بحراك شعبي سلمي، أطلقته طاقات شبابية ناهضة، والتف الشعب، وقواه السياسية المعارضة، حولها، ونأى الجيش عن قمعها، نجح الشعب المصري، (دون أن تتعرض مصر الدولة والوطن لمخاطر التفتيت والتدمير والتدخلات الخارجية)، في إطاحة رأس النظام السياسي، قبل عشرة شهور، تخللها قلاقل متوقعة، أغلبها مقلق، وبعضها مخيف، وأخطرها ما حصل في “ماسبيرو”، وفي ميدان التحرير، (مواجهة المتظاهرين سلمياً بقسوة)، ليس فقط بسبب ما أوقعه الحادثان من ضحايا بشرية وخسائر مادية، بل، أيضاً بسبب ما انطويا عليه من إثارة للفتنة، ومحاولة حرفٍ لمسيرة شعب عريق استعاد زمام المبادرة، وقرر صُنْع مستقبله بإرادته المستقلة والمُوحدة، وطنياً وقومياً وديمقراطياً . رغم ذلك، نجح الشعب المصري مرة أخرى في تسجيل مأثرة ثانية، حيث تدفق بكثافة منقطعة النظير، على صناديق الاقتراع، للإدلاء بصوته في انتخابات المرحلة الأولى من مراحل انتخاب “مجلس الشعب” الذي سيناط به، بمشاركة “مجلس الشورى”، بعد اكتمال مراحل انتخاب كل منهما، تعيين “جمعية دستورية”، (ما زال التوافق النهائي على كيفية تشكيلها موضع جدل)، يناط بها صياغة دستور جديد، يُعرض على استفتاء شعبي، ويكون ناظماً لإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية جديدة، تنتهي بإنجازها المرحلة الانتقالية، التي تولى خلالها “المجلس الأعلى للقوات المسلحة”، بصورة مؤقتة، مسؤوليات رئيس جمهورية مصر العربية وصلاحياته . تفاجأ الكثيرون بمأثرة الشعب المصري في الحفاظ على شعبية وسلمية حراكه، واستغربوا مأثرة كثافة تدفقه على صناديق الاقتراع . وفي “المفاجأة”، كما في “الاستغراب”، (رغم اندراجهما في إطار المديح)، ما يشي، بتغلغل العقل الاستشراقي الغربي، ونظرته الاستعمارية العنصرية تجاه الشعوب العربية، وشعوب “الشرق” عموماً، كنظرة أثبتت وقائع التاريخ بطلانها، بل، وبرهنت على أن هذه الشعوب، رغم ما عانته من استبداد داخلي كبح إرادتها لعقود، ورغم ما تعرضت من استعمار غربي أعاق سياق تطورها الطبيعي، قادرة، (ككل شعوب العالم)، على صنع تاريخها بنفسها، وأنها ليست حالة “خارج التاريخ” . ومن أسف، فإنه، وبينما ينخرط الشعب المصري وطاقاته الشبابية الناهضة، في معمعان صُنْعِ حدث تاريخي، سيرسم، بنتائجه النهائية، معالم مستقبل مصر ونظامها السياسي، بل، وبدرجة كبيرة، معالم مستقبل الأمة العربية، نجد نوعاً من التيه، شاب فِكْرَ وممارسات قواه السياسية المعارضة، بمشاربها المتنوعة، ما يعكس عجزها عن الهضم الكامل لدلالات هذا الحدث التاريخي، أسباباً ومضموناً ومآلاً . وتجلى ذلك في: * تأخرها عن الانخراط في معمعان هذا الحدث في بداية تفجره، بل، وترددها في أكثر من محطة من محطاته الفارقة . * تعجلها الذاتي بقطف ثماره، في غير محطة، كان مطلوباً فيها المساهمة في إنضاج هذه الثمار . * تباطؤها في تجسير ما بينها من خلافات واختلافات، كشرط لازم لإنجاز توافق وطني عام، لاسيما على المبادئ العامة لمضامين وآليات صياغة دستور جديد . * تعجلها الذاتي، بعضها باغترار الفائز، وبعضها الآخر برعب الخاسر، في رؤية مؤشرات نتائج المرحلة الأولى من انتخابات “مجلس الشعب”، (وخاصة مفاجأة الصعود غير المتوقع لكتلة التيار السلفي المتشدد)، دليلاً كافياً على أن مستقبل مصر ونظامها السياسي الجديد، وطنياً وقومياً وديمقراطياً، قد حُسِمَ، فيما صيرورة تشكّله مازالت في طورها الأول، ارتباطاً بحقيقتين: الأولى: ثقل الإرث الوطني والقومي والديمقراطي للنظام السابق الذي أُطيح رأسه، فيما إطاحة بنيته، وبناء بديله، مازالت عملية صراعية طويلة ومعقدة، يلعب فيها الشعب المصري، الذي اكتشف سر قوته، وعرف طريقه، دوراً أساسياً، يجعله قادراً أيضاً على إزاحة أية قوى سياسية، أصبح شأن توليها للسلطة في مصر، (بمعزل عن لونها)، خاضعاً لصناديق الاقتراع، ومرهوناً بالإرادة الشعبية التي تتعلم أكثر فأكثر، وإن بتدرج، إعطاء الصوت تبعاً للإنجازات المحققة، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً . الثانية: إن الحديث لا يدور عن تحديد مستقبل دولة هامشية، بل، عن مستقبل دولة ذات ثقل حاسم، عربياً وإقليمياً ودولياً، سواء في حسابات أطراف الصراع العربي “الإسرائيلي”، أو في حسابات قوى دولية عظمى وإقليمية نافذة، لم، ولن، تكف عن محاولة السيطرة على المنطقة العربية، وعلى مفتاحها، مصر، بخاصة، ما يعني أن عملية حسم الملامح الأولية للنظام المصري الجديد، فضلاً عن حسم معالمه النهائية، مازالت، (في العمق)، مجالاً لصراع محتدم، حتى، وإن بدت (على السطح)، مستقرة . وبالتالي، فإن أية قوة سياسية قادمة للسلطة في مصر، (بمعزل عن لونها)، لن تستطيع حسم مستقبل المعالم النهائية للنظام السياسي في مصر، ما لم يكن بمقدورها التصدي العملي، وليس “الشعاراتي”، لمجموعة من التحديات، لعل أهمها: 1- تحدي التبعية المصرية للغرب التي تحيل إلى عملية نهب اقتصادي وسيطرة سياسية وأمنية، لا تقوى مصر على النهوض الوطني والقومي والديمقراطي المستقل، دون الفكاك منها . 2- تحدي إيجاد الحلول للمعضلات الاقتصادية والاجتماعية التي ترزح تحتها مصر، وليس آخرها المديونية الثقيلة التي تناهز مئة مليار دولار، فضلاً عن البطالة والفقر، وانعدام الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية، وظاهرة العشوائيات، وتفشي بعض الأمراض السارية، وانتشار الأمية، وتلوث البيئة، وجنون الخصخصة وبيع مقدرات مصر وثرواتها، وغيرها من المشكلات التي تستوجب حلولاً، لا تنفع معها سياسة تقديم الإغاثة والصدقات، حتى لو استطاعت الاستعانة بالمساعدات الخارجية ذات الأغراض السياسية . 3- تحدي “إسرائيل” ومصير “معاهدة السلام” معها، وهو بالمناسبة ليس تحدياً خارجياً فقط، إنما هو، تحدٍ يتشابك فيه الخارجي بالداخلي، فاتفاقية كامب ديفيد، ليست مجرد معاهدة صلح بين دولتين، إنما تنزع ضمن بنودها العلنية، فما بالك بالسرية، جزءاً من السيادة المصرية على سيناء، كما تحدد مستوى تمدد سيادة الدولة المصرية، ديموغرافياً وعسكرياً وأمنياً واقتصادياً، علماً أن بمقدور استعادة السيادة المصرية الفعلية عليها، أن توفر أرضية لمشروع وطني كبير يضاهي مشروع السد العالي، وفي أقل تقدير توفير حلٍ لأزمة الاكتظاظ السكاني في مصر، وفي القاهرة والإسكندرية تحديداً .