic Peace (CSP)، يقيس تطور حالة الديمقراطية في دول العالم عبر سلسلة زمنية تبدأ من سنة 1800 خلال الفترة (1999- 2013) وذلك مقارنة بتراوحه بين (2- 3) درجات خلال الفترة (1995- 1997). كذلك فقد استقر وضع الفليبين علي المؤشر ذاته بين 6، أو 7 درجات خلال الفترة (1987- 2013)، مقارنة بدرجتين فقط خلال الفترة (1981- 1985)، ودرجة واحدة خلال الفترة (1972- 1980). وواقع الأمر إن استقرار عملية الانتقال الديمقراطي واستقرار تصنيف العديد من الديمقراطيات الآسيوية ضمن الديمقراطيات العالمية الناشئة خلال العقدين الأخيرين، أو العقود الثلاث الأخيرة في بعض الحالات، يثير الجدل حول مدي قدرة الافتراضات الغربية حول الاستثناء الديمقراطي علي الصمود، ويدحض أيضا فكرة الاستثناء الديمقراطي الغربي، علي نحو يدفع إلي التساؤل هل نحن بالفعل إزاء حالة من الاستعصاء الطبيعي والتاريخي أو البنيوي في الأنظمة الثقافية والاجتماعية الآسيوية علي الديمقراطية، أم نحن إزاء حالة من الخصوصية، بدءا من خصوصية مسار التحول والانتقال، وانتهاء بخصوصية النموذج؟ وفي هذا الإطار يمكن هنا طرح عدد من الملاحظات العامة حول النموذج/ النماذج الآسيوية في الديمقراطية التي تدحض من فكرة الاستعصاء. التنمية أولا الملاحظة الأولي، هي خصوصية علاقة التفاعل بين عمليتي التنمية والانتقال الديمقراطي. فعلي العكس من التجارب الغربية التي قامت تاريخيا علي أسبقية التحول الديمقراطي علي التنمية، علي نحو أنتج درجة من تبعية التنمية لعملية الانتقال الديمقراطي، ما أسس لصياغة الكثير من الفرضيات، أو بالأحري الافتراضات، الغربية حول كون الديمقراطية شرطا ضروريا لنجاح عملية التنمية، فقد نجحت التجارب الآسيوية في المقابل في تأكيد إمكانية، بل وربما ضرورة أو حتمية، إنجاز مسألة التنمية قبل الانتقال إلي مرحلة التحول الديمقراطي. وتقدم حالات كوريا الجنوبية، وإندويسيا، وماليزيا، والفيليبين أمثلة واضحة علي هذه الفرضية. كما لازالت تجربة الصين تنطوي علي إصرار النخبة السياسية الحاكمة علي أولوية إنجاز مسألة التنمية قبل الانتقال الديمقراطي. ورغم إدراك هذه النخبة لصعوبة تجاهل عدوي الانتقال الديمقراطي بين الأقاليم الجغرافية، إلا أنها مازالت تمسك- عن وعي- بالربط بين مستوي وجرعة التحول الديمقراطي من ناحية، ومستوي التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتقليل الفجوات التنموية بين الأقاليم، من ناحية أخري، بل وأسبقية واضحة في عملية مهندسة لمسار التنمية علي مسار التحول الديمقراطي، علي نحو يؤكد تبعية واضحة للأخير لمسار التنمية. وبالتالي، فإن الأمر لا يتعلق هنا باستعصاء عملية الانتقال الديمقراطي بقدر ما يتعلق بدرجة من خصوصية المسار. مسلمو اسيا الملاحظة الثانية، أن بعض المجتمعات الآسيوية نجحت في دحض فكرة استعصاء الثقافة والمجتمعات الإسلامية علي الديمقراطية. وتقدم حالتا إندونيسيا وماليزيا نموذجين مهمين في هذا المجال. كما قدمت الأقلية المسلمة في الهند نموذجا علي قابلية المسلمين للاندماج في النظام الديمقراطي. كما قدمت الأغلبية المسلمة من المالاي في ماليزيا نموذجا آخر علي إمكانية القبول بالتباين بين نمطي توزيع الموارد الاقتصادية، والموارد السياسية، وذلك عندما قبلوا بفكرة الوضع الاقتصادي المتميز نسبيا للأقلية الصينية، والهندية إلي حد ما، مقابل وضع سياسي متميز نسبيا لأغلبية المالاي دون أن يأتي ذلك في سياق محاصصة سياسية. مرة أخري، فإن الأمر هنا لم يتعلق بالاستعصاء الإسلامي علي الديمقراطية بقدر ما يتعلق بمدي توافر شروط أخري مهمة لحدوث هذا التحول، ترتبط- علي سبيل المثال لا الحصر- بمستوي التنمية الاقتصادية والاجتماعية المتحقق، ومدي وجود نخبة وقيادة سياسية لديها الرغبة والقدرة علي التوافق ووضع مجتمعاتها علي مسار التحول الديمقراطي، ومدي وجود بيئة إقليمية مواتية لحدوث هذا الانتقال تغيب عنها الصراعات الإقليمية الحادة والممتدة. ديمقراطيات أغلبية في مجتمعات تعددية الملاحظة الثالثة، هي نجاح هذه الدول في التعامل مع حالة التعددية الدينية والعرقية في إطار النموذج التقليدي لديمقراطيات الأغلبية majoritarian democracies. فعلي العكس من النظريات، أو النماذج التطبيقية، الغربية التي روجت لفكرة أقلمة أو تكييف الأنظمة الديمقراطية مع واقع التعددية الدينية والعرقية في بعض المجتمعات، خاصة نماذج الديمقراطيات التوافقية consociational democracies القائمة علي المحاصصة الدينية أو الطائفية أو العرقية، بمعني توزيع الموارد السياسية، والاقتصادية، علي أساس الدين أو الطائفة أو العرق، والتي نظرت لها كتابات آرند ليبهارت Arend Lijphart، في نهاية عقد الستينيات وخلال عقد السبعينيات من القرن العشرين، فقد نجحت دول آسيوية في بناء ديمقراطيات طبيعية، في ظل مجتمعات تعددية (حالات الهند، وماليزيا وإندونيسيا)، ولم تأخذ بنموذج الديمقراطيات التوافقية. وهكذا، مرة ثالثة، مثلت هذه النماذج ذاتها خروجا عن الأفكار التقليدية التي قدمتها أو روجت لها النظريات والنماذج التطبيقية الغربية. قبول آسيوي للديمقراطية المفروضة من الخارج الملاحظة الرابعة، هي ما أثبتته بعض المجتمعات الآسيوية من استعداد كبير لقبول واستيعاب الأنظمة الديمقراطية المفروضة من الخارج. فعلي العكس من فشل القوي الدولية، ممثلة بالأساس في الولاياتالمتحدة، في فرض القيم والأنظمة السياسية الديمقراطية المهندسة من الخارج علي العديد من المجتمعات (تمثل حالتا أفغانستان والعراق نموذجين مهمين في هذا المجال)، فقد نجحت الولاياتالمتحدة في فرض مثل هذا النظام علي اليابان بعد الحرب العالمية الثانية. وعلي الرغم من أن نجاح أو فشل هذه السياسة- استنادا إلي دراسة تاريخ هذه الظاهرة- كان راجعا في جزء منها إلي طبيعة النظام الدولي والبيئة الإقليمية التي جري فيها تطبيق هذه السياسة، فضلا عن طبيعة سياسات القوي الخارجية صاحبة هذه المشروعات بما في ذلك الأوضاع الداخلية داخل هذه الدول، إلا أن جزءا كبيرا من نجاح أو فشل هذه التجارب كان راجعا أيضا إلي طبيعة المجتمعات التي خضعت لفرض هذه الأنظمة. وهكذا، يمكن القول هنا أيضا أن المجتمعات والثقافات الآسيوية كانت أكثر استعدادا وقبولا من غيرها لسياسة فرض الديمقراطية من الخارج، خاصة بالمقارنة بالمجتمعات الإسلامية، الأمر الذي يدحض من فكرة الاستثناء والاستعصاء علي الديمقراطية.