يبدو مسار الحركة الوطنية المصرية المعاصرة ، شاهدا علي انجاز شهدي عطية الفكري والسياسي، كاستمرار لأرقي التقاليد الوطنية الراديكالية ، وتتويج لعطر فاح بندي الفقراء والصنايعية والفلاحين والطلبة والمثقفين المصريين ، وهو ما عبر عنه في طروحاته ، تلك التي مازالت تضمر قابليتها لإنضاج ملابسات الحاضر ، وتداوم راهنيتها بتألق لدواعي الاشتراكية. معاينة هذا الانجاز ، تضع اليد علي محطات ثلاث أساسية له ، تبدأ بانتفاضة الطلبة (1935 ) ، مرورا بلجنة العمال والطلبة (1946) ، وانتهاء بثورة يوليو (1952) ، عاصر فيها الأولي ، وشارك في الثانية ، واستشهد في الثالثة . وعادة ما يشار إلي انتفاضة 1935 ، باعتبارها من أهم ما قدمته الحركة الطلابية ، حين لعبت دوراً بارزاً في تحريك الشارع السياسي ضد ممارسات الاحتلال ، واتفاقية صدقي - بيفن ، ومشروع تحالف الشرق الأوسط ، وفي ظل تغير جوهري في شكل العالم ، مع اشتداد الصراع بين الفاشية والرأسمالية والنازية والاشتراكية ، فيما ازدحم المشهد المصري بوقف العمل بدستور 1923 ، وحل البرلمان بمجلسيه وتزييف انتخابات 1931 ، ومصادرة حق الطبقة العاملة في إقامة تنظيماتها ، وحرمان القوي التقدمية من حق التواجد في الساحة السياسية ، وصدور قانون " حفظ النظام في معاهد التعليم " ، علق عليه شهدي بأنه صدر بهدف عزل الطلاب عن الكفاح الوطني . وقد بدأت الانتفاضة بإضراب المدارس والكليات ، وخروج المظاهرات ، وسقوط عشرات الجرحي والشهداء ، وأسفرت عن تكوين جبهة قومية موحدة من أغلب الأحزاب ، لعب فيها الطلبة دوراً رئيسياً ، وان اخفقت مع محاولات شقها ، ليتوج كفاحها بعودة دستور 1923 ، والشروع في إجراء انتخابات جديدة ، ومهدت لإلغاء جميع الامتيازات الأجنبية ، وفتح الطريق لإنشاء نظام قضائي جديد يساوي بين كل المصريين ، ثم دخول مصر في عضوية عصبة الأمم عام 1937 ، كاعتراف بوجودها ككيان سياسي مستقل . وفي اهاب هذه الانتفاضة ، تعلم شهدي درساً مهما ، هو ضرورة البحث عن أساليب جديدة للنضال ، وكان أيامها مستغرقا في نشر مقالات علمية في مجلة الرسالة ، وقصتين في ( مجلتي ) ، ما دفعته إلي تحديد خياراته ، لينضم تاليا إلي منظمة إيسكرا " الشرارة" . أما المحطة الثانية ، فتمثلها انتفاضة العمال والطلبة عام 1946 ، التي قادت رفض المفاوضات ، وإدخال مصر في سياسة التكتلات ، والإبقاء علي قواعد عسكرية في مصر والسودان ، وبدت كمحاولة للافتكاك من أساليب الاستقطاب والمنافسات الحزبية . وسبق هذه الانتفاضة ، قيام الطلبة الذين ينتمون للحركة المصرية للتحرر الوطني (حدتو ) وايسكرا والطليعة الوفدية ومنظمات يسارية أخري ، بتشكيل لجان طلابية في خريف عام 1945 ، أصبحت فيما بعد اللجنة التحضيرية للجنة الوطنية للطلبة ، وقاد شهدي مجموعة من الشباب الاشتراكي ( عبد الواحد بصيلة ، جمال غالي ، سعد زهران ، جمال شلبي ، عبد المنعم الغزالي ، محمد يوسف الجندي ، فاطمة زكي ، لطيفة الزيات ...) كان لها دور بارز في تأسيس هذه اللجنة ، التي أصدرت ما عرف بميثاق 17 فبراير 1945 ، ونص علي الجلاء التام ، وتدويل القضية المصرية ، والتحرر من العبودية الاقتصادية . وفي نفس الوقت ، أقام العمال المنتمون إلي المنظمات الشيوعية " لجنة العمال للتحرر القومي " . واندمجت حركتا الطلبة والعمال في جبهة واسعة ، حين قمعت الحكومة اتحاد عمال النسيج ، واحتلت شبرا الخيمة بالقوات العسكرية ، واندلعت شرارة هذا التحالف بفعل مذكرة قدمتها الحكومة المصرية لبريطانيا ، تقترح فيها التفاوض بشأن معاهدة 1936 علي أساس التحالف العسكري بين البلدين . واتخذ هذا الاندماج شكل جبهة وطنية متحدة ، عرف باسم ( اللجنة الوطنية للعمال والطلبة ) ، قادتها طلائع مختلف فصائل الحركة الشيوعية وشباب الوفد واتحاد نقابات العمال ، وضمت مندوبين منتخبين انتخابا ديمقراطيا علي جميع مستويات اتحادات الجامعات ونقابات العمال وطلاب المدارس الثانوية والفنية ، ومعهم انتخبت لطيفة الزيات أمينا عاما للجنة . وساعد علي حضور فعالياتها ، قرارات إنهاء الرقابة علي الصحف ، وإباحة الاجتماعات العامة ، ورفع الأحكام العرفية ، التي صدرت عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية . وكان لشهدي دوره القيادي في التحضير لقيام هذه اللجنة التي قادت يوم 21 فبراير 1946 ، يوم النضال الكبير ضد الاحتلال البريطاني . ومع تواصل مطالباتها بالجلاء التام عن وادي النيل كأساس للمفاوضات ، وسحب الموظفين الانجليز من البوليس المصري ، ومقاطعة اللغة الانجليزية ، قام رئيس الوزراء إسماعيل صدقي بحملته المشهورة باسم " قضية المبادئ الهدامة " أو قضية الشيوعية الكبري " وكان ضمن قراراته حل اللجنة وإغلاق دار الأبحاث العلمية التي أسسها شهدي . ورغم قصر عمر هذه اللجنة ، يجوز القول إنها مثلت تحالفا ضد الإقطاع والسراي والرأسمالية ، وضد أي اتجاه للمساومة والتهادن مع المستعمر ، واحتضنت مشاركة المرأة وكرست زعامات لها ( لطيفة الزيات ، عائشة راتب ، ثريا أدهم ، ليلي تكلا ، فاطمة زكي ...) وأجبرت قوات الاحتلال علي الجلاء عن المدن الرئيسية والتمركز في منطقة قناة السويس ، واسهمت في تطوير الشعارات المرتبطة بقضية السودان ، وأجبرت القيادات الحزبية علي تعديل برامجها ، وهو ما ظهر في تبلور كتلة قوية من الطلبة والشباب داخل حزب الوفد وضد قياداته التقليدية والمهادنة ، عرفت بالطليعة الوفدية ، ودفعت بالحزب الوطني إلي تجديده بتأليف ( الحزب الوطني الجديد ) عام 1948 ، وتحول جمعية مصر الفتاة إلي ( الحزب الاشتراكي ) عام 1949 ، ورفض الجماهير لفكرة التفاوض ، وهو ما وضح في اعلان الكفاح المسلح في منطقة القناة عام 1951 . الوحدة وما يهمنا هنا ، أن هذه اللجنة دفعت بمنظمتين رئيسيتين في الحركة الشيوعية (إيسكرا، وحمتو ) إلي توحيد صفوفهما في ( الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني ) عام 1947 ، ليصبح شهدي عضوا في لجنتها المركزية ، ومحرراً سياسياً لجريدة ( الجماهير) التي صدرت في 21 ابريل 1947 عن إيسكرا ، وإن لم تكن تملكها رسميا .كلسان حال "العمال والفلاحين والطلبة والموظفين " ، وشن فيها حملته ضد الارتماء في أحضان السيد الجديد " الاستعمار الأمريكي ". لكن شهدي انتقد هذه الوحدة ، ورآها تمت بتسرع ، وأنجزت تحت الضغط ، وأقيمت بغير برنامج واستراتيجية واضحة ، وجنب ذلك مثلت تهديدا مباشرا لمجموعة جريدة الجماهير ، التي كان عليها أن تستغني عن نصف هيئة تحريرها ، كي تخلي مكانهم لأعضاء حمتو . وكان شهدي ضحية هذه السياسة ، حين فقد عضويته باللجنة المركزية ، فتمرد علي حدتو ، وكون مع أعضاء انشق بهم ( التكتل الثوري ) . ومع إعلان الأحكام العرفية في مايو 1948 ، تم القبض علي معظم أعضاء هذا التكتل ، وصدر الأمر باعتقاله ، لكنه تمكن من الاختفاء شهوراً ثلاثة ، ليعتقل نهاية عام 1948 ، ويصدر ضده حكم بالأشغال الشاقة مدته سبع سنوات ، قضاها في ليمان طرة . وجاءت ثورة يوليو 1952 كمحطة ثالثة وأخيرة في رحلة شهدي ، وكانفجار حتمي لوضع متفجر ، وثمرة لاحتدام المسألة الاجتماعية ، وفشل " العهد البائد " في تحقيق آمال الاستقلال والتقدم والديمقراطية ، وفي ظروف تواتر أوضاع جديدة في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية ، يقف علي رأسها قيام المنظومة الاشتراكية فيما يقرب من ثلث العالم ، واكتسابها قدرة أوسع مما كانت عليه أيام ثورة 1919 ، واندلاع حركات التحرر الوطني في آسيا وأمريكا اللاتينية ، وتقلص الإمبراطورية البريطانية ، وظهور الولاياتالمتحدة كوريث للاستعمار الأوروبي ، وتخطيطها للهيمنة علي مصادر الطاقة ، وتصاعد الحرب الباردة بين القوتين العظميين . وفي مصر ، كانت الحركة الشيوعية ، ورغم القلة النسبية لأنصارها ، أهم تيار سياسي منذ الأربعينيات ، حيث نجحت عن طريق التواصل مع الحركة الوطنية ، في انتزاع قطاعات كبري من تأثير خطاب الأصالة ونفوذ النزعة الليبرالية المحافظة ، وإدماجها في خطاب التحرر الوطني الراديكالي ، وقدمت صيغاً جديدة للإشكالات المطروحة علي خلفية من البناء الديمقراطي ، وساهمت نظريا في تيسير فهم مصطلحات كالمثالية والمادية ، الوجود والوعي ، النظرية والممارسة وجعلها حاضرة في الثقافة العامة . حدتو والجيش وكان لحدتو وجود نشط داخل الجيش قبل الثورة ، تولته لجنة تضم خالد محيي الدين ويوسف صديق وأحمد حمروش ، وقطع التعاون بين حدتو وتنظيم الضباط الأحرار شوطاً كبيراً ، لدرجة أن منشورات هؤلاء الضباط كانت تطبع وتوزع بأجهزة حدتو ، الذي اختص وحده بمعرفة موعد قيام الثورة ، وكان أول من أيدها بمنشور تم توزيعه فجر 23 يوليو ، ووصفها بالحركة الوطنية ، وأصدر المعتقلون اليساريون ، وضمنهم شهدي ، بيانا بتأييدها عنوانه " نحن نؤيد هذه الحركة ونبتهج ". وبعد قيام الثورة بيومين ، تم الإفراج عن معتقلين سياسيين ، واستبقي عدد من الشيوعيين ، منهم شهدي ، في المعتقلات . وفي منتصف أكتوبر نفس العام ، صدر قرار بالعفو الشامل عن المحكوم عليهم في الجرائم السياسية ، مع استثناء الشيوعيين من هذا القرار بذريعة أن الشيوعية عمل موجه ضد النظام الاقتصادي والاجتماعي للدولة . ولقد يمكن القول إن مشروع يوليو أفاد من تراكم فعاليات الحركة الوطنية التي سبقته ومهدت له ، وبالذات حين تبني بعضا مما ورد في البرنامج الذي طرحه شهدي مع عبد المعبود الجبيلي عام 1946 في كتابهما ( أهدافنا الوطنية ) حول الإصلاح الزراعي وملكية المشروعات العامة . علي أنه ، ورغم إجراءات وتوجهات قدمتها الثورة ، كانت أدعي للانفتاح علي إمكانات للتطور أكثر عمقا وفعالية ، إلا أنها حملت بذور إجهاضها من داخلها ، حين استهدفت التحرر لا الحرية ، وقايضت حرية المواطن بحرية الوطن ، مغفلة أن كلا المفهومين ، التحرر والحرية ، ليسا متماثلين . ذلك أن التحرر قد يكون شرطاً للحرية ، لكنه لا يقود إليها آليا . ذلك أنها وضعت أمامهما أهداف التحرر من الاستعمار والتبعية والاستغلال ، دخلت من أجلها معارك الإصلاح الزراعي وتأميم القناة والتمصير والسد العالي ، لكنها لم تول قضية الحرية اهتماماً مثيلاً ، ونحت إلي فرض وصاية علوية علي الجماهير ، مما مكن القوي المضادة من التسلل والنمو والانتعاش . وقد تكونت هذه القوي المضادة من صفوة رجال المؤسسة العسكرية ، وعناصر من ملاك الأراضي ، وأصحاب الشركات الصناعية وكبار التجار ، والفئات التكنوقراطية والبيروقراطية التي تسللت إلي مواقع إدارة أغلب المؤسسات الإنتاجية ، واستحوذت علي الأراضي التي لم توزع وبنوك المال التي مصرت ، وحصة الأجانب في عدد من الشركات الصناعية والزراعية ، ومع حرمانها الجماهير من حق المشاركة السياسية . ثورة وطنية ومع ذلك ورغمه ، رأي شهدي في يوليو ثورة وطنية معادية للاستعمار ، ودعا إلي وحدة جميع فصائل القوي الوطنية والتقدمية لمؤازرة إجراءاتها ، وأيد بعد باندونج سياسة التعاون العربي ، بقدر ما يتحقق عن طريق شعوبه ، ويؤدي إلي إصلاح اجتماعي اقتصادي ، ويقاوم الاستعمار ، وشارك في الجبهة المتحدة للمقاومة الشعبية أيام العدوان الثلاثي ، وندد به في كتابه ( ماذا تريد أمريكا من الشرق الأوسط ) ، وافتتح مكتب مصر للترجمة والنشر ، وأصدر كتابه ( تطور الحركة الوطنية المصرية )، ونشر روايته ( حارة أم الحسيني ) علي صفحات جريدة ( المساء ) . ومع معارضة الشيوعيين في مصر وسوريا والعراق للوحدة ، بدأ الهجوم عليهم في مصر ، وسيق شهدي مع مئات من المثقفين والعمال والفلاحين إلي السجن في أول يناير 1959 ، وأبعد خالد محيي الدين عن رئاسة تحرير جريدة ( المساء ) بعدها بشهرين . من داخل سجنه ، أرسل شهدي رسالة إلي عبد الناصر ، أكد له فيها أن حملة العداء للشيوعية لم تكن إلا من تدبير القوي الاستعمارية والرجعية ، لإضعاف جبهة التحرر الوطني العربي . وهكذا ، في المسافة بين شرط التحرر ورهان الحرية ، بين الثورة والثورة المضادة ، بين تنظيم الدولة الأوحد ( هيئة التحرير ، الاتحاد القومي ) ودعوة شهدي إلي جبهة وطنية متحدة ، بين طموحه إلي ثورة قومية ديمقراطية بزعامة عبد الناصر وهجومه علي القوي الرجعية المصرية والعربية ، سقط شهدي شهيدا . ونسجل هنا ، أن الأمر في هذه الرحلة ، يندرج في سلسلة سياقية متواشجة ، ممهورة بإسنادات متراكبة ، يضعنا شهدي قبالتها : فكر ماركسي وطني ، استعادة للمجال العام، وجبهة وطنية متحدة ، يجدر فتح بشارة وعيها الصحيح علي مصراعيها . نحو فكر ماركسي وطني : ومطالعة أدبيات الحركة الشيوعية المصرية منتصف الثلاثينيات ، يشي بموافقة هذه الحركة علي إدراج المسألة الوطنية ضمن برامجها ، اتساقا مع ما ذهب إليه برنامج الجبهة الشعبية الذي صاغه الحزب الشيوعي الفرنسي وقتذاك ، وهدف به تأصيل التراث الوطني في مواجهة الفاشية ، وكان قبلا يعد أمراً شوفينيا ، فيما مثل هذا التحول وسيلة لإدماج هذا الحزب في مجتمعه الفرنسي . الاستعمار والطبقات ونتج عن ذلك ، إسهام الحركة الشيوعية المصرية في تزويد الحركة الوطنية بأيديولوجيا متماسكة ، تربط بين العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية ، كما منحتها دفعة راديكالية وجهت نضالها من أجل التحرر الوطني ، حين ربطت بين الاستعمار والعلاقات الطبقية المحلية ، وإن تزامن هذا الإسهام مع اللحظة التي بدأت فيها الستالينية بتعليب المقولات الماركسية اللينينية ، وابتسارها الي دعاوي تنظيمية سياسية ضيقة . وربما لهذا شهدت الأربعينيات تراوح منظمات الحركة الشيوعية المصرية من المسألة الوطنية : ففي الوقت الذي أقرّتها حمتو كأيدولوجيا وكمبدأ تنظيمي ، رفضتها ايسكرا وأعتبرتها شعاراً شوفينياً . ورغم ما ذهب إليه رويل ماير R.Meijer من أن رشدي صالح نجح في مزج الفكر الماركسي بالحركة الوطنية ، مستشهداً بكتابة ( كرومر في مصر ) الذي أصدره عام 1945 ، وأنه أنجز فيه تكييف الفكر الماركسي بما تتناسب مع الظروف المحلية ، فإن تصوير رشدي صالح في هذا الكتاب للثورة العرابية علي أنها كفاح طبقي قام به الإقطاعيون ضد الاحتلال الأجنبي المتمثل في نظام المراقبة الثنائية ، وسعيه إلي توليد أو اشتقاق المسالة الوطنية من رحم المسألة الاجتماعية كما لو كانت كل منهما تدور في فلك مغاير ، يضع ماارتآه ماير بين قوسين . علي أننا لا نريد بذلك الدفع بتأكيد ريادة شهدي في توطين الفكر الماركسي بمصر ، فقد يكون هناك من سبقه ، وان جازت الإشارة الي بلورته لفكر ماركسي وطني ، انطلاقاً من تمثله الماركسية نهجاً نقدياً ، ديمقراطياً ، طليقاً ، ما حدا به أن يدرجها في بنية الثقافة الوطنية ، ويمنحها خصائص وطنية وتاريخية وثقافية وحضارية عربية ، متسقاً في ذلك مع مفكرين ماركسيين سوريين سطع نجمهما في نفس الوقت أيام الأربعينات : هما سليم خياطة ورئيف خوري ، وفي وقت كان هناك من يتجاهل أية محاولة لتوطين الفكر اليساري في مناخ الثقافة الوطنية . ويبدو هذا المنهج جليا في كتابه ( أهدافنا الوطنية ) ، كبيان ساهمت به منظمة ايسكرا في دعم الخطاب الماركسي ، وربما كان المحاولة الأكثر إحكاماًً لتكييف برنامج الجبهة الشعبية المضادة للاستعمار ، كما أقره مؤتمر الكومنترن السابع صيف 1935 ، ليتفق مع حالة مصر . لا تقسيم فلسطين وانطلاقاً من هذا الفكر الماركسي الوطني ، رفض شهدي قرار تقسيم فلسطين ، الصادر من الجمعية العامة لهيئة الاممالمتحدة في نوفمبر 1947 ، وانشق عن حدتو ، وكون ( التكتل الثوري) الذي رآه هنري كورييل بسبب قرار التقسيم . وتصدر حيثية رفضه لهذا القرار ، اعتباراً من أن " الصهيونية هي استعمار ارهابي مرتبط بالاستعمار العالمي " وأن أهدفنا الوطنية تقتضي في الأساس حماية دائرة الأمة العربية من هذا الخطر الجديد إذ " ليس خطر الصهيونية وقفاً علي فلسطين وحدها إنما خطرها يهدد استقلال وحرية جميع الشعوب العربية الأخري " علي أن جهد شهدي بلورة فكر ماركسي وطني لم يتوقف عند ذلك ، بل نراه لا بداً من مقالاته التي بدأها منذ العدد الأول لجريدة ( الجماهير ) في 21 ابريل 1947 ، وكانت بعنوان " يريد الشعب حزباً من نوع جديد " وطالب فيها بإعادة تنظيم الحركة الشيوعية ، ونقل قياداتها إلي أيد مصرية ، ما يشير إلي أن خطاب شهدي كان موجهاً لإنتاج وعي مناسب بحاجات الواقع المصري والعربي ، والكشف عن آليات بعده النهوضي ( الديمقراطية ، العلمانية ، الوطنية ، الحداثة .... ) ، وليس اختزاله إلي مستوي خطاب سياسي معفر بالفاقة والبؤس ، ومحكوم باعتبارات الحرب الباردة بين المعسكرين ، فيما ركز اهتمامه علي ضرورة الوعي بإشكالات اللحظة المصرية ، وطنياً وقومياً . استعادة المجال العام : من هنا ، راودت شهدي فكرة تأسيس ( دار الأبحاث العلمية) كمؤسسة تابعة لايسكرا ، انطلقت عام 1942 بقياداته ، كأحدي منافذ استعادة المجال العام . وظلت لسنوات تقيم ندوتها الأسبوعية ، تنظم حلقات دراسية ومحاضرات وتصدر الكتب ، ولعبه دوراً متعدداً في جذب المثقفين المصريين للماركسية لتصبح علي مدي عمرها مدرسة كادر سياسية وثقافية : ( لجنة نشر الثقافة الجديدة ) ، مجلة (الفجر الجديد ) ، مجلة ( أم درمان ) ، وما واكبها في الطليعة الوفدية الشابة . علي أن عطاء شهدي في تفعيل المجال العام لم يتوقف عند تأسيسه هذه الدار ، بل كذلك في مقالاته التي نشرها بجريدة (الجماهير ) ، وامتلك فيها قدرة السيطرة علي "كلية الموضوعات " بتعبير جورج لوكاتش ، حين ركزت علي بلورة فكرة التغيير المناهضة لأسس السيطرة الاستعمارية ، في زمن كانت فيه كل حلقات الحركة الوطنية السابقة لا تستهدف في مجراها الرئيسي مناهضة هذه الأسس ، ولا إزالة جذورها المتمثلة في استمرار الاستغلال الرأسمالي . حين لم تتبنّ قضايا الكتلة الأساسية من الفلاحين والعمال ، وإنما جعلت هدفها الرئيسي هو الاستقلال السياسي ، ما يوحي بأنها اقتصرت علي إزاحة الاستغلال بهدف إطلاق العنان للرأسمالية المحلية ، كي تستثمر الموارد الوطنية ، وتستغل جهد العاملين . وكان طبيعياً ألا تسفر حلقات الحركة الوطنية إلا عن استقلال صوري ، يبطن في واقع الأمر البقاء داخل المنظومة الرأسمالية ، وبالتالي داخل نطاق علاقات التبعية الحقيقية لمواطن الضعف والقوة في هذه المنظومة وهو ما يتضح في قول شهدي : " أن الاستقلال الحقيقي معناه حكومة ديمقراطية ، تستند إلي الشعب وتحرص كل الحرص علي أن يكون هذا الاستقلال وسيلة للارتفاع بمستوي المعيشة للجماهير وزيادة تقدمها ورفاهيتها . فإذا لم تستند الحكومة فعلاً إلي الشعب علي أساس برنامج ديمقراطي يتسع نطاقه باستمرار ، فمعني هذا انفصالها عن الشعب وفقدانها لثقته ، واستحالة بقائها في الحكم إلا بالاستناد إلي قوي خارجية ، وبذا يفتح الباب علي مصراعيه للمؤامرات والمكائد الاستعمارية " . جبهة وطنية متحدة : ومنذ بدء مسيرة الحركة الشيوعية المصرية ، مثل مفهوم الجبهة الوطنية والقائم علي فكرة الثورة الوطنية الديمقراطية مفهوماًُ محورياً بالنظر إلي إمكاناته المتعددة في توسيع الحقوق الديمقراطية ، وإقامة منظمات مستقلة مبنية علي مبادئ سياسية واضحة ، وتكوين ائتلافات مع قوي أخري . ساعد علي ذلك ، نداء مؤتمر الكومنترن السابع عام 1935 بتكوين " جبهة متحدة مضادة للاستعمار " ، وهو ما وجد صداه في الحركة الشيوعية المصرية ، وإن تفاوتت توجهاتها فيما يتعلق بطبيعة القوي السياسية الأخري ودرجة تعاملها معها: فالحركة لا تنسي تصدي الوفد لموجتها الأولي ، حين قامت حكومة سعد زغلول عام 1925 بحل الحزب والاتحاد العام لنقابات العمال الذي يتبعه ، وتميز الوفد خلال الفترات التي وصل فيها إلي المسئولية الحكومية بعلاقات الوصاية والموالاة ، وإن بدأ علي الجانب الآخر " أقل الأحزاب تهادناً مع المستعمر ، وأكثرها استناداً إلي الشعب " كما تم وصفه في ( أهدافنا الوطنية ) ، فيما أجازت بعض من منظمات هذه الحركة إمكان التعامل مع " الطليعة الوفدية " . وبخلاف الوفد ، بدأ نفوذ النزعة الفاشية جليا لدي جمعية مصر الفتاة ، خاصة أيام انتفاضة 1935 ، فيما وقفت جماعة الإخوان المسلمين أثناء انتفاضة 1946 بجانب إسماعيل صدقي ، وحاولت بجوالتها بث الفرقة وصرف المظاهرات . أما ثورة يوليو ، فإن المنظمات السياسية التي طرحتها لم تكن تنظيمات شعبية لها قوامها الذاتي وإرادتها المتميزة ، بل كانت مستوعبة في جهاز الدولة والإدارة ووظفت في مهمتي استطلاع وتعبئة الجماهير . ما العمل إذن ؟ ذلك أن صيغة الجبهة القومية التي كونت أثناء انتفاضة 1935 ، كانت بمثابة التعبير السياسي عن تهاون الأحزاب السياسية وقتذاك ، ونداء حدتو عام 1944 بإقامة ( الجبهة الوطنية الشعبية ) في التحالف بين الحركة العمالية والوفد ، وضد أحزاب الأقلية ، لم يجد طريقة للتنفيذ بسبب من ضيق المفهوم الوفدي للديمقراطية وقصره علي الديمقراطية البرلمانية . أما اللجنة الوطنية للعمال والطلبة التي تشكلت عام 1946 ، فقد وقعت في أخطاء عدم النضج وهي أخطاء فصّلها شهدي في قصر نشاطها علي صفوف الطلبة والعمال والحرفيين في المدن ، وعدم امتدادها إلي الفلاحين في القري ، كما أنها لم تحسن تنظيم صفوفها بخلق جذور عميقة لها بين القاعدة الشعبية ، ما أحالها إلي لجنة علوية إضافة إلي انقسام قياداتها . وفي محاولة من شهدي لدعم توجه ثورة يوليو للاستقلال السياسي والاقتصادي ، جاء طرحه للجبهة الوطنية المتحدة ، ليسجله نهاية كتابه ( تطور الحركة الوطنية المصرية ) ، وعني بها جبهة تضم الطبقات والفئات والعناصر المعادية للاستعمار والصهيونية والإقطاع والاحتكار ، من صنايعية وفلاحين ومثقفين وطلبة وصغار أصحاب المتاجر والمصانع والرأسمالية الوطنية وأثرياء الريف . وكان شهدي قد اتجه في كتابه (أهدافنا الوطنية ) الي كسب البورجوازية الوطنية ، حين ذكر " أن النظام الرأسمالي في مصر يستطيع أن يلعب دوراً كبيراً في نهضتها ، بشرط أن توجه وتشرف عليه حكومة ديمقراطية صحية " . هدف هذه الجبهة إذن لديه ، هو المحافظة علي الاستقلال وتدعيمه ، بتطوير الاقتصاد ورفع مستوي معيشة الفقراء والكفاح من أجل السلام العالمي ، منبها إلي ضرورة ترسيخ حكم ديمقراطي تتسع فيه الحريات الشعبية ، بما يسهم في حل التناقضات سلمياً بين فئات هذه الجبهة ، والحيلولة دون تكريسها لمصالح فئوية أو أقلية . طروحات ما زالت حاضرة : سكة للمستقبل وإذ بدأ تأمل معضلات الحاضر المصري كأفق للتفكير ، رهيناً بفهم الماضي واستحضاره، فلقد يجوز القول أن الانجاز الذي قدمه شهدي جدير بان يفتح سكة جديدة للحركة الوطنية المصرية ، نحو تحقيق أهدافنا في تحرير القرار السياسي ، وتكريس الديمقراطية ، وتوحيد الأمة ، وتحقيق العدالة الاجتماعية ، مايشي أن هذا الانجاز يبدو صالحاً في سياق اللحظة المصرية الراهنة ، الحبلي بنذرها . ذلك أن طرحه للجبهة الوطنية المتحدة مازال أمراً ملحاً في الحاضر ، مع تآكل مشروع الوحدة الوطنية الذي تأسس في إطار الحركة المعادية للاستعمار ، وحملته ضد الارتماء في أحضان الاستعمار الامريكي ، تمتلك حتي اليوم مشروعيتها بإزاء حالات التبعية التي نجحت مواجهاتها المتلاحقة في تطويق فعاليات الحركة الوطنية من قبل قوي محلية مرتبطة بالخارج . وإلحاحه علي مفهوم الوطنية patriotism كإنتماء وولاء ، يجب مفهوم المواطنة Citizenship المطروح راهناً ، والمرتبط بمجرد جوانب إجرائية حول الحقوق والالتزامات . وبرنامجه حول الديمقراطيات الثلاث : الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ، مازال يتمثل ضرورته مع شعب يئن من الغلاء ، وأقليه تتمتع بتعبيره " بالنايلون والباكار " . ومسعاه في توحيد الأمة ، يقابله شواهد الاحتقان الطائفي الحالة . وعنايته البلاغة التي أولاها للشباب ، يهزّ خفوت صوت الحركة الطلابية . ولهذا تعرض إنجاز شهدي للتشكيك : هناك من أعتبر تركيزه علي الخطر الأمريكي، صادر عن هدي من سياسة المنظومة الاشتراكية . ومن رأي في تمجيده للصنايعية علي حساب " بتوع المدارس والأفندية " كما ذكر نهاية روايته ( حارة أم الحسيني ) ، نكوصاً عن اعتداده بالعمل النظري أيام ايسكرا . من حاول الغمز في فكرته عن كسب البورجوازية المصرية ، وإمكانها لعب دور في النهضة الاقتصادية، وإغفال شرطه أن توجهها حكومة ديمقراطية . والأمر في المجمل ، يتعلق بطروحات شهدي ، تلك التي ما زالت تمتلك القدرة علي توليد مناوبات من الاجتهاد حولها ، وإخفاء طابع مضاعفة وتوسيع حقل الاشتغال علي انجازها. وطبت حياً وشهيداً يا رفيق .