إن نظرة خاطفة لتاريخ الأمة المصرية منذ لحظة النشأة وحتي يومنا هذا تبرز لنا واحدة من أهم سماتها. فعناصر قوة هذه الأمة وملامح عبقريتها لايكتمل تجليها إلا عندما تعمل نخبتها مع شعبها علي إنجاز المشروعات القومية العملاقة. كان هذا حالها عندما أنشأت أول منظومة ري عرفها الإنسان، وعندما أقامت أهراماتها التي مازالت تتحدي وطأة الزمن. وهكذا كان حالها عندما بنت السد العالي لضبط سلوكيات نهر النيل، وعندما حشدت قواها الذهنية والمادية لتحرر أراضيها عام 1973، واليوم يستشعر أبناء هذه الأمة، أيا كان مكانهم، بحاجتها لمشروع قومي عملاق تعيد من خلاله اكتشاف قدراتها وطاقاتها الخلاقة. مشروع عملاق يعيد ترتيب الأولويات ويضع هموم الوطن الحقيقية في بؤرة الأقوال والأفعال. ولا نري أن هناك مشروعا أولي من مشروع "تحديث الثقافة المصرية" كمشروع قومي تتبناه النخبة المصرية وتسعي مع شعبها علي إنجازه. فالثقافة بما تنطوي عليه من "مسلمات" و"قيم" و"سلوكيات" هي "البنية التحتية" التي لاغني عنها لإنجاح أي جهد ساع إلي تطوير المجتمع المصري. ولعل مؤتمر المثقفين المزمع عقده قريبا يكون بداية لانطلاق هذا المشروع ويكون مناسبة لكي يبدأ مثقفونا حركة مراجعة شاملة لما يعتبرونه من "المسلمات" ومايدعون له من "قيم" وذلك علي ضوء مستجدات واقعنا المعاصر ومتطلباته ...! ثقافتنا المعاصرة ووظائفها المعطَّلة تلعب الثقافة أدوارا متعددة ومتشابكة في حياة المجتمعات الإنسانية. فهي تلعب دور "الذاكرة الحافظة" لحصيلة ما مر به المجتمع من خبرات وتجارب عبر تاريخه. وهي الخبرات والتجارب التي تجسدها منتجاته الثقافية بشتي صورها. وهي أيضا تقوم بدور "الآلية الضابطة" لإيقاع حركة مجتمعها عبر منظومة قيمها التي تحدد لأفراده التصرفات المقبولة التي يتوقعها المجتمع منهم وعبر ماتقرره من أنماط السلوك المرغوبة منهم. وهي المحافظة علي تماسكه بما تنشئه من تفسيرات ومعان متفق عليها لما يستخدمه أفراد المجتمع من رموز وعلامات. وهي في النهاية تقوم بدور "الأداة الذهنية" التي يستخدمها المجتمع لفهم أحواله ولتفسير ما يدور حوله من أمور. ويعاني دور ثقافتنا ك "ذاكرة حافظة" العديد من الأعراض المرضية. وأول هذه الأعراض هو عدم الاهتمام الكافي بالحفاظ علي المنتجات الثقافية التي أنتجها المجتمع المصري عبر تاريخه الطويل سواء تمثلت هذه المنتجات في طريقة لتلاوة القرآن أو في أفلام سينمائية أو في مأثورات شعبية أو في مبان أثرية. وينعكس هذا علي تدني وعي أفراد المجتمع المصري بأهمية هذه المنتجات فيصبح التفريط فيها وتشويهها أمرا معتادا لا يثير الاحتجاج. أما العرض المرضي الثاني فيتعلق بغلبة تيار ثقافة "التجزئة والاجتزاء" و"القطيعة والانقطاع" علي تيار ثقافة "الوعي بالتراكم" وبعناصر التواصل والاستمرارية في تاريخنا الطويل. ويتجلي هذا أبرز مايتجلي في كيفية تعامل المجتمع المصري ومؤسساته مع تاريخنا ككل، البعيد منه والقريب. فنري بعضا من مراحله وقد حجبت أو غيبت عن وعينا، ونري بعضها الآخر وقد شوهت ملامحه في ضمائر الكثير من أبناء شعبنا. وعندما تصاب ذاكرة الأمة بأمراض التناسي والتشويه يتآكل إحساسها بهويتها المستقلة ويضعف جهاز مناعتها ويصبح جسدها عرضة للتأثر بعادات وبقيم غريبة عن صلب تكوين المجتمع المصري. كما يؤدي تآكل الإحساس بالهوية المستقلة إلي "تآكل المواطنة" تآكلا حادا أوشك أن يصل بتماسك الأمة المصرية إلي حد الخطر. فلقد حلت "ثقافة الملة"، بما تنطوي عليه من انغلاق علي الذات واستكبار علي مشاعر الآخر وتجاهل لاحتياجاته محل "ثقافة الوطن"، بما تعنيه من انفتاح علي الآخر واستيعاب له في شركة الأرض والحياة. أما الأعراض المرضية لثقافتنا ك "آلية ضابطة"، التي تجسدها "الأنماط السلوكية" وتتبدي من خلالها كل من منظومة القيم والتقاليد والأعراف السائدة، فعديدة وتلمسها علي جميع مستويات ممارساتنا اليومية وواقعنا المعاش بدءا من أسلوبنا غير المنتظم في الصعود والهبوط من مترو الأنفاق، ودرجة إتقاننا أداء أبسط الأعمال، وانتهاء بمدي احترامنا لعنصر الوقت والتزامنا بدقة المواعيد. ونجد أن التوجهات السائدة فيها هي "ثقافة القول" في مقابل "ثقافة العمل" وثقافة رد الفعل" في مقابل "ثقافة الفعل"، وثقافة الترقب" مقابل "ثقافة المبادرة" و"ثقافة السلب" في مقابل "ثقافة المبادأة". وتسود ثقافتنا ك "أداة ذهنية" توجهات عامة من أبرزها غلبة "ثقافة النقل" علي "ثقافة العقل"، و"ثقافة الاتباع" علي "ثقافة الإبداع". فنري نصوص المفسرين والشراح، السابقين منهم واللاحقين، وهي تتحول إلي نصوص شبه مقدسة غير قابلة للنقاش وتتحول آراؤهم إلي مسلمات. وبهذا ينظر إلي التفكير العقلاني ومايسفر عنه من نتائج علي أنها بدع، وكل بدعة هي بالضرورة ضلالة وكل ضلالة في النار. وهكذا تعطل عقل أكثر أفراد المجتمع المصري عن العمل فحلت ثنائية "الفتوي/العمل" محل ثنائية "الفكر/العمل". فأصبح الإنسان المصري لايقدم علي أداء عمل ما إلا بعد أن "يستفتي" أهل التفسير من الثقاة وغيرهم ... ! وغرق المجتمع المصري في طوفان من فتاوي حول مسائل من قبيل حكم خلع ملابس الأنثي أمام كلب ذكر؟... هل الموبايل أبو كاميرا وبلوتوث حرام أم حلال؟ ... هل الشات علي الإنترنت خلوة شرعية؟ وهكذا ازدهرت "صناعة الفتوي" وتضاءلت "صناعة التفكير". الاستجابة ودور مثقفي التجديد كانت هذه هي الملامح العامة للتوجهات التي تسود ثقافة المجتمع المصري المعاصرة والتي تشكل مجتمعة تحديا غير مسبوق لاخيار أمام مثقفينا إلا الاستجابة له دون تهاون أو تأخير. وهو التحدي الذي يزيد من حدته تضاؤل تأثير "مثقفي التجديد" لحساب تعاظم دور "مثقفي التقليد"... فعلي الرغم من مرور حوالي 150 سنة علي ظهور فئة المثقفين المصريين التي أنتجتها منظومة التعليم المدني التي أنشأها محمد علي في النصف الأول من القرن التاسع عشر فإن أثر هؤلاء المثقفين العلمانيين، أو "مثقفي التجديد"، علي المكونات الرئيسية لمنظومة الثقافة المصرية مازال محدودا وسطحيا. وهو الأمر الذي تؤكده ماتشهده منظومة الثقافة المصرية حاليا من حركة معاكسة للتطور والتحديث ومن تسيد لرؤي المثقفين ذوي المنطلقات الدينية، أو "مثقفي التقليد"، بمختلف مسمياتهم واتجاهاتهم، علي الساحة الثقافية وتأثيرهم المتعاظم علي حياة أفراد المجتمع المصري. إن فشل "مثقفي التجديد" في إحداث التغيير الأثر المنشود يعود إلي العديد من الأسباب التي من أهمها سببان: السبب الأول هو "الانتقاء العشوائي والمنقوص للمستجدات الثقافية" التي تخضع -علي مستوي الفكر- لاعتبارات الشهرة أو الترف الفكري أو الجري وراء الموضات الفكرية، وعلي مستويات السياسات لاعتبارات المصلحة والهوي، وعلي مستوي الحياة اليومية لاعتبارات التميز والمظهرية". أما السبب الثاني فهو "الانفصام بين مضمون الخطاب ومشاكل الواقع". فنظرة عامة علي خطاب مثقفي التجديد منذ نشأتهم وحتي يومنا هذا تشي بملامحه السائدة. فهو في أغلبه خطاب موجه للنخبة وبلغتها ولايربط بين ما يعرضه من عناصر ثقافية جديدة وما يعانيه أفراد المجتمع المصري من مشاكل وما يواجهه من تحديات.