لأول مرة في تاريخ التنسيق، كلية الطب تفتح أبوابها لطلاب المرحلة الثالثة لهذا السبب    محافظة الشرقية توزع مياه باردة وعصائر على عمال النظافة ( صور)    قطع مياه الشرب عن مدينة ديرمواس بالمنيا غدا لمدة 6 ساعات    كامل الوزير: عمل على مدار الساعة لتحقيق مستوى نظافة متميز بالقطارات والمحطات    613 شهيدا وجريحا جراء العدوان الإسرائيلي على غزة خلال 24 ساعة    محافظ الشرقية ينعى على المصيلحى: نموذج للمسؤول الوطنى ورمز للإخلاص    الصحف العالمية: ترامب ينشر قوات الحرس الوطنى فى واشنطن ويدرس إعادة تصنيف الماريجوانا..8 دول أوروبية تتحرك ضد إسرائيل ببيان يرفض احتلال غزة..تراجع التوظيف والمكافآت ونمو الأجور بعد تباطؤ سوق العمل فى بريطانيا    على أنغام السمسمية، احتفال جماهير الإسماعيلي بانعقاد عمومية سحب الثقة من مجلس الإدارة (فيديو وصور)    استبعاد دوناروما، الإعلان عن قائمة باريس سان جيرمان للسوبر الأوروبي    خاص| وسام أبوعلي يستخرج تأشيرة العمل في أمريكا تمهيدا للانضمام إلى كولومبوس كرو (صورة)    تعليم الدقهلية ضمن قائمة أفضل 7 مشاريع بالمؤتمر الدولي الخامس للاتصالات    بدء استئناف المتهم بقتل نجل مالك مقهى أسوان على حكم إعدامه    أمين مجمع الفقه الإسلامي: نصرة شعب غزة فريضة مقدَّسة في كل الأديان    في الموجة الحارة، الصحة توضح الفرق بين الإجهاد الحراري وضربة الشمس    «تعليم كفر الشيخ» تعلن النزول بسن القبول برياض الأطفال ل3 سنوات ونصف    تعيين الدكتور أشرف مهران عميدًا لكلية الهندسة بجامعة مصر للمعلوماتية    «العمل» تجري اختبارات للمرشحين لوظائف الأردن بمطاحن الدقيق    القوات الروسية تستهدف المجمع الصناعي العسكري ومراكز تصنيع المُسيرات الأوكرانية    المكتب الإعلامي الحكومي في غزة يفند أكاذيب الاحتلال حول سياسة التجويع في القطاع    خبراء: أوكرانيا تحولت إلى مختبر حربي للصين لاختبار أسلحة وخطط المواجهة مع أمريكا في المستقبل    25 أغسطس الحالي.. ترامب يستضيف رئيس كوريا الجنوبية لبحث تفاصيل اتفاقهما التجاري    الأمم المتحدة: أكثر من 100 طفل يموتون جوعا في غزة    "الصحة" و"الأكاديمية الوطنية" تبحثان تعزيز البرامج التدريبية للقطاع الصحي    اليوم.. إعلان نتيجة انتخابات مجلس الشيوخ 2025    معامل ومكتبة مركزية.. جامعة أسيوط الأهلية تستعد لاستقبال الطلاب الجدد - صور    حمادة صدقي: أحمد حسن زعل من انضمام حسام حسن لفراعنة 2006 بسبب شارة الكابتن    قبل رونالدو.. ما هي حكاية صديق جورجينا الأول؟    منتخب مصر الثانى يواجه البحرين مرتين وديا فى أكتوبر المقبل رسميا    رسميًا.. باريس سان جيرمان يتعاقد مع مدافع بورنموث    فيريرا ينصح عواد بالانتظار للحصول على فرصة المشاركة مع الزمالك    خريطة الأسعار اليوم: انخفاض الدواجن واللحوم والذهب    بالفيديو.. التنمية المحلية: تعليمات بمراجعة معايير السلامة داخل منظومة النظافة    الأرصاد: تأثر البلاد بكتل هوائية شديدة الحرارة.. وذروة الموجة الخميس المُقبل    الدقهلية تبدأ مهرجان جمصة الصيفي الأول 2025 للترويج للسياحة وجذب الاستثمار    مصدر يكشف لمصراوي أعداد السودانيين العائدين عبر قطارات السكة الحديد    حملات موسعة لهيئة البترول للتصدي لمخالفات تداول وتوزيع المنتجات البترولية    مصرع طفل غرقا في ترعة باروط ببني سويف    وزير الصحة يبحث مع المرشحة لمنصب سفيرة مصر لدى السويد ولاتفيا التعاون الصحى    الجمعة.. فرقة واما تحيي حفلا غنائيا في رأس الحكمة بالساحل الشمالي    الجمعة.. قصور الثقافة تقيم فعاليات متنوعة للأطفال بنادي الري احتفالا بوفاء النيل    أمير كرارة على القمة.. فيلم الشاطر يقفز بإيراداته إلى 75.2 مليون جنيه في 26 ليلة    محافظ الجيزة يترأس اجتماع اللجنة التيسيرية لمشروع تطوير منطقة الكيت كات    افتتاح فعاليات الدورة السادسة من معرض رأس البر للكتاب    محمد نور: مقياس النجاح في الشارع أهم من لقب «نمبر وان» | خاص    «محمد رمضان»: أي حد لو زعلته بقصد أو من غير قصد يتفلق    لليوم ال12.. التموين تستكمل صرف مقررات أغسطس    «لا مجال لأي تقصير».. محافظ الدقهلية يحيل المدير الإداري بمستشفى الجلدية والجذام للتحقيق    تحرير 131 مخالفة للمحلات التى لم تلتزم بقرار مجلس الوزراء بالغلق    هل يجب قضاء الصلوات الفائتة خلال الحيض؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    إنقاذ رضيعة من قيلة سحائية وعيوب قلبية بمستشفى حورس بالأقصر    أمين الفتوى: "المعاشرة بالمعروف" قيمة إسلامية جامعة تشمل كل العلاقات الإنسانية    أول هبوط في سعر الفراخ البيضاء.. أسعار الدواجن اليوم الثلاثاء 12-8-2025 صباحًا    لجان ميدانية لمتابعة منظومة العمل بالوحدات الصحية ورصد المعوقات بالإسكندرية (صور)    تنسيق المرحلة الثالثة، الأماكن الشاغرة للشعبة الأدبية (نظام حديث)    العظمي 38.. طقس شديد الحرارة ورطوبة مرتفعة في شمال سيناء    مواقيت الصلاة في أسوان اليوم الثلاثاء 12أغسطس 2025    أجمل عبارات تهنئة بالمولد النبوي الشريف للأهل والأصدقاء    أنا مريضة ينفع آخد فلوس من وراء أهلي؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من البدايات حتي تحليل النص
حكاية نصر بقلمه
نشر في أخبار الأدب يوم 02 - 07 - 2011


1 البدايات
كان حلم الأب أن أواصل تعليمي في الأزهر، بعد أن حفظت القرآن في كُتَّاب القرية. تبيّن للأب أنّ المسار طويل والعمر قصير فتحوّلتُ إلي التعليم المدني. ازدادت وطأة المرض علي الأب وأنا علي أبواب امتحان الإعدادية، فقرّر أن ألتحق بالتعليم الفنّي وحسنا فعل، فقد وافته المنيّة في 24 أكتوبر 1957، أي في بداية العام الدراسي. هذا مكّنني من الانخراط في المسئولية التي وضعتني فيها الظروف مسئولية الإبن الأكبر بعد الحصول علي الدبلوم والعمل فنيا لاسلكيا. كانت القراءة متعتي الوحيدة ونافذة التواصل مع العالم لكسر وحدة "اليُتْم". كتبت الشعر وحاولت كتابة القصة، لكنّ نهم القراءة ظلّ هو الحاكم.
تجربة "اليتم" تمثّل مستوي ما من الاغتراب، خاصّة في المجتمعات التي تخلو من نظام للرعاية الاجتماعية للمواطن. لكنّ هذه الغربة كان يخفّف منها الحياة في مجتمع يحاول النهوض. كانت ثورة 1952 تمثّل هذا الحلم بالنهوض، لكنّ ملابسات الصّدام، الذي حدث بين قادة الثورة وبين القوي الوطنية المختلفة، بسبب مسألة "الديمقراطية"، ألقت بظلالها علي وعيي منذ منتصف الخمسينات. وهذا مستوي آخر للاغتراب، أسميته بداية "الحزن السياسي"، لأنّه لم يصل أبدا إلي حدّ التقاطع مع حلم النهوض. هزيمة 67 عمّقت هذا الاغتراب، وحوّلت الحلم إلي كابوس. كان انقلاب 1970 بمثابة النهاية، وتحوّل الاغتراب إلي جرح عميق، أعتقد أنه ما يزال ينزف.
2 في الجامعة
لم يفارقني حلم الأب، لكنه صار حلما من نوع آخر، انتهي بي إلي قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة، وكان هدفي قسم الفلسفة. كانت محاضرة الفلسفة في السنة الأولي مخيّبة لكلّ آمالي فقرّرت قسم اللغة العربية. أربع سنوات لليسانس (1968- 2791) خمس سنوات للماجستير بعد السنة التمهيدية (3791 - 7791) ثم أربع سنوات للدكتوراه (1977-1981). كانت خطواتي متأنّية سعيا للإجادة. كثيرون من أقراني سبقوني كثيرا في الإنجاز، حتي صاروا رؤسائي الإداريين. لم أكن متعجلا. السنوات المشحونة، اجتماعيا وفكريا وسياسيا، تُبطِّئ من إنجازاتك، بحكم الانشغال بالهمّ العامّ. فقط هؤلاء الذين لا يعنيهم الشأن العام يخطون بسرعة.
قراءتي في الفكر الديني، قبل الجامعة، كانت لا بأس بها بتأثير فكر "الإخوان المسلمين"، الذي تأثّرت به في صباي الأوّل، خاصّة كتابات سيّد قطب ومحمد قطب. كنت مفتونا بكتابات
القطبين عن القرآن والفنّ، وتفسير سيّد قطب "في ظلال القرآن" كان مدهشا ومذهلا بالنسبة لي. إلي جانب فكر الإخوان كنت قارئا نهما للعقاد وطه حسين ونجيب محفوظ. كان ببالي أن أدرس شيئا عن "النظرية الجمالية الإسلامية"، متأثّرا بكلّ هذه القراءات. تصادف أن قرأت عن أزمة "محمد أحمد خلف الله" في دراسته للفنّ القصصيّ في القرآن الكريم بإشراف الشيخ أمين الخولي، وكيف انتهت بفصله من الجامعة، وبحرمان أستاذه من الإشراف علي رسائل في القرآن.
طبعا كنت علي وعي بالأزمات التي أحدثتها بعض الكتب الجسورة، مثل كتاب علي عبد الرازق "الإسلام وأصول الحكم"، وكتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي"، بل وعاصرت أزمة "خالد محمد خالد" في كتابه "من هنا نبدأ"، كما عاصرت أزمة كتاب "لويس عوض" "في فقه اللغة العربية". كلّ هذا غير توجّهاتي فقرّرت أن أكون "ناقدا أدبيا".
ما لا يعرفه الناس، أنّ مجلس قسم اللغة العربية هو الذي أعادني إلي الاتّجاه الأوّل: أعني دراسة القرآن من مدخل الأدب، حيث قرّر مجلس القسم أنّني يجب أن ألبّي حاجة القسم إلي متخصّص في الدراسات الإسلامية، وإلا عليَّ أن أبحث لنفسي عن عمل آخر، غير أن أكون معيدا. شرحت لمجلس القسم مخاوفي من الدراسات الإسلامية، فلقيت نوعين من ردّ الفعل: تطمينات بأنّ ما حدث في الماضي كان سببه خلافات شخصية بين الأساتذة. طبعا هذا كلام لا يقنع أحدا، فطرحت التساؤل: ما الذي يضمن عدم تكرار هذه الخلافات في المستقبل؟ وهنا لقيت ردّ الفعل الساخر: أتظنّ أنك ستأتي بما لم يأت به الأوائل؟ كان ردّي: أليس هذا هو ما يجب أن أفعل، أليس هذا معني البحث العلميّ!
3 مسارات البحث عن المنهج
انتهي الأمر باقتراح موضوع "قضيّة المجاز في القرآن عند المعتزلة"، جامعا بين ولعي بالفلسفة والأدب من جهة، وبين احتياج قسم اللغة العربية لمتخصّص في الدراسات الإسلامية من جانب آخر. لم أكن أعرف بعد منهج تحليل الخطاب، أو غيره من المناهج، إنّما حاولت معالجة موضوع البحث بجدّية وأناة، بالإفادة من كلّ الأساتذة إلي جانب المشرف، وعدم الانغلاق في مسمّي "التخصّص". كلّ ذلك قادني إلي مسألة المنهج. وفي هذا الكتاب الأوّل، الذي نشر بعنوان "الاتّجاه العقلي في التفسير" (المركز الثقافي العربي، بيروت والدار البيضاء، عدّة طبعات) جنوح أكثر نحو منهج التحليل التاريخيّ الاجتماعيّ، باعتبار الأفكار ثمرة العلاقة الجدلية بين حركة الواقع وموقف هذا المفكّر أو ذاك من هذا الواقع. إلي حدّ كبير، كنت متأثّرا بهذه العلاقة الجدلية بين الفكر والواقع، لا علي أساس الانعكاس الآليّ للبنية التحتية في بنية فوقية. كنت أسخر من هذا التصوّر الآليّ للعلاقة بين الفكر والواقع. كانت هذه بداياتي مع "المنهج" ومشكلاته.
القاعدة التي وضعها المعتزلة قاعدة التأويل المجازيّ لكلّ ما يتناقض مع العقل في منطوق القرآن - ما تزال قاعدة راسخة، أفاد منها الفكر الإسلاميّ علي طول تاريخه. الأشاعرة يؤوّلون كلّ آيات الصفات، ويختلفون مع المعتزلة في تأويل ما يتّصل بخلق الأفعال وحرية الإنسان، أي يختلفون مع المعتزلة حول مسائل تختصّ بالإنسان. المتشدّدون الحنابلة وحدهم هم الذين يرفضون التأويل المجازي، بدعوي أنّ المجاز قرين الكذب، وأنّ القرآن منزّه عنه. إنّ إنكار وجود المجاز في القرآن يُخلّ إخلالا بالغا بقضية الإعجاز، التي تعتمد أساسا علي التفوّق الأسلوبيّ والبلاغيّ للغة القرآن.
هذا الأساس العقليّ للتأويل المجازيّ الذي وضعه المعتزلة بدأ مسيرة في تاريخ التفسير، لم ولن تتوقّف. سيظلّ الخلاف قائما حول التطبيق، وليس حول القاعدة. في العصر الحديث، وبفضل إسهامات محمد عبده، ثمّ أمين الخولي، إلي سيّد قطب، تطوّر مفهوم "المجاز" إلي مفهوم "التصوير". ولسيّد قطب كتابات عن "التصوير الفنّي" و"مشاهد القيامة" في القرآن. المشكلة الآن هي محاولات تقويض المشروع العقلاني واستبعاده من أفق الخطاب الديني الراهن. وهو الموضوع الذي ستثيره المقالة التالية.
النتائج التي توصلت إليها في هذه الدراسة الأولي أثارت أسئلة من قبيل: إلي أيّ حدّ يمكن القول إنّ منهج تأويل النص الدينيّ يعتمد علي مقاربة موضوعية؟ ولماذا اتّفق المتجادلون، حول معني القرآن، علي تقسيمه إلي "محكم ومتشابه"، ثم تشعّبت بهم الطرق، واختلفوا حول تحديد "المحكم" وتمييزه عن "المتشابه"؟ لماذا صار "محكم" المعتزلة "متشابها" عند خصومهم، والعكس صحيح؟ وهل الخلاف حول "بؤرة المعني" في القرآن مجرّد خلاف لاهوتيّ؟ أم أنّ هذا الخلاف اللاهوتيّ يعكس اختلافا في مواقف الجماعات المختلفة من الواقع الاجتماعيّ السّياسيّ الثّقافيّ؟
تأكّدت هذه الافتراضات، التي انطلق منها البحث، من خلال الكشف عن حقيقة أنّ الاختلاف حول الواقع السياسيّ، منذ مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان وما تلاه من حروب، مثل "الجمل"، و"صفين"، كان هو الباعث الأوّل للنقاش اللاهوتي.
هذه النتائج، التي توصّل إليها الباحث في بحثه الأوّل، وجّهته إلي محاولة اكتشاف منهج التأويل في فضاء آخر، هو فضاء الفكر الصوفيّ، مفترضا أنّ الفضاء الصوفيّ فضاء روحيّ خالص. من هنا قمت بدراسة "تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي". لكنّ النتائج لم تختلف كثيرا، أعني من حيث تأثير مشكلات الواقع في وعي المفسّر أو لاوعيه. الاستجابة الصوفية مختلفة، بحكم اختلاف المنحي الفكريّ من جهة، وبحكم اختلاف الواقع السياسيّ الاجتماعيّ من جهة أخري، حيث أثّر مناخ الأندلس التعدّدي من جهة، وظروف حروب "الاسترداد" من جهة أخري، في تشكيل طبيعة الوعي الصوفيّ وفي صياغة المعني الدينيّ عند ابن عربي.
4 مفهوم النصّ
كما ذكرت من قبل، كنت واعيا للمخاطر الماثلة في التعامل مع مشكلات التفسير والتأويل من منظور نقديّ، لكنّني كنت في نفس الوقت مدركا لضرورة التعامل مع أسئلة من نوع "طبيعة" النص الديني، حدود قابليته للتأويل، وضوابط هذا التأويل.
انبثقت هذه الضرورة من حقيقتين: أوّلا، من النتائج التي توصّلت إليها في أبحاثي عن تاريخ التأويل في بعديه اللاهوتيّ والصوفيّ، وهي نتائج كشفت عمليات التلاعب الدلاليّ في إنتاج المعني. الحقيقة الثانية: أنّ المعني الدينيّ في الواقع المصريّ العربيّ، الذي عشته في عقدي الستّينات والسّبعينات من القرن الماضي، كان موضوعا لتأويلات شتّي من الاشتراكية والقومية إلي الحاكمية والإسلاموية.
كان السؤال الجوهريّ الذي انبثق في الدراسة الثالثة - "مفهوم النصّ" - هو "ماهية القرآن" ومنهجية مقاربته. في تصوّري أنّ التلاعب الدلاليّ ممكن في حالة عدم تحديد ماهية النصّ تحديدا يعتمد علي الحقائق التاريخية والثقافية التي تولّدت في رحمها النصوص. حين أقول "تولّدت في رحمها" أفترض أنّ القارئ يفهم أنّني لا أنكر إلهية المصدر؛ مفهوم "البذرة" أو "البذور" التي تتولّد في رحم التاريخ والثقافة يحيل إلي الجدل الإلهي/الإنساني في عملية الوحي وفي صياغة المعني.
السؤال صعب، والأمر عويص. لكنّ البحث فيه ليس مستحيلا في ضوء إرهاصات تراثية لاهوتية/فلسفية/صوفية تسمح للباحث المعاصر بالتواصل مع إنجازات الفكر الإنساني في أرقي تعبيراته. ولا ننس أنّ ثمّة محاولات بذلت في الفكر الإسلامي النهضوي الحديث، في إيران والهند والعالم العربي، لطرح بعض هذه الأسئلة عن طبيعة النصّ الدينيّ، وضرورة إنجاز منهج للتأويل يفتح معني النص للإجابة عن أسئلة معاصرة. منطلقا من الإنجازات التراثية والنهضوية، متواصلا مع الفكر الإنساني، لم أتخيّل أنّني أرتكب أمرا محظورا. ما أزال متيّقنا أنّ تحقيق إصلاح فكريّ جوهريّ في الفضاء العربيّ الإسلاميّ غير ممكن دون الدخول في هذه المناطق. إنها محظورة لأنها تهدّد عروشا سياسية واجتماعية وثقافية كثيرة، لكنها ضرورية لتحقيق نهضة مستدامة.
5 من النصّ إلي الخطاب
انطلقت في كتاب "مفهوم النصّ" من اعتبار القرآن "نصّا" يمكن تأويله وفق إجراءات منهج تحليل النص، باعتبار النصّ أساسا "بناءً لغويّا" ثقافيا/تاريخيا، فإنّني قد طوّرت هذا المفهوم في السنوات الأخيرة، خاصّة بعد إدراكي أنّ مفهوم النص يتضمّن مفهوم "المؤلّف"، كما يتضمّن مفهوم "الوحدة" القائمة علي التناسق البنيويّ للأجزاء، هذا فضلا عن مفهوم "القصد".
هذا المفهوم الكلّيّ مفهوم النص - بما يتضمّنه من مفاهيم جزئيّة، انبثق منذ اللحظة التاريخية الأولي، التي تمّ فيها تدوين القرآن في "المصحف"، بترتيبه الحالي، وتقسيمه إلي سور، يتضمّن كلّ منها نصوصا تنتمي إلي مناسبات تاريخية مختلفة. وبسبب هذا التحوّل الشكليّ من "قرآن" إلي "مصحف"، قام علم التفسير علي محاولات تأكيد التناسق بين الأجزاء، بافتراضات لعلّ أهمّها ثنائيتا: "المحكم والمتشابه"، و"الناسخ والمنسوخ"، وهي افتراضات عمَّقت الاختلاف ولم تحقّق هدف "الانسجام" بين الأجزاء.
لاحظت أيضا أنّ المفسّرين المحدثين يختلفون فيما بينهم في تحديد "بؤرة الدلالة" القرآنية بصفة عامّة، حيث يصرّ بعضهم علي تحديدها في الأبعاد الروحية والأخلاقية، بينما يصرّ آخرون علي تحديد البؤرة الدلالية في الأحكام والتشريعات. كلّ هذا دفعني إلي مراجعة مفهوم النصّ، بالعودة إلي الطبيعة التداولية الأولي للقرآن، أي بالعودة إلي الظاهرة القرآنية قبل أن تتّخذ شكل "كتاب" أو "مصحف". تكشف هذه الطبيعة التداولية أنّ القرآن مجموعة من "الخطابات"، التي تمّ جمعها وترتيبها بشكل لم تكتشف أسسه بعد، نتيجة التسليم بأنّ هذا الترتيب "توقيفيّ"، أي أنّه ترتيب إلهيّ. لكنّ هذا التسليم "الإيمانيّ" لا يعني أنّ البحث عن "علّته" يناقض الإيمان، فالبحث عن العلّة هو محاولة لاكتشاف "الحكمة الإلهية" وهذا من صميم الإيمان.
6 تحليل الخطاب
العودة إلي الطبيعة التداولية للكشف عن مستويات المعني، وحدود الدلالة، يستلزم منهج "تحليل الخطاب"، بما يتضمّنه المنهج من الكشف عن الأصوات البارزة والمضمرة في كلّ خطاب علي حدة، والكشف عن "دليل الخطاب" و"فحوي الخطاب" و"نمط الخطاب". منهج تحليل الخطاب يعني أنّ كلّ خطاب هو في النهاية "نصّ" لغويّ، ومن هنا "تركيبية المنهج" المطلوب. وليس معني هذا المنهج التحليلي تجزيئ الظاهرة القرآنية، ولكنه يعني أنّ الكشف عن "الكلانية" لا يتمّ إلا بتحليل الأجزاء. وهذا مخالف للمنهج الكلاسيكيّ الذي يفترض "الكليانية" ثمّ يفرضها علي كلّ الأجزاء دون تمييز. المنهج الكلاسيكي افترض الكليانية علي أساس لاهوتيّ، وليس علي أساس تحليليّ، ومنهج "تحليل الخطاب" يحاول الاقتراب من الظاهرة القرآنية قبل الصياغات اللاهوتية والتشريعية، أو الفلسفية والأخلاقية، ال"بعد قرآنية". بل يزعم منهج "تحليل الخطاب" أنّه قادر علي تحليل تلك الصياغات "البعد قرآنية" تحليلا نقديا.
المنهج - تحليل الخطاب - يوظّف التحليل اللّغويّ للنصوص، ولا يكتفي به؛ فاللغة في الخطاب تتجاوز دلاليا حدود العلامة اللغوية حين تحوّلها إلي علامة سميوطيقة فيما يعرف بالسمطقة. من هنا توظيف السميوطيقا. هدف "التأويل" هو تحقيق الفهم العميق للظاهرة، لكنّ هذا الفهم لا يجب أن يزعم لنفسه الهيمنة بادّعاء الحقيقة النهائية، أو الصحّة المطلقة. تعلّمنا الهرمنيوطيقا الدرس الذي يجب ألا ننساه: كلّ تأويل مشروع طالما ينطلق من التواضع وعدم ادّعاء الموضوعية المطلقة، التي لا وجود لها: ليست الحقيقة - أقصد المعني - قارّة في النصوص الظواهر، وليست في عقل المفسّر ووعيه، بل هي ناتج هذا التفاعل الجدليّ بين المفسر - لا الفرد بالمعني الفرويدي بل الفاعل الاجتماعي وبين الظاهرة/النصّ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.