باختلاف الباحث، ونموذج المجتمع البشري، والحضارة، يختلف الفهم في ما يتعلق بالهوية، ما يعطي لمفهومها عدة تعريفات، تختلف فيما بينها، لكنها تتفق في الإطار العام على أن: 1- الهوية ليست معطىً منجزاً ونهائياً ومنغلقاً على ذاته، وإنما هي قابلة، تبعاً لتطور التاريخ والحضارة، من زمن لآخر، للتفاعل والتحوير والتطوير والتحول، ما يجعلها تمرُّ بحالة من النمو والازدهار أحياناً، أو تعيش حالة من الركود والخمول والانكماش، أحياناً أخرى . 2- الهوية، وإن كانت تعني شعوراً جمعياً لشعب ما، يرتبط أفراده ببعضهم، وجوداً ومصيراً، بفعل ما يجمعهم، ويميزهم عن غيرهم، من سمات روحية وفكرية وطرائق حياة وإنتاج اقتصادي وثقافي، إلا أنها، لا تعني نفيَ الاختلاف في ما بينهم، فالهوية الحقة هي وحدة من التطابق والاختلاف . 3- الهوية، وإن كانت ترتبط، (غالباً)، بمستوى وعي أفراد شعب ما، بما لهم من ذات وخصوصية، إلا أنها ترتبط أيضاً، (أحياناً)، بوجود آخر نقيض، يهدد هذه الذات وهذه الخصوصية . وهذا ما ينطبق على تجربة تشكل الهوية العربية، إذ بالرغم من وجود العرب على أرضهم، منذ آلاف السنين، فإن حديثهم عن هويتهم، تبلور أكثر، في الفكر والسياسة، بعد الصدمة القاسية، التي جسدها النشاط الاستعماري، وما قام به من تقسيم للوطن العربي، إلى عدة دول، بل، وإعطاء جزء منه، فلسطين، “وطناً قومياً لليهود” . فمنذ الحرب العالمية الأولى، التي أفضت إلى تقسيم الوطن العربي، صار التجسيد العملي لهوية الأمة العربية، فكرياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً، صيرورة، (وعيٍ وممارسةٍ) ذاتية، إنما في حالة صراع مفتوح، مع آخر نقيض، تمثل في “غرب” استعماري، أفشل، ولايزال، محاولات العرب بناء دولتهم الواحدة، (الدولة الأمة)، ما فرض دخولهم في مرحلة “التحرر القومي والوطني”، التي خفَّ الحديث فيها عن الدولة العربية بمفهومها الفلسفي والنظري، لمصلحة الحديث عن دورها في تحديد الهوية العربية وحمايتها، باعتبار أن المطلوب واقعاً، بمعزل عن الانزياحات الذاتية وشططها، إنما هو دولة ذات نهج وطني وقومي معادٍ للاستعمار والتبعية . إزاء ذلك، وبسببه، (بصورة أساسية)، تجاوز المفكرون والمنظرون العرب بدرجة كبيرة، وكسمة غالبة، “الطابع الاستبدادي والشمولي لسلطة الدول القُطرية العربية”، وتساهلوا مع ما قامت به من خرقٍ للدساتير والقوانين الناظمة، ومن قمعٍ فظ للمعارضة ومصادرة لحقوق المواطنين وحقهم في التعبير عن الرأي وتشكيل الأحزاب و . . .الخ من صور القمع للمجتمع العربي، (بشقيه السياسي والمدني)، الذي خضع لعملية تصحرٍ وتجريفٍ منقطعة النظير، حرمته من التطور والازدهار، وطمست ما يتوالد في أحشائه من طاقات شبابية ناهضة، وأجيال جديدة، لديها الكثير مما تقدمه، وتعطيه، وتضيفه، لصيرورة تحديد الهوية العربية وبلورتها وحمايتها، فكرياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً . ظلَّ الأمر كذلك حتى نهاية العقد الأول من القرن الحالي، حيث لم تثمر التجربة العملية لصيرورة تحديد الهوية العربية عن ملامح دولة قومية واحدة، مثلما لم تفضِ إلى استرداد فلسطين، بل، وتعرض العراق للاحتلال المدمر، فيما يتعرض الصومال للتمزيق، وانتهى السودان إلى تقسيم فعلي، ينذر بوقوع شبيهه في أكثر من قُطر عربي . لقد وشى كل ذلك بوصول المشروع القُطري إلى طريق مسدود، لا في عدم قدرته على التحديد الفعلي للهوية العربية وحمايتها فقط، بل أيضاً في عدم قدرته على بناء دولة وطنية ديمقراطية ومستقلة اقتصادياً . بهذا، وبفعله، اتضحت أكثر فأكثر، أهمية البعد الديمقراطي للهوية العربية، وكان طبيعياً أن يهبَّ الشباب العربي، في أكثر من قُطْرٍ عربي، مطالبين بمواصفات ديمقراطية للدولة القُطْرية العربية، متجاوزين بذلك ما كان سائداً من تبريرات “سلطوية”، غيبت دور البعد الديمقراطي وأهميته، في صيرورة تحديد الهوية العربية وبلورتها وحمايتها، وفصلته، بتعسف، عن دور البعدين الوطني والقومي في هذه الصيرورة . فقد كان لافتاً تطور هذه الهبات الشبابية، (على عكس هبات شعبية سابقة تم قمعها وإخمادها)، إلى انتفاضات شعبية عارمة ومتواصلة، انتقلت بسرعة قياسية من قُطْرٍ عربي إلى آخر، بل، وتطور مطلبها بإجراء تغييرات إصلاحية سياسية واجتماعية واقتصادية، إلى مطلب “الشعب يريد إسقاط النظام”، كناظم سياسي عام لهذه الانتفاضات، التي طال لهيبها أنظمة “الاعتدال” و”الممانعة”، على حد سواء . بهذه الانتفاضات الشعبية، التي فجرها الشباب العربي، استبشر كل عربي بدفع صيرورة بلورة الهوية العربية، خطوات كبيرة للأمام، من خلال إغنائها بشرطها الديمقراطي، لكن، ومن أسف، فإنه، وبينما شكَّل استبداد الأنظمة وقمعها وفسادها وتبعيتها، تعطيلاً تعسفياً لهذا الشرط، نجد أن “المعارضات” العربية، التي، بتياراتها المتنوعة، لم تحظَ بشرف إشعال الشرارات الأولى للانتفاضات الشعبية، بل، ولحقت بركبها بعد تردد، قد عادت، بعد خفوت نسبي مؤقت لمدة عام، هو عمر الحراك الشعبي، إلى ديدن الصراع على قضايا، تقع عملياً خارج الأجندة الفعلية للانتفاضات الشعبية، بل، ويهدد الاستغراق في هذا الصراع، بتحويل الخلاف الفكري والسياسي المشروع بين التيارات المتنوعة على مواصفات الدولة ونظامها السياسي، إلى خلاف على هويتها . تبدى ذلك جلياً، سواء في تجرؤ بعض أطراف هذه المعارضات على الاستعانة بالأجنبي، الغربي أو الإقليمي، وطلب تدخله، كما حصل في ليبيا، ويحصل الآن في سوريا، أو في غلو بعض أطراف هذه المعارضات، التي عمدت إلى تقسيم المجتمع إلى “فسطاطين”، أحدهما “مؤمن”، والآخر “كافر”، كما يحصل في مصر . إن الغرق في هذا البحر المظلم من الصراع الذاتي التائه، بوعي أو بجهالة، لا يهدد فقط مصير ما أطلقته الانتفاضات الشعبية من صيرورة للتحول الديمقراطي، الذي يعزز البعد الوطني والقومي للهوية العربية، بل، ويهدد أيضاً بخلط الحابل بالنابل في صيرورة هذه الهوية، التي يبقى شأن بلورتها وحمايتها، قابلاً للتفاعل والتحوير والتطوير والتحول، من جهة، ومرهوناً بتوافر الشرط الديمقراطي، الذي يقر بحقيقة أن الهوية وحدة من التطابق والاختلاف، من جهة ثانية، ومرتبطاً بحسم علاقة التبعية للغرب، بوصفه ناهباً ومسيطراً، من جهة ثالثة . نقلا عن صحيفة الخليج الإماراتية