سرعان ما تحولت مطالب الجماهير العربية الإصلاحية في الانتفاضات التي شهدتها ومازالت في بعض الأقطار العربية إلى مطلبٍ واحد فقط؛ ألا وهو إسقاط النظام. لقد استطاع المصريون والتونسيون تحقيق هذا الهدف، لكن هل استطاعوا أن يبنوا نظاماً جديداً؟ أو أن يجدوا بديلاً للنظام السابق؟! فبعد عدة شهور مازال العسكر، يمسكون بزمام الأمور في بلادهم رغم تعهداتهم المتكررة بتسليم السلطة السياسية إلى هيئات سياسية منتخبة من قبل الشعب. وفي تونس لاتزال الأمور تتراوح في مكانها. فهل يعني تغيير شخص الرئيس أن النظام السياسي قد تغير؟ النظام السياسي في أي مجتمع لا يتغير إلا عن طريق الاحتلال أو بتحول ديمقراطي صحيح، على سبيل المثال لا الحصر، بعد الاحتلال الأمريكي للعراق تغير النظام وتم اجتثاث كل ما يتعلق به من شؤون سياسية وعسكرية واجتماعية واقتصادية وتربوية، لكن هذه الانتفاضات التي حدثت لحد الآن لم تحدث أي تغيير سياسي يذكر في بلادها سوى خلق فجوة سياسية أدت إلى شرخ الأمن وتعثر الاستقرار الاقتصادي وتفشي أعمال العنف والشغب. إن الجميع يدرك بأن هذه التظاهرات والاضطرابات السياسية لم تأت من فراغ إنما نتاجاً لوجود خلل في المجتمعات العربية؛ كاستشراء الفساد وتغييب المشاركة الشعبية، وفشل التنمية الاقتصادية، والالتواء الديمقراطي. ومن السهل جداً أن يتم إسقاط أي نظام سياسي إلا أنه من الصعب بناء نظام سياسي جديد، فالنظام السياسي الجديد يتطلب الكثير من العمل السياسي والفكري، والجهد الاقتصادي، ولا يمكن تجاوز عثرات التأسيس الجديد إلا من خلال وجود خبرة سياسية وفكرية نشطة تتميز بأعلى درجات الالتزام وبتحمل المسؤولية في ذلك البناء. وهذه النخبة قد تكون موجودة وتحملت مسؤوليات سياسية واقتصادية في النظام السابق، أو أنها تكون موجودة في المجتمع إلا أنها مُهمشة لما تحمله من رؤى سياسية وأطروحات اقتصادية تحقق فعلاً التغيير المنشود الذي تخاف منه هيئات وأشخاص النظام السابق. إلا أنه بين فترة إسقاط النظام السابق وبناء النظام الجديد قد تقع البلاد فيما لا يُحمد عقباه من اختلافات بين أشخاص العهد الجديد ومخاطر الانزلاق في الفتن الدينية والمذهبية، وما جرى مؤخراً بين المسيحيين والمسلمين في مصر يُشير إلى حقيقة ذلك. إن من أهداف المطالبين بإسقاط أي نظام هو تأسيس نظام رئاسي ديمقراطي أو برلماني، إن الديمقراطية ليست فقط انتخابات وترشيح، بل هي أكثر من ذلك، فممارستها تشترط الوعي الجماهيري، وهذا الوعي لا يتجزأ، فهو وعي تربوي وإنساني وأخلاقي وسياسي واجتماعي واقتصادي وحقوقي ومهني، وبناء هذا الوعي يحتاج إلى الكثير من الوقت، فالكثير من الدول أصبحت لديها استعصاء ديمقراطي بسبب عدم تكوين هذا الوعي لدى الناس، مما خلق التفاوت الاجتماعي بينهم وعدم التناغم بين النمو والتنمية لهذه الدول. لقد غابت وحدة التفاعل العربي في هذه الانتفاضات، فتم اعتبار ما حدث في قطر عربي بمثابة ثورة وفي قِطرٍ آخر تمرد وفوضى؛ نعم الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية متشابهة في الأقطار العربية إلا أن هناك خصوصيات لهذه الأقطار، وخصوصية كل قِطر يجعل ما حدث في مصر أو تونس يختلف شأنه في هذا القِطر العربي أو الآخر. وصحيح أن في الديمقراطية علاج لمختلف الأمراض المجتمعية.. ولكن هل أشخاص النظام الجديد سيمارسون النهج الديمقراطي؟ أم أنهم سيمارسونه ضد شعبهم وسيمنعون شعبهم من ممارسة هذا الحق؟ الجميع يتوق إلى التطور والارتقاء، وإلى نهضة عربية حقيقية، وعلى الجميع أن يدرك أن الخيار الوحيد لهذه النهضة هو الاتجاه نحو الإصلاح، والانتقال التدريجي المُنظم والواعي إلى الديمقراطية وممارستها، وتحسين أحوال الناس بخطى متسارعة، فهناك أحوال لا تحتمل التأجيل، والظروف التي تعيشها أقطارنا العربية تستدعي نقلة ديمقراطية لتحقيق علاقة وشراكة مجتمعية حقيقية التي ستحدد مستقبل الوطن العربي وآفاق تطويره. فعندما نفكر مرةً واحدة بإسقاط النظام السياسي علينا التفكير مئات المرات بل الآلاف ما هو البديل المنتظر؟ هل هو بديل محلي؟ أم بديل أجنبي مستورد؟ -------- عن صحيفة "الوطن" البحرينية