انتفاضة الجياع التي غيرت تاريخ مصر برغم أن الجيش في فترة جمال عبد الناصر كان يبدو مختفيا إلا أنه كان الحاضر الغائب في مختلف الوزارات والمصالح سواء من خلال مندوب القيادة كما يطلق علي ممثل الجيش في هذه الجهات, أو السلطات المتزايدة للمشير عبد الحكيم عامر القائد العام للقوات المسلحة الذي أسندت إليه رئاسة لجنة تصفية الإقطاع والحراسات وإدارة شئون النقل العام والموافقة علي تعيين جميع كبار الموظفين في الدولة إلي جانب اهتماماته بشئون كرة القدم وغيرها. فلما انتهت هذه المرحلة بنكبة يونيو67 كان من أوائل التغيرات التي حدثت إبعاد الجيش عن الحياة المدنية وتفرغه للشئون العسكرية, وهي سياسة حافظ عليها الرئيس أنور السادات الذي وجد أن أحد أسباب هزيمة67 كانت تحول الجيش عن وظيفته الأساسية كجيش للحرب والدفاع عن الوطن إلي جيش أصبح متداخلا بشدة في شئون الحياة المدنية. إلا أن السادات اضطر للاستعانة بالجيش في أزمته في يناير77 قبل35 سنة عندما اندلعت المظاهرات في شوارع مصر بصورة مفاجئة هددت نظام الحكم. وقد بدأت المظاهرات كما حدث في مظاهرات68 أيام عبد الناصر من حلوان أيضا(راجع الحلقة الثالثة) وامتدت إلي القاهرة بعد ذلك وبصورة عنيفه. وقد وصف كثيرون هذه المظاهرات بأنها انتفاضة شعبية بينما ظل السادات يصفها دوما بأنهاانتفاضة حرامية في إشارة إلي الذين قاموا خلال تلك المظاهرات وقد باقتحام المحال ونهبها وسرقتها. وظل الخلاف بين السادات والآخرين محتدما حول هذه المظاهرات وقد كانت لها أسبابها التي حركت الجماهير غضبا فقد كانت انتفاضة غاضبين, لكن في الوقت نفسه تم استغلالها من جانب المندسين ومنتهزي الفرص للنهب والسرقة. وبصرف النظر فقد كانت مظاهرات يومي18 و19 يناير من الأحداث التي غيرت تاريخ مصر سواء بالنسبة لقرار السادات في السنة نفسها بزيارة القدس وإطلاق مبادرته للسلام, أو بالنسبة للموافقة علي نصيحة قدمت له تقضي بإخراج الإخوان المسلمين من كهوفهم للمشاركة في محاربة الشيوعيين والناصريين الذين اعتبرهم علي رأس أعدائه وكانوا وراء هذه المظاهرات. كانوا ينتظرون الرخاء ففاجأتهم زيادة الأسعار في صباح يوم18 يناير1977 كان العنوان الرئيسي في الأهرام: علاوة إضافية لجميع العاملين من أول يناير/ زيادة المعاشات بنسبة10 في المئة/ العلاوة تشمل جميع العاملين. كانت العناوين كما هو واضح تعكس شعور الأمل الذي إنتظره الملايين بعد حرب أكتوبر التي قيل أنها أنهت أيام الشدة لتعقبها سنوات الرخاء والانفراج, وهاهي البداية علاوة لجميع العاملين ولأصحاب المعاشات. إلا أنه لم تمض ساعات قليلة حتي فوجئت الفرحة التي كست وجوه الملايين بعناوين الصحف في اليوم التالي مباشرة18 يناير تعلن قرارات الحكومة بزيادة أسعار قائمة كبيرة من السلع ضمت رغيف الخبز والذرة والسكر والشاي والأرز والغزل والنسيج والشحوم الحيوانية والبوتاجاز والأسمدة نتيجة إلغاء الدعم عن هذه السلع, وزيادة الرسوم الجمركية بين25 و200 في المئة علي السيارات والأجهزة الكهربائية والأقمشة المستوردة, وفرض رسوم إنتاج واستهلاك علي أسعار البنزين والغسالات والسخانات والأفران والثلاجات والسجاد وأجهزة التسجيل والمراوح والأدوات الهندسية والأقمشة القطنية والصوفية والصناعية. وكان معني هذه القرارات ارتفاع تكاليف الحياة, إلا أن الأخطر كان في رأيي شعور الخداع الذي أحس به الملايين عندما ضحكت عليه الحكومة وأعطته باليمين علاوة ثم بعد ساعات أخذت منه بالشمال أضعاف ما أعطته مما كان رد فعله عنيفا وفوريا. وتبدو تلك الزيادات بالنسبة لأسعار اليوم مضحكة فأنبوبة البوتاجاز أصبحت بعد الزيادة95 قرشا وعلبة السجائر زادت20 مليما وكيلو السكر زاد10 مليمات وكذلك كيلو الأزر زاد سعره عشرة مليمات وسعر البنزين زاد بين18 و25 مليما, ولكن هذه الزيادات التي تبدو اليوم هزلية كانت في وقتها قبل35 سنة فقط تمثل أرقاما كبيرة. ولهذا فإن أهم الدروس المستفادة من هذه الأزمة هو عدم مفاجأة الشعب بقرارات تمس تكاليف وأعباء حياته بل إشراكه مقدما في هذه القرارات وإقناعه بها. وفي حوار مع الدكتور عبد المنعم القيسوني نائب رئيس الوزراء في ذلك الوقت ورئيس المجموعة الاقتصادية لم يخف الدكتور القيسوني إشارته إلي اللواء ممدوح سالم رئيس الوزراء والدور المريب الذي قام به في التعتيم علي المناقشات التي تجري داخل المجموعة الإقتصادية وفي مجلس الوزراء لإصلاح الوضع الاقتصادي والتي وافقت علي زيادات الأسعار التي تقررت. وكان ممدوح سالم حسب التفسير يشعر بقوة القيسوني ويري عدم قدرته علي السيطرة علي المجموعة الاقتصادية التي يرأسها فاتجه إلي إضعافها وانتهز فرصة المظاهرات التي خرجت من حلوان فور زيادة الأسعار وطلب إلي وزير الداخلية( السيد فهمي) عدم التعرض لها وكان يمكنه فضها بسهولة, لكنه تركها حتي وصلت إلي القاهرة واستقطبت طلبة الجامعات وامتدت إلي مختلف المناطق. نزول الجيش ثلاثة أيام في يوم18 يناير77 تطورت الأحداث سريعا وبعنف ووجد السادات الذي كان موجودا في أسوان وقتها نفسه أمام أزمة حادة استشعر خطورتها وتهديدها لنظامه فكان أن اتخذ وبسرعة القرارات التالية: 1 إعطاء الأمر بنزول الجيش وحظر التجول. 2 إعلان إلغاء قرارات رفع الأسعار مع استمرار منح العلاوة الإضافية التي تقررت. 3 رفض استقالة د. القيسوني برغم محاولته ذلك كنوع من المسئولية الأدبية. وفي خلال ثلاثة أيام فقط استطاع السادات إنهاء الأزمة ورفع حظر التجول يوم21 يناير وسحب قوات الجيش من الشوارع. وحسب التقارير فقد كانت نتائج أحداث يناير إلي جانب الخسائر المادية لمعرفة جسامتها مقتل77 وإصابة265 من بينهم203 من الشرطة و363 من الأهالي. لكن آثار الأزمة سياسيا كانت الأخطر ففي نفس السنة في نوفمبر77 قام السادات بزيارته المفاجئة للقدس. والمؤكد أن الوضع الاقتصادي الذي زاد سوءا بعد مظاهرات يناير ترك آثاره في تفكير السادات فبعد أن كان منتظرا تحسن الوضع نتيجة إلغاء الدعم وزيادة الأسعار جاءت نتائج الأزمة بعكس ذلك تماما بعد أن ألغيت الزيادات التي كانت مقترحة وجري تنفيذ صرف العلاوة. وغير ذلك جاءت في السنة نفسها استجابة السادات لنصيحة نسبت إلي المهندس عثمان أحمد عثمان( وزير الإسكان والتعمير من أكتوبر73 ولمدة أربع سنوات) ومحمد عثمان إسماعيل محافظ أسيوط في ذلك الوقت. وكانت النصيحة إطلاق الإخوان المسلمين من القيود والعزلة التي فرضها عليهم نظام عبد الناصر وجعلهم يخرجون من كهوفهم لأنهم بالتالي سيقدرون ما فعل ويواجهون معركته ضد الشيوعيين والناصريين الذين ظل السادات محروقا منهم بسبب يناير. وبالفعل أفرج السادات عن الإخوان المعتقلين وسمح لهم بممارسة نشاطهم بقيادة الأستاذ عمر التلمساني( ثالث مرشد للإخوان بعد الشيخ حسن البنا والأستاذ حسن الهضيبي). وبدأ بالفعل انتشار الإخوان في الجامعات والنقابات كما ظهرت إلي جانب الإخوان جماعات إسلامية أخري كان من بينها جماعة الجهاد التي اغتالت السادات. وبعد35 سنة من يناير77 أصبح الإخوان المسلمين يحتلون غالبية مقاعد البرلمان وعلي وشك أن يحكموا مصر! ge.gro.marha@tnomhalas المزيد من أعمدة صلاح منتصر