لا تكاد اهتماماتنا الراهنة تخلو هذه الأيام من الحديث عن مصطلح (الخطاب الدينى)، دون تحديدٍ لمفهومه وضبط لمحتواه تحديدًا دقيقًا منضبطًا، حتى أوشك المتحدثون بشأنه أن يفترقوا طرائق قِدَدًا؛ بل كادت تكون للخطاب الدينى: مفاهيم متعددة بتعدد المتحدثين، ومضامين متعددة بتعدد المتكلمين ومن شأن قضية كهذه ألا ينتهى الخائضون فيها إلا إلى افتراق شديد، وشقاق بعيد!! ولعل أهم جوانب هذا المصطلح وأخطر محاذيره فى الآن نفسه تحديد ملامح العلاقة الوثقى بين (النص الديني) من القرءان الكريم والسنة الصحيحة من جهة، وبين (الخطاب الديني) المنبثق منهما من جهة أخري؛ فأيهما الذى يضطلع بمهمة تحديد مسار الآخر، وضبط اتجاه سيره؟ هل تكون نقطة البدء الأولى من (النص الدينى) ذاته بدلالاته القويمة المستقيمة، تلك التى تلقتها الأمة التى لا تجتمع على ضلالة بالقبول، والتى اضطَلَعت بتأصيلها أجيال متلاحقة من جهابذة علماء الأمة فى مختلف اتجاهات العلوم الشارحة، ثم يأتى (الخطاب الدينى) البشرى بعدئذ بتجلياته المختلفة فيعكس ويستلهم ما سبق للنص الدينى أن اضطلع بتأصيله وتحديده وضبطه؟ أو تكون نقطة البدء: من هذا (الخطاب البشري) الذى يتلَوَّن تبعًا للمعطيات الآنية، ويتشكل وفقًا للاتجاهات البشرية الزئبقية، ثم يتم استدعاء (النص الدينى) «وتوظيفه» لكى يكون «إسنادًا» لهذا الخطاب، و»دعمًا» لمتطلباته، أو تَمَسُّحًا به وادعاءً له؛ حتى وإن اُنْتُزِعَ هذا النص الدينى انتزاعًا من سياقاته الدلالية، والمعرفية والأصولية التى تلقتها الأمة بالقبول!! إن ثمة فرقًا هائلًا وبونًا شاسعًا بين هذين الاتجاهين المتعارضين بدءًا وانتهاءً؛ فنحن حين نستلهم منذ البدء النص القرءانى والحديثى الثابت الراسخ استلهامًا سديدًا فى ضوء دلالاته الأصيلة القويمة، ثم نستعين بعدئذ برشادته فى بلورة خطاب دينى متجدد، نُنير به مسالك حياتنا المعاصرة المضطربة، ونحل على هديه مشكلاتنا المتلاحقة؛ فإننا نأوى بذلك إلى ركنٍ شديد؛ أما حين نعكس طرفى القضية، فنجعل من خطاباتنا البشرية الرجراجة: «أصلًا» نَصْدُر عنه، وركنًا نبدأ مسيرتنا منه، ثم نذهب بعدئذ إلى «النص المقدس» لكى نَضْطَّره اضطرارًا تعسُّفًا وابْتِسَارًا إلى أن يستجيب لخطاباتنا النسبية البشرية تلك؛ فإننا حينئذ نجعل التابع متبوعًا، والفرعَ أصلًا؛ وتكون تلك الخطابات على صورتها تلك حينئذ مبتورة الجذور من أصلها الأصيل وهو النصوص الثوابت، مما يجعلها خطابًا بشريًا خالصًا، لا يكاد يفترق فى ذلك عن غيره من الخطابات البشرية الأخرى الغريبة عن تلكم النصوص، والنائية عنها!! والمُثير للدهشة أن يستوى فى ذلك من «يوظف» النص الدينى فى خدمة (لعبة السياسة) كَيْما يجعلها زورًا وبهتانًا جزءًا من نسيج الدين؛ أو من يوظِّف هذه النصوص الثوابت ترويجًا وتسويغًا «للإرهاب الدامي» الذى يأخذ بخناق الأمة، أو من يستخدمها تغليبًا وترويجًا للتفسيرات الشكلانية والحَرْفية المتحجرة فى فهم الإسلام عقيدة وشريعة وسلوكًا، تحت لافتة السلفية الُمدَّعاة، أو من يوظِّفها لكى يُجَمِّلَ بها دَعَاوى التنوير، والحداثة وما بعد الحداثة. ولا يغرَّنَّك بعدئذ: اختلاف تلك المظاهر أو تغاير النتائج، بل وتناقضها أحيانًا؛ فالمأخذ هو المأخذ، والطريق هو الطريق؛ وإن اختلفت الألوان والشِّيَات؛ إذ أن الكلَّ يتخذ من (النص الديني) سُلَّمًا لمّا اعتنقه سلفًا من أفكار بشرية، أو من فهم متصلب، ثم يُنقِّب بعدئذ فى النص المقدس باحثًا عن «التبرير» لا عن «التفسير»،أو عن «الاستناد» لا عن «الاستمداد»؛ على حد تعبير القدماء!! فإذا تجاوزنا هذه القضية المِفْصَليِّة التى لا ينبغى أن تغرب عن الأذهان، فإن القضية الأخرى التى لا تقل عنها أهمية تدور حول «نماذج» من مُنْطَلَقات الخطاب الدينى السديد الرشيد الذى يتكىء على النص الدينى القطعى ويصدر عنه، ويَنْهل من مَعِينه. أول تلك المنطلقات:ضرورة العودة بالخطاب الدينى إلى ساحة السماحة وسعة الأفق، بمَنْجَاةٍ من التصلب المقيت، والأحادية المتحجرة؛ فلقد انزلق ذلك الخطاب ويا للأسف من «سماحة»اختلاف التنوع إلى «شراسة» تناقضات الأضداد. وفى هذا الطريق المنكود الذى انزلق إليه فريقٌ من المسلمين فى أيامنا هذه:يعمد الكثيرون ويا للأسف أيضاً إلى اقتطاع الآيات الكريمة والأحاديث الصحيحة من سياقها الأصولى والدلالى وتوظيفها توظيفًا مُغْرِضًا ضد من يرونه خصمًا أو منافسًا وإِنْزالها بالهوى والغرض على مُخالفيهم فى الرأي؛ وهذا ما كان يفعله الخوارج فى قديم الزمان وحديثه؛ إذ كانوا يُنْزِلُون الآيات الكريمة التى نزلت بشأن الكفار على المسلمين، لمجرد الخلاف فى الرأى وهكذا يفعل خوارج هذا العصر، وكل عصر، فيستحلون بذلك الدماء وينتهكون الحرمات؛ دون أدنى دراية بما أصَّلَهُ الأصوليون من قواعد رصينة فى «تنزيل عمومات النصوص» تحت المصطلح الأصولى الدقيق (تحقيق المناط). ثانى تلك المنطلقات: هو استنهاض «روح الأمة» ببعث دافعية»الإرادة» فى شرايينها، تلك «الإرادة» التى خبت جذوتها وانطفأت شعلتها؛ فأمست تك الإرادة فى العصور المتأخرة مقصورة على مجرد الاستجابة لرغبات البدن، كما انحصرت فى ردود الأفعال الجزئية القاصرة المحدودة،الميكانيكية منها والشعورية فحسب، إغفالًا للباعث الأسمى وهو «الإرادة» الطامحة دومًا إلى المثل الأعلى وجودًا ومصيرًا، وحضارة وعمرانًا، وعلمًا ومدنية. لقد توقف الخطاب الدينى التقليدى بالمسلمين عند حدود الاستجابات الفردية المباشرة، فأصيب كثيرون من المسلمين فى عصورهم المتأخرة بضروب شَتَّى من الكسل العقلى والوجدانى والحضاري، وأصبحوا يَتَسَّولون من الآخرين ما يتساقط من «إراداتهم»، وما يتبقى من «نواتج» تلك الإرادات؛ ثالث تلك المُنْطَلَقات: للخطاب الدينى السديد: يتمثل فى تجديد الفهم المتبصر لقضية «المسئولية»، فالمسئولية فى الإسلام حتى فى أدنى درجاتها التى هى أضعف الإيمان كما يقول الحديث الصحيح ليست مجرد الإنكار السلبى بالقلب، والذى ليس سوى شعور باطنى صامت خالٍ من كل مظهر إيجابي، لأن مثل هذا الإنكار السلبى كما يقول بعض المفكرين المسلمين بحق لا يسمى تغييرًا للمنكر ذلك الذى حضّ عليه الحديث الصحيح بل قد يكون إقرارًا سكوتيًا به؛ كما قد يكون تشجيعًا عليه،فهذا الإنكار القلبى يستلزم إشعارَ المُسيء أو المقصِّر بأنه كَمٌّ مُهْمَلٌ، لا يستأهل تكريمًا، وبذلك نكون قد بدَّلْنا بموقفنا السلبى المتراخى موقفًا آخر قِوامه الجد والغيرة؛ والعزم والتصميم. رابع تلك المُنْطَلَقات: يتمثل فى ضخ دماء الحيوية فى «قيمة العدل» المطلق الذى لا يقتصر على مجرد الظَّفَر (بعدالة الحقوق) وما يقابلها من (عدالة الواجبات)، بل إن منطلق الخطاب الدينى الرشيد يذهب إلى تكملة هذه الثلاثية بما هو أعمق من ذلك وأبعد مدي، ألا وهو (انتصاف الإنسان من نفسه)، على حد ما ورد فى نص الأثر الذى رواه البخارى فى صحيحه. فحين تشيع ثلاثية هذا العدل الرفيع يُقِيم الإنسان فى ذاته الباطنة ميزانًا رقيقًا دقيقًا، بين ما يأخذ وما يُعطي، متمثلًا فى وجدانه قوله تعالى (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ)؛ لكى يقرع أجراس المراقبة التى تؤرِّقه وتقلقه وتحاسبه من داخله حسابًا خفيًا، وما أقساه من حساب. ثم أقول ... لعلنا بهذه المنطلقات الأربعة، وأشباهها ونظائرها؛ نضع أيدينا على مفاتيح خطاب دينى مُقْتَرح، ننفض به عن صورة الإسلام ما لحق بها من العنف والدموية، وغلظة التكفير والإرهاب؛ كما ننفض به عن ذواتنا الفاعلة أثقال التأخر والتقهقر، ثم نستشرف بها مستقبلا واعدا نستحق فيه أن نكون خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ. لمزيد من مقالات د.محمد عبدالفضيل القوصى