فى الوقت الذى يواجه فيه الرئيس الفرنسى فرانسوا أولاند تراجعا شديدا فى شعبيته، تجتاح الحكومة الراهنة عاصفة انقسام عاتية تدق ناقوس الخطر بما يفسح المجال لتكهنات عدة، وذلك رغم تشكيل حكومة اشتراكية جديدة توفق التوجهات السياسية والاقتصادية للرئيس فرانسوا أولاند وكانت الأزمة السياسية فى فرنسا قد تصاعدت فى أعقاب استقالتى وزير الاقتصاد ارنو مونتبور ورئيس الوزراء مانويل فالس. وجاءت استقالة وزير الاقتصاد أرنو مونتبور بسبب عدم رضوخه لضغوط رئيس الحكومة الذى دعاه لاتباع المزيد من إجراءات التقشف «المقنعة» التى تنتهجها فرنسا. والواقع ان ما تفوه به مونتبور بعد اعلانه التخلى عن منصبه فضح سياسية التقشف التى تنتهجها فرنسا منذ عامين من منطلق انها لم تأت بثمارها وهو ما يختلف مع رؤيته الاقتصادية فهو يرى أن هذه السياسة اصبحت عائقا شديدا امام عجلة التنمية وتحرك عجلة الاقتصاد الراكدة، مؤكدا أن أزمة عجز الميزانية بفرنسا تلقى بظلالها على الاتحاد الأوروبى بأثره. أما استقالة رئيس الوزراء مانويل فالس التى رفضها الرئيس فرانسوا اولاند مكلفا إياه بتشكيل حكومة جديدة، فقد جاءت بعد أن واجه وابلا من الانتقادات لسياسته، رغم أنه تولى منصبه منذ ما لايزيد على 150 يوما تقريبا. فالقوى المعارضة والنقابات العمالية الممثلة لشريحة عريضة من الشعب الفرنسى قد طالبته بالإستقالة مرارا، خاصة بعد أن تفاقمت معدلات البطالة وانخفضت مؤشرات التنمية بصورة حادة فى الأشهر الأخيرة، فضلا عن عدة انتقادات وجهت له حول فشله فى الحد من تدفق الهجرة غير الشرعية، ولايمكن أن نغفل ما قامت به نقابات فرنسا العمالية بكافة انتماءاتها من تنظيم احتجاجات ضخمة كانت مؤشرا واضحا على تنامى حالة عدم الرضا تجاه سياسة الرئيس والحكومة الفرنسية معا. وربما كان لهذه الضغوط ولاعتبارات شخصية أخرى دور فى قيام فالس بتوجيه انتقادات لاذعة وشديدة اللهجة لوزير الاقتصاد ارنو مونتبور، وكان ذلك فى آخر جلسات مجلس النواب تحت قبة البرلمان قبيل القيام بالإجازة السنوية المعتادة للحكومة فى شهر اغسطس. والواقع أن الرئيس فرانسوا أولاند وحكومته فى موقف لا يحسدون عليه ليس فقط من الانشقاقات الخارجية والداخلية على مستوى اليسار انما ايضا بما ينفجر فى وجوههم من ثورات غضب للمستبعدين كان آخرها ماتفوه به مونتبور من فضح سياسة التقشف ومعارضته لسياسة الحكومة،وبالطبع كانت بمثابة اعترافات ضمنية على فشل سياسة الاشتراكيين فى انتشال الفرنسيين من وعكتهم الاقتصادية. اما الكارثة الثانية التى انفجرت فى وجه الرئيس اولاند فكانت، منذ أيام قليلة، بإصدار سيسيل دافلوه كتابا جديدا،أثار جدلا شديدا فى الأروقة السياسية،هاجمت فيه الرئيس فرانسوا أولاند متهمة إياه وحكومته بعدم تقديم الجديد للفرنسيين، واصفة أداءها بعدم القدرة على حل المشاكل. ويذكر أن دفلوه لم تكن من انصار البيئة فقط بل واحدة من الاعضاء البارزين بحزب الخضر الفاعلين،كما كانت من وزراء أول حكومة اشتراكية شكلها رئيس الوزراء السابق جان مارك ايروه فور دخول اولاند الاليزيه. وبنظرة أعمق لكواليس السياسة الفرنسية نرى أن أرنو مونتبور وزير الاقتصاد المستقيل فضل الانفصال قبل فوات الأوان تمهيدا لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة بعد أن «اشتم رائحة» هزيمة الاشتراكيين فى ظل الرئاسة الراهنة لفرنسوا اولاند!..فهو كان مرشحا رئاسيا اسبق الا ان التصفيات الاولية فى الحزب الاشتراكي «انذاك» قد استبعدته واختارت سيجولن روايال التى حققت هزيمة وصفعة للاشتراكيين فى الانتخابات الرئاسية قبل الاخيرة،والتى فاز فيها مرشح اليمين الجمهورى نيكولا ساركوزي. ومما لاشك فيه أن وزير الاقتصاد بتصرفه هذا قدم صفعة داخلية لأولاند وحكومته،حيث تضامن معه وزيران آخران وهما بنوه امون وزير التعليم واورلى فليبيتى وزيرة الثقافة بتقديم استقالتيهما،وأشار الأول إلى أن استقالته جاءت اعتراضا على فشل سياسة الحكومة..والواضح ان الجيل الجديد من رعيل السياسيين لم يمتثلوا للقيم التى اعتادها النظام فى السالف، فهم لم يتبعوا نصيحة الاشتراكيين القدامى ك »بير شيفنموه« الذى شغل منصب وزير الداخلية «سابقا» واعتمد سياسة »إن لم تكن راضيا عن سياسية الحكومة فعليك بالصمت والعمل أو الرحيل والاستقالة دون الانتقاد والمواجهة». والواقع أن قوى اليسار التى وقفت وراء الرئيس فرانسوا اولاند ودفعت به للاليزيه اصيبت فى مقتل بانفصال اليسار الراديكالى والخضر عن الحكومة قبيل الانتخابات المحلية الفائتة، وكان من أهم التداعيات الوخيمة لهذا الانفصال على الاشتراكيين ليس فقط الخسارة المدوية فى الانتخابات المحلية الفائتة، وتمكين قوى اليمين الحزبية من رئاسة جل البلديات، بل وقدمت لليمين المتطرف وزعيمته مارين لوبن فرصة ذهبية باقتناص رئاسة حزمة من المدن التى ظلت لعقود طويلة سالفة تحت راية الاشتراكيين. ويذكر ان هذه الفرصة لم تتاح لها ولا لوالدها جون مارى لوبن الرئيس السالف لحزب الجبهة الوطنية لليمين المتشدد من قبل،الا ان تشرذم قوى اليسار مكنهم من تحقيق هذه النجاحات. وعلى نفس الصعيد خرجت تعليقات الصحف الفرنسية لتؤكد أن اولاند فى موقف لايحسد عليه لأن الضربات الموجه اليه تأتى من قلب معاقل اليسار ليس فقط بمختلف الانتماءات من خضر أو راديكاليين، إنما أيضا من الاشتراكيين انفسهم. وماتشهده جبهة الاشتراكيين اليوم تحت لواء الرئيس فرانسوا اولاند يدق ناقوس خطر حقيقى ويهدد بحل البرلمان نظرا لتربص المعارضة اليمينية من جهة، وتوقع بمزيد من المقاطعة للنواب اليساريين والاشتراكيين من جهة اخري،مما يهدد بالاطاحة بالاشتراكيين قريبا. ومن هنا تخشى الساحة،ويترقب المحللون لتداعيات الانقسامات الداخلية للحزب الاشتراكى الحاكم،خاصة ان الرهان على اليمين الجمهورى مستبعد لما يعانيه الحزب «الاتحاد من اجل حركة شعبية»هو الآخر من انقسامات داخلية شديدة عصفت به بعد ان خسر الرئيس الفرنسى السابق نيكولا ساركوزى معركته الانتخابية امام الاشتراكيين بفوز اولاند. وبقراءة للمشهد واسترجاع الأحداث نجد أن ماحدث لرئيس الوزراء السالف جان مارك ايروه منذ خمسة اشهر تقريبا،ودفعه للتقدم باستقالته إثر مطالبة من قوى المعارضة له بالرحيل يؤكد أنه راح كبش فداء لازمة اقتصادية جامحة ومشاكل اجتماعية متراكمة مثل ارتفارع معدلات البطالة وتراجع قدرة الفرنسيين على الشراء»..وهو الامر ذاته يتكرر اليوم فمن الواضح أن الرئيس الاشتراكى يبحث بالتغيير الوزارى عن كبش فداء جديد لتخطى معضلة الازمة الاقتصادية،دون الاعتراف ومصارحة الفرنسيين بان ماتشهده البلاد من تضخم فى عجز ميزانيتها وتدن فى التنمية نتاج لتراكمات لسياسات سالفة،يعجز هو وحزبه عن تقديم حلول لها كما عجز من قبله الحزب اليمنى بزعامة الرئيس السابق نيكولاساركوزي. لذا وفى ظل التحليلات السياسية المتباينة والمتاحة يحبس الفرنسيون الأنفاس خشية وصول اليمين المتطرف بزعامة مارين لوبن إلى الإليزيه فى 2017.