من يتابع النجاح الذى حققته مصر على مستوى السياسة الخارجية أخيرا، يتيقن أن وراءه عملا مخططا ومدروسا، افتقدنا إليه طوال السنوات الماضية، وتكبدنا بسببه خسائر فادحة، ويدرك أن هناك جهات فى الدولة كرست جهودها لوضع رؤية محكمة، تنقذ مصر مما يحاك لها، مصحوبة بسياسة هجومية ناعمة، تضمن لها دورا متفوقا، تربك به حسابات الآخرين. ولعل النتائج الايجابية التى ظهرت فى ملفات غزة وليبيا وسد النهضة تشير عمليا إلى ملامح هذه الرؤية وجدوى هذا التفوق. انعقاد الدورة الرابعة لدول الجوار الليبى بالقاهرة الإثنين الماضي، أكد أن مصر لم تقف مكتوفة الأيدى خلال الأشهر الماضية، فرغم جراحها الداخلية وأزماتها الخارجية المتراكمة، فإنها كانت ملمة بتفاصيل المشهد السياسى والأمنى فى ليبيا، وجاءت مبادرتها التى تبنتها دول الجوار لتعزز هذه المعادلة، وتؤكد أنها الأقدر على الإلمام بالواقع المتشابك هناك، الذى أصبح مفتوحا على كثير من السيناريوهات الغامضة، فى ظل تدخلات خطرة من قبل جهات، تجد مصلحتها فى استمرار الارتباك الحاصل فى هذا البلد الشقيق. التحرك السياسى المصرى على الصعيد الليبي، لم يأت فقط انطلاقا من الحفاظ على الأمن القومي، بل جاء أيضا انعكاسا للدور الاقليمى المتوقع أن تقوم به مصر الفترة المقبلة، عندما تكتمل عافيتها السياسية، وتسعى بكل أدواتها الناعمة للدفاع عنه، لأن هناك من يحاول اختطاف هذه المكانة لنفسه، وإن لم يستطع فهو يريد قطع الطريق، ووضع العثرات، حتى لا تتمكن من ممارسة الدور المنوط بها أن تقوم به، وليس من الغريب أن تبث بعض وسائل الإعلام الخارجية أخبارا كاذبة عن دور عسكرى لمصر فى ليبيا، مع أن الرئيس عبد الفتاح السيسى نفى ذلك بوضوح، لكن لأن الغرض خلق فتنة بين مصر وليبيا، عزفت بعض الصحف على هذه الاسطوانة المشروخة، وواصلت نشازها بصورة مثيرة للضحك والسخرية، ومليئة بالمعلومات العسكرية المغلوطة. الهدف من ذلك، تعطيل التحركات السياسية التى تقوم بها مصر لوضع حد لأزمة مستعصية، وبث سموم فى أوساط الشعب الليبى للنقمة على مصر، وبالتالى تعطيل الجهود الحالية، سواء على المستوى الجماعى أو الفردي، فقد أصاب التقدم الذى أحرزته دول جوار ليبيا خلال اجتماعها بالقاهرة أخيرا البعض بالدوار السياسي، فالمبادرة التى جرى تبنيها كانت مصرية، والتوافق الذى حظيت به دليل على عمق الرؤية، وهو ما فرض على بعض الحاقدين الجرى وراء فرملته، عبر شائعات وأكاذيب التدخل عسكريا، كما أن تدفق مسؤولين ليبيين، وقوى شعبية وقبلية مهمة على القاهرة، أكد أن التحرك الفردى لا يقل أهمية عن الاقليمي، وأن ساعة الحسم السياسى فى ليبيا تبدو أقرب من أى وقت مضي. من جهة ثانية، عكست النتائج الايجابية التى تم التوصل إليها من خلال مفاوضات القاهرة بشأن العدوان على غزة، الحيوية التى تتمتع بها مصر، والقدرة العالية على الصبر، فقد تكاتفت مجموعة كبيرة من العوامل الاقليمية والدولية لتعطيل الدور المصري، وتفشيله عنوة، حتى ولو كان ذلك على حساب الشعب الفلسطيني، الذى يعانى الويلات مرتين، مرة بسبب جرائم اسرائيل وتقتيل الأطفال والنساء والشيوخ، ومرة أخري، جراء المصالح الضيقة لدى بعض الجهات، ورغبتها الجامحة فى الانتقام، انطلاقا من رؤية أصحابها الضيقة، التى كادت أن تؤدى إلى تدمير القضية الفلسطينية. الحاصل الآن، أن مصر عندما تريد وتملك الإرادة السياسية، تستطيع أن تحقق انجازات هائلة، وقد ظهرت تجليات الإرادة فى ملف غزة، وأعتقد أننا تجاوزنا الاختبار بنجاح، وتخطينا الشراك التى نصبت أمام القيادة المصرية بتفوق، وفشل جميع المخططات التى رسمت لتكون غزة مأزقا حقيقيا لمصر. وإذا كان تخطى هذه الورطة يحسب للحنكة التى يتمتع بها الرئيس السيسى ومعاونوه، سياسيا وأمنيا وحسن القراءة للتطورات وصد المؤامرات، فإنه يؤكد أن لدينا بدائل تخرج عند اللزوم، فعندما لم يجد الهدوء ولم تصل الوسائل الدبلوماسية التقليدية لغاياتها، جرى استخدام المخزون الاستراتيجى من الأوراق الخفية، واضطرت اسرائيل إلى وقف تعنتها، وعدم الذهاب بعيدا فى تشددها، كما أن حماس رضخت للأمر، وخففت من الاعتماد على حيلها السياسية، حيث شعرت أنها على وشك أن تتكبد المزيد من الخسائر، والجميع تيقن أن مصر تجيد لعبة التوازنات وتجاوز الصعاب المركبة، وعازمة على عدم التفريط فى دورها الاقليمي. فى هذا السياق، لم يكن غريبا أن تدخل مصر اجتماعات الخرطوم، بوفد تفاوضى محنك، ورؤية متكاملة لحل أزمة سد النهضة، وخيارات أساسية وأخرى احتياطية، الأمر الذى لمسته بنفسى من الدكتور حسام مغازى وزير الري، عندما التقيته بمكتبه قبيل توجهه للخرطوم، فقد كان الرجل واثقا من تحقيق انجاز ملموس فى هذه الجولة من المفاوضات، مع كل من إثيوبيا والسودان، ومدرك أن مصر تدافع عن نفسها بشرف، ولديها من الأدوات المشروعة ما يمكنها من التفاهم مع الجانب الاثيوبي، ومن يراجع سلسلة التحركات على المستوى الافريقى سيتأكد أن مصر بدأت فى ممارسة دورها الغائب، وتنتظرها حزمة من المكاسب الاستراتيجية، وربما يكون حل أزمة سد النهضة القاطرة التى سوف تجر خلفها العربات فى عموم القارة الافريقية. الجرعة السابقة من التفاؤل الخارجى تشى بحجم التقدم، وأن مصر قطعت برشدها السياسى شوطا كبيرا وتجاوزت أزمات سببت، فى وقت من الأوقات، إزعاجا كبيرا، وكادت أن تدخل البلاد نفقا مظلما. لذلك عندما يتحقق التفوق لابد أن نعى أن وراء العمل جهدا مدروسا ومنظما، وعندما تدافع مصر عن نفسها، تدافع أيضا عن دورها. لمزيد من مقالات محمد ابوالفضل