فى أبريل 1954.. ألقى الرئيس الأمريكى أيزنهاور، كلمة فى مؤتمر صحفى شهير، وقد خصَّص معظم خطابه لشرح أهمية فيتنام بالنسبة إلى الولاياتالمتحدة، متحدثًا عن خطر تعرُّض البشرية للديكتاتورية، وفى النهاية أشار الرئيس إلى ما أطلق عليه «نظرية وحدات الدومينو المتساقطة»، أى أن سيطرة الحكم الشيوعى سوف تؤدِّى إلى سقوط دول جنوب شرق آسيا متتابعة. لقد حظى هذا الطرح بكثير من الجدل فى العالم، حول إمكانية تأثّر دول واقعة فى نطاق إقليمى واحد بتغيّرات فى إحداها، مع احتمالية أن يتسع هذا التأثير إلى نطاق أوسع أكثر امتدادًا.. الأمر أشبه بوجود قطع من الدومينو المتراصة بشكل عمودى ومتوازٍ، الدفع بأولى القطع سيؤدّى بالضرورة إلى سقوط باقى الأحجار. وهنا فقد استخدمت نظرية الدومينو فى تحليل كثير من الظواهر فى الأزمات الاقتصادية العالمية والسياسات المالية الدولية.
فى الولاياتالمتحدةالأمريكية، فى 24 أكتوبر 1929، وهو اليوم الذى عُرف ب«الخميس الأسود» اندفع مالكو الأسهم والسندات فى بورصة نيويورك إلى بيع تلك الأوراق، وهى تمثّل رؤوس أموال الشركات الكبرى، وقاد ذلك إلى انهيار السوق، وإلى أزمة سيولة نقدية، ثم توقّفت البنوك عن دفع الودائع وإفلاسها ثم انهيار قاعدة الذهب، وانهيار النظام النقدى فى أمريكا وانتقال حالة الانهيار تلك إلى دول أوروبا، ثم إلى باقى دول العالم، حيث قاد الأمر إلى نقص الإنتاج الصناعى العالمى وانتشار البطالة وهبوط حجم التجارة الدولية، ومن ثَمَّ تأثيرات اجتماعية أوسع على كل الطبقات فى العالم بأكمله.. وفى عام 2008 كان العالم على موعد مع أزمة اقتصادية جديدة ناتجة عن انهيار سوق العقارات فى الولاياتالمتحدةالأمريكية وأزمة ديون أوروبية سارت على نهج الدومينو نفسه، بدأت بإحدى البلدان ثم توسَّعت لتطال أخرى، مما دفع كثيرًا من الحكومات الأوروبية إلى السعى لتقديم حوافز للبدان التى تضررت خشية أن ينتقل التأثير إلى أبعد من ذلك دون القدرة على وقف التداعيات السلبية لتلك الأزمة على كثير من بلدان العالم.
سياسيًّا، ففى العالم ومنذ الخمسينيات، أى بعد سنوات من انتهاء الحرب العالمية الثانية ودخول العالم مرحلة الحرب الباردة، وانقسام العالم إلى كتلتين، كتلة شرقية وأخرى غربية، كانت سقوط الملكيات وصعود العسكريين إلى حكم عدد من دول العالم الثالث، حيث سقوط الملكيات فى مصر والعراق وليبيا واليمن، وهنا فقد كانت الشرارة الأولى فى مصر بحركة الضباط الأحرار التى أسقطت الملك فاروق وانتقلت الحالة إلى بلدان أخرى.
ثم كان الحديث عن انهيار الاتحاد السوفييتى وخروج دول أوروبا الشرقية عن سيطرته ومن ثَمَّ موجات التغيير والثورات التى اجتاحت تلك المنطقة، دولة تلو أخرى ضد أنظمة ديكتاتورية، حتى إن عالم السياسة الأمريكى صمويل هنتجتون، صاحب كتاب «صراع الحضارات» الشهير، ألّف كتابًا أطلق عليه اسم «الموجة الثالثة» وهو الكتاب الذى تحدَّث عن موجات تغيّر سياسى شهدتها النظم السياسية فى ثلاث مراحل زمنية مختلفة لدول من العالم.. وفى كتابه كانت أطروحته معنية بالحديث عن تعبير الموجات (تلك الحالة التى تنطلق من إحدى النقاط، ثم تتسع لتشمل مناطق أخرى لتصنع تغيّرًا مشابهًا.. وفى الأعوام الثلاثة الأخيرة استخدمت النظرية فى تفسير ما جرى فى الشرق الأوسط من ثورات بدأت بتونس ثم انتقلت إلى مصر وليبيا وسوريا واليمن، بعد أن فشلت النظم السياسية فى تلك البلدان فى إنهاء حالة التعثّر السياسى وغياب العدالة الاجتماعية ومواجهة التناقضات التى عجَّلت بسقوطها والتى لم تمكِّنها من الصمود فى جميع الأحوال، وهنا فقد كانت أنماط الحركة بين تلك البلدان تنتقل بشكل سريع وعفوى، حتى إن المتابعين لما جرى فى أوكرانيا (ذلك البلد الواقع خارج الشرق الأوسط) من احتجاجات جرت هذا العام والأمر نفسه فى تركيا يمكنهم ملاحظة انتقال نمط احتجاجى شبابى مشابه فى التكتيكات وطريقة التعامل، يبدو أنه مستمد مما جرى ببلدان أطلق عليها الربيع العربى.
فى الثلاثين من يونيو كانت مصر على موعد مع حراك شعبى غاضب ضد جماعة الإخوان المسلمين ورئيسها، وبنزول الملايين إلى الشوراع تحرَّك الجيش المصرى ودعَّم حالة الحراك تلك، معيدًا الأمر إلى عملية انتقالية جديدة، وذلك بعد أن أصدر بيانًا تحدَّث فيه المشير السيسى، معلنًا عن تدخُّل القوات المسلحة بعد أن قام الشعب المصرى بدعوتها لنصرته، وما سمّاه «استدعاء للدور الوطنى لا السياسى» كدعوة ل«الخدمة العامة والحماية الوطنية» بعد أن فشلت جهود المصالحة الوطنية وإنهاء الأزمة السياسية القائمة فى البلاد. التدخُّل كان معبّرًا عن أزمة سياسية لم يكن الطرف الوحيد فيها هو سلطة جماعة الإخوان المسلمين القائمة وقتها، بل كان جزءًا أصيلًا فى تلك الأزمة، معبرًا عن ضعف الأحزاب المدنية التى فشلت فى أن تحوز مساحة تمكِّنها من الحكم أو أن تكون رقمًا فاعلًا فى معادلته.. وبالتالى كان التدخُّل الجماهيرى غير «المتحزّب» ودعم الجيش كتعبير عن موازين القوى فى المجتمع الخارجة عن الأُطر التقليدية للسياسة بعد أن فشلت تلك الأُطر فى دفع حركة المجتمع للأمام. وهنا عاد الحديث عن الدور الذى قد يلعبه الجيش المصرى على المدى الممتد كحامٍ للشرعية المدنية والديمقراطية، وكانت أحاديث البعض عن دور أوسع كحاكم فعلى ودافع فى نهضة اقتصادية ضرورية لتجاوز الأزمة.
لم يكن العداء والحدة اللذان تعاملت بهما حكومة أردوغان فى تركيا خارجيًّا مع الموجة الثانية للثورة فى يونيو فى مصر وما تلاها من احتجاجات ضد حكم أردوغان فى ميدان «تقسيم» الشهير، سوى تعبير عن تلك المخاوف بل الهلع ربما، فأردوغان لم يكن يفارق ذهنه مشهد الإطاحة ب«أربكان» من قبل الجيش التركى، بعد أن وجدوا فى أدائه تهديدًا للقيم والثوابت التى أرساها مؤسس الدولة التركية الحديثة كمال أتاتورك.. وهنا كان الخوف يدفع صاحبه إلى كثير من الأخطاء النابعة من انفعال عصبى بالأساس، وهو ما دفعه إلى تقديم رجال من الجيش إلى المحاكمة، تلقوا فيها أحكامًا قاسية، خشية أن يكون هناك حراك عسكرى ضده.. تحت تأثير ما جرى فى مصر، وبالمثل فتحت تأثير ما جرى فى مصر انفرجت الأزمة التونسية ولو بشكل مؤقّت وتراجع حزب النهضة عن أحلامه السلطوية خشية حدوث «نظرية الدومينو» وأن يحثّ ما حدث فى مصر الجيش التونسى للتدخل لإعادة الأمور إلى ميزانها الطبيعى، وبدا أن تأثير الدومينو فى إضعاف مواقف حزب النهضة فى مواجهة المنافسين سواء فى ما يتعلق بالتفرد بالحكم أو فى ما يتعلق بصياغة الدستور التونسى الذى حمل صبغة مدنية تعبّر عن توافق بخلاف الرغبة فى الهيمنة النهضوية.
ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية فى الداخل وتقدّم السيد عبد الفتاح السيسى كمرشح رئاسى ثم المؤشرات المسبقة عن فوزه، عاد الحديث مجددًا عن تولّى أصحاب الخلفية العسكرية السلطة مجددًا فى مصر، وما قد يخلفه هذا من تأثير فى النطاق المحيط بل يمتد لما هو أبعد.. خصوصًا بعد أن باءت الجهود الغربية فى التدخّل والحفاظ على جماعة الإخوان المسلمين على رأس السلطة فى مصر، وفشل تلك الجهود فى تعطيل المسار السياسى داخليًّا، فكما كسرت ثورات الربيع العربى حاجز الخوف لدى الجمهور من الدولة الأمنية، وحطمت موجة 30 يونيو حالة الخوف لدى الفاعلين السياسيين فى العالم من التدخل الأمريكى لفرض نمط حكم بالقوة، أو فرض عقوبات كبرى ضد أنظمة حكم غير مرغوب فيها، خصوصًا مع الدعم الخليجى الذى قدَّمته السعودية والإمارات لمصر، وانشغال القوى الكبرى بقضايا أخرى، مثل القضية الأوكرانية والنزاع فى سوريا والملف النووى الإيرانى. لقد سعى البعض إلى تقديم تجربة ونموذج حكم بوتين صاحب الخلفية الاستخباراتية بشكل سطحى وما يراه البعض من نجاحات حقَّقها على احتماليات نجاح مماثلة.
وربما هذا المناخ الذى نجحت تركيا وتونس فى تجنب تبعاته يلقى بظلاله على مناطق وبلدان أخرى من العالم تحمل نظمها السياسية أزمات قد تؤدى إلى الأمر نفسه، من بينها حدودنا الغربية، لقد تساءل الموقع الخاص بهيئة الإذاعة البريطانية عن مدى سعى اللواء حفتر فى ليبيا إلى استنساخ تجربة المشير السيسى فى مصر؟ وكان اللواء المتقاعد خليفة حفتر القائد السابق للقوات البرية فى الجيش الليبى، وفقًا للمصدر ننفسه، قد قال إنه كان يخطّط منذ أكثر من عامين لبدء ما سماها «عملية الكرامة»، التى تشنها قوات عسكرية موالية له، ضد مواقع الجماعات الإسلامية المسلحة فى مدينة بنغازى بشرق ليبيا، وإنه ظل طوال تلك الفترة متنقلًا بين عدة مدن ليبية لتجهيز قوات تدين له بالولاء. وحصل على ثقة ودعم أعداد كبيرة من قيادات القوات المسلحة الليبية، مشيرًا إلى أن الهدف من العملية هو تطهير ليبيا من المتطرفين الظلاميين والتكفيريين وجماعة الإخوان المسلمين. وكانت القوات الموالية للواء حفتر قد اقتحمت مقر المؤتمر الوطنى قبل أن تعلن تجميد عمله ونقل سلطاته إلى لجنة صياغة الدستور، بينما اقترحت الحكومة تجميد عمل المؤتمر لحين إجراء انتخابات برلمانية جديدة أعلنت قيادة الدفاع الجوية الليبية انضمامها إلى اللواء حفتر فى عملية الكرامة. ويضيف المسؤول العسكرى الليبى أن «الهدف من العملية هو استعادة الأمن والطمأنينة إلى الليبيين لا الاستيلاء على السلطة. إلا أنه أشار إلى احتمال ترشُّحه لمنصب رئيس الدولة الليبية إذا ما طلبت منه الجماهير ذلك، وعبر صناديق الاقتراع مستقبلًا. وعلى صعيد سوريا، فقد كان ما يحدث فى المنطقة متوزايًا مع تفوُّق نوعى ملحوظ فى ما يتعلق بمواجهات بشار الأسد مع مجموعات المسلحين، وتلاشى الدعم المعنوى الذى كانت تحظى به الثورة السورية التى تم الاستيلاء عليها من قبل جماعات المتشددين الإسلاميين هناك ومن بينهم «الإخوان المسلمين»، لقد سعى بشار الأسد إلى استغلال كل تلك المستجدات وأسرع بالدعوة إلى إجراء انتخابات رئاسية تحت متابعة وفود دولية فى سعى لتحقيق المزيد من الانتصارات النوعية وإلحاق الهزيمة السياسية بخصومه وامتلاك كارت جديد فى مواجهة الغرب.
أيضًا تايلاند البعيدة جغرافيًّا، لم تكن بعيدة عن فعل سياسى مماثل، إذ بعد أزمة سياسية تدخَّل الجيش وفقًا لما أعلنه بهدف «تقويم مسار العملية السياسية المأزومة» وكانت رئيسة الحكومة التى لاحقتها تهم بالفساد قد صدر حكم من المحكمة الدستورية يقضى بتنحيها عن الحكم، إلا أن أنصارها من أصحاب «القمصان الحمر» قد هدَّدوا يتحويل البلاد إلى ساحة للحرب الأهلية مع المعارضين الذين خرجوا للتظاهر، مطالبين بإسقاطها.. ومع تعقّد حدة الأزمة السياسية وسقوط قتلى من المعارضين فقد تدخَّل الجيش معلنًا الأحكام العرفية، وقام بالسيطرة على المحطات التليفزيونية بعد أن أعلن بيانًا قدَّم فيه حيثيات تدخّله، مؤكدًا أنه ليس انقلابًا عسكريًّا، وأن الهدف من التدخُّل كان إعادة الأمن ومواجهة الأزمة السياسية التى صارت تهدِّد الأمن القومى التايلندى.. بينما ما زالت الأزمة السياسية فى تايلاند قائمة، ومسار خارطة الطريق للخروج منها جار العمل عليه حتى لحظة كتابة هذه السطور، وكان رئيس المجلس العسكرى التايلندى قد أعلن منذ أيام أنه لن يتم تنظيم أى انتخابات فى البلاد قبل سنة على الأقل، على أن يتم تشكيل «مجلس للإصلاحات» حتى ذلك التاريخ، يشبه إلى حد بعيد «مجلس الشعب» الذى تطالب به المعارضة، وكان بعد نحو أسبوع من حركة الجيش التايلندى، قد توجّه الجنرال برايوت شاناو-شا، إلى الأمة عبر التليفزيون فى وقت متأخر «الجمعة»، موضحًا «أجندته لعام وثلاثة أشهر للسير فى اتجاه انتخابات»، بينما يرى محللون أنه تظل احتمالية عملية شبيهة بما يحدث فى مصر قائمة كأحد السيناريوهات المطروحة. فى وسط مناخ دولى أشرنا إلى حيثياته.
وهنا فقد كنت أتابع ما يجرى فى فلسطين، أمس، من أداء الحكومة الانتقالية التوافقية فى فلسطين اليمين أمام الرئيس أبو مازن، وهنا فلم أكن ألمح الأمر على أنه سعى من هنية للتوافق، وهو الرجل الذى كان مهتمًّا بالحكم فى مدار سنوات، أيًّا كانت النتائج والثمن الذى يدفعه الفلسطينى، بقدر ما بدا الأمر وكأنه تأثير نظرية الدومينو على حركة حماس، وكان تعبيرًا عن الضعف الذى لحق بها من سقوط حليفها فى مصر، وتراجع النفوذ القطرى الداعم لها فى مواجهة تصاعد نفوذ خليجى مواجه لقطر فى الأشهر الأخيرة. الخناق بدا أنه يضيِّق على «حماس»، فالدعم المادى الذى كانت تعيش عليه الحركة من تجارة الأنفاق تم ضربه، والدعم المعنوى الذى كانت تحوزه من صوت مصرى - قطرى - تركى، أخذ فى التراجع، وتحت وطأة الظروف المعيشية فى غزة، ورغبة مصرية فى التنكيل، وشعبية مليئة بالكراهية -تجاه الحركة لا القضية- بدا أن الحكم الحمساوى فى غزة قد أصابه الضعف، وأدرك ضعفه، ومن ثَمَّ أدرك ضرورة تقديم تنازل لصالح تأسيس حكومة وطنية تدير الشؤون الداخلية، بينما تتولَّى السلطة الفلسطينية مسؤولية المفاوضات مع الجانب الإسرائيلى.