«المصريين الأحرار» يتدخل لحل مشكلة الكهرباء بمزرعة «القومي للبحوث» بالبحيرة    وزير الأوقاف: دراسة علم الآثار من فروض الكفاية (صور)    صرف مكافأة نهاية الخدمة للمحالين للمعاش بالصحف القومية    وفد سياحي متعدد الجنسيات يزور المناطق الأثرية بالمنيا    جيلي كولراي موديل 2022 كسر زيرو بأقل من مليون جنيه    محافظ القليوبية يناقش تنفيذ عدد من المشروعات البيئة بأبي زعبل والعكرشة بالخانكة    حصاد 4 آلاف فدان من محصول الكمون في الوادى الجديد    حماس تعلّق على إعلان الاحتلال بدء عملية عسكرية جديدة في جباليا    مهند العكلوك: مشروع قرار لدعم خطة الحكومة الفلسطينية للاستجابة لتداعيات العدوان الإسرائيلي    الرئيس الكولومبي يطالب «الجنائية الدولية» بإصدار مذكرة اعتقال بحق نتنياهو    موعد المباراتين المتبقيتين لأرسنال بالدوري الإنجليزي    الدوري الإنجليزي.. سون يقود هجوم توتنهام أمام بيرنلي    ميتروفيتش يقود هجوم الهلال أمام الحزم    ننشر خريطة المدارس التكنولوجية التطبيقية ATS وIATS بالمحافظات -مستند    تأجيل محاكمة 35 متهمًا بالانضمام لجماعة إرهابية وتمويلها في المقطم ل10 يونيو المقبل    اليوم العالمى للمتاحف.. متحف إيمحتب يُطلق الملتقي العلمي والثقافي "تجارب ملهمة"    لمدة أسبوعين.. قصور الثقافة تقدم 14 مسرحية بالمجان بالإسماعيلية وبورسعيد وشرم الشيخ    إيمي سمير غانم ل يسرا اللوزي بعد رحيل والدتها: "هنقعد معاهم في الجنة"    وزير الأوقاف يحظر تصوير الجنائز بالمساجد مراعاة لحرمة الموتى    عمرو الورداني للأزواج: "قول كلام حلو لزوجتك زى اللى بتقوله برة"    رئيس صحة الشيوخ في يوم الطبيب: الدولة أعطت اهتماما كبيرا للأطباء الفترة الأخيرة    وزير الصحة الأسبق: تاريخ مصر لم ينس تضحيات الأطباء    «هشمت رأسه وألقته من أعلى السطح».. اعترافات المتهمة بقتل زوجها في قنا    استعدوا لنوم عميق.. موعد إجازة وقفة عرفات وعيد الأضحى 2024    إلغاء جميع قرارات تعيين مساعدين لرئيس حزب الوفد    نقيب الأطباء يشكر السيسي لرعايته حفل يوم الطبيب: وجه بتحسين أحوال الأطباء عدة مرات    وزير التموين: مصر قدمت 80 ٪ من إجمالي الدعم المقدم لقطاع غزة    أخبار الأهلي : طلبات مفاجئه للشيبي للتنازل عن قضية الشحات    آخرها هجوم على الاونروا بالقدس.. حرب الاحتلال على منظمات الإغاثة بفلسطين    نتائج منافسات الرجال في اليوم الثاني من بطولة العالم للإسكواش 2024    «الأرصاد» تكشف حقيقة وصول عاصفة بورسعيد الرملية إلى سماء القاهرة    رئيس الوزراء: نستهدف الشركات العالمية للاستثمار في مصر    التنمية المحلية: استرداد 2.3 مليون متر مربع بعد إزالة 10.8 ألف مبنى مخالف خلال المراحل الثلاثة من الموجة ال22    قروض للشباب والموظفين وأصحاب المعاشات بدون فوائد.. اعرف التفاصيل    تسلل شخص لمتحف الشمع في لندن ووضع مجسم طفل على جاستن بيبر (صور)    باسم سمرة يكشف سر إيفيهات «يلا بينا» و«باي من غير سلام» في «العتاولة»    جامعة القاهرة تستضيف وزير الأوقاف لمناقشة رسالة ماجستير حول دور الوقف في القدس    البابا تواضروس يدشن كنيسة "العذراء" بالرحاب    الإمارات تهاجم نتنياهو: لا يتمتع بأي صفة شرعية ولن نشارك بمخطط للمحتل في غزة    تأجيل محاكمة المتهم بقتل 3 مصريين في قطر    عقوبة استخدام الموبايل.. تفاصيل استعدادات جامعة عين شمس لامتحانات الفصل الدراسي الثاني    إحالة العاملين بمركز طب الأسرة بقرية الروافع بسوهاج إلى التحقيق    مباشر مباراة المنصورة وسبورتنج لحسم الترقي إلى الدوري الممتاز    المفتي يحسم الجدل بشأن حكم إيداع الأموال في البنوك    «صفاقة لا حدود لها».. يوسف زيدان عن أنباء غلق مؤسسة تكوين: لا تنوي الدخول في مهاترات    وزيرة التضامن: 171 مشرفًا لحج الجمعيات.. «استخدام التكنولوجيا والرقمنة»    القاهرة الإخبارية: أنباء عن مطالبة الاحتلال للفلسطينيين بإخلاء مخيمات رفح والشابورة والجنينة    التنمية المحلية: تنفيذ 5 دورات تدريبية بمركز سقارة لرفع كفاءة 159 من العاملين بالمحليات    بعد وصفه ل«الموظفين» ب«لعنة مصر».. كيف رد مستخدمي «السوشيال ميديا» على عمرو أديب؟    معسكر مغلق لمنتخب الشاطئية استعدادًا لكأس الأمم الأفريقية    شروط وأحكام حج الغير وفقًا لدار الإفتاء المصرية    تفاصيل زيارة وفد صحة الشيوخ لمستشفيات الأقصر    «الصحة»: نتعاون مع معهد جوستاف روسي الفرنسي لإحداث ثورة في علاج السرطان    سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم السبت 11-5-2024    حادثة عصام صاصا على الدائري: تفاصيل الحادث والتطورات القانونية وظهوره الأخير في حفل بدبي    الشيبي يهدد لجنة الانضباط: هضرب الشحات قلمين الماتش الجاي    مجلس الأمن يدعو إلى إجراء تحقيق مستقل وفوري في المقابر الجماعية المكتشفة بغزة    طائرات الاحتلال الإسرائيلي تقصف منزلًا في شارع القصاصيب بجباليا شمال قطاع غزة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإسلام كبؤرة صراعية
نشر في أخبار الأدب يوم 14 - 06 - 2014

ربما كان واحدٌ من أفضل نتائج الثورة المصرية أنها كشفت لقطاعات واسعة من سكان البلاد مخاطر الخطاب الأصولي الإسلامي عمليا، وخواء هذا المشروع من هدف واضح متعين تحت الشعار العام ل"حكم الإسلام"، باستثناء التسلط واسع النطاق والمشروع الاستبدادي المتعلق بتربية الشعوب بمجملها باستعمال آلة الدولة. كان من أثر هذه التجارب (التي ظهرت ملامحها بالفعل من قبل في تصرفات الجماعات الجهادية علي نطاق ضيق من قبل) انتشار شعور عام بضرورة فصل الدين عن السياسة علي نطاق واسع.
هذا لا يمنع أن الكثيرين من المشاركين في "الحوار حول الإسلام" يقاومون بشدة هذا التحوُّل، بدءا من المؤسسات الرسمية كالأزهر، وحتي بعض من الخطاب "المدني" الذي ربما ما زال يردد كلاما عن أن الإسلام يشجع الديمقراطية ويأمر بالعدالة الاجتماعية، رابطا إياه بالسياسة، ومتمسكا بإيكال دور تعبوي له، و"الجهود التنويرية" التي تستخف بالخطاب الإسلامي التقليدي وبكل ما يتعلق بالعبادات والسلوك الخيِّر، بما يعني عمليا المطالبة بخطاب إسلامي "مستنير" للإصلاح الاجتماعي والسياسي. بعبارة أخري، إدانة ما يسمي "فقه الحيض والنفاس" يطالِب عمليا، أدرك أم لم يُدرك، بخطاب إسلامي سياسي، لكن علي مقاسه الخاص، بما يجعل صراعه مع التيارات الأصولية، وميوله المسماة تحررية ليست في الواقع إلا صراعا التفاصيل باسم "التحرر".
يرمي هذا المقال إلي إلقاء نظرة علي أبعاد هذا الصراع المستمر غير الواعي بنفسه، فيما يبدو، بشأن "إسلام" واحد، تختلف الأطراف التجديدية والأصولية والتقليدية (مؤسسة الأزهر مثلا) علي تحديده، لكنها تُجمِع في النهاية علي أن ثمة إسلام واحد هو "الإسلام" بألف لام التعريف، له تحديد صحيح وتحديدات منحرفة يجب نقدها أو كشفها أو مطاردتها أو إعدام أنصارها (حسب درجة الشراسة). والحال أن هذا الصراع نفسه، وهذا الإجماع الكامن خلف الصراع، هو المشكلة. وليس الدور البارز في العقود الأخيرة للإسلام الأصولي سوي نتيجة مترتبة علي تشكيل مجال صراعي مشترك أو ما أسميه "بؤرة صراعية" وحيدة المركز (والمركز هو بالطبع "الإسلام" بألف لام التعريف). وبالتالي يمكن القول بأن كل الأطراف التي قبلت بالصراع ضمن هذه البؤرة مشارِكة في الظاهرة التي تتقاتل داخلها بغير أن تري أبعادها وحدودها ودورها في الحفاظ عليها وعلي مركزيتها.
علي ذلك، المقصود بالبؤرة الصراعية نقطة تصوُّرية فارغة، عبارة عن مقولة تدور حولها الصراعات لاحتلالها أو لامتلاكها. هي مركز فارغ، أو شبح، لكن مجمل الصراعات العينية لا يمكن أن تعمل، ولا تستطيع أطرافها أن تتخيل نفسها وصراعها وتحالفاتها، إلا بافتراضها. يحاول المقال أن يقدم وصفا لهذه البؤرة ويلقي بعض الضوء علي زمن تكوينها، وأخيرا يحاول أن يقترح ملامح نقد أعمق يتجاوزها.
(1) الظاهرة الأصولية
لنبدأ بطرح عام عن سمات وآثار هذه الأصولية نفسها. لعدة عقود عاني معظم المسلمين من الأصولية معاناة شخصية وجماعية محلية. فعلي مدي حوالي أربعين عاما لوَّنت "الصحوة الإسلامية" حياتهم بألوان قاتمة، بدءا من بث لغة العنف والتخوين والإحساس بالحصار والمظلومية في الخطاب الشعبي، بل وفي الخطاب الدعوي شبه الرسمي، وليس انتهاءً بالتفجيرات ومختلف أنواع العنف التي مست أمنه واقتصاده ومجمل حياته. كما مسَّت "الصحوة" بشكل أعنف، حياة العرب غير المسلمين، فروّعتهم معنويا وماديا، واستثمرت بقوة في المشاعر الطائفية، وأثرت علي أوضاع النساء، وعلي الحقوق والحريات العامة، وأحدثت إرهابا قويا للمفكرين والفنانين ومجمل المبدعين والمجددين، ولم تتورع في هذا الشأن عن القتل المادي، فضلا عن المعنوي.
لم يُمارس هذا الإرهاب المادي والمعنوي لمجرد حب الإرهاب، بل أتي في إطار طموح كبير عنوانه "استعادة الإسلام"، كان سيد قطب، بالطبع، مُنظِّره الأكبر. يقتسم كل فرقاء "الصحوة"من أكثرهم اعتدالا نسبيا، إلي أشدهم عنفا فكرة أن العالم جاهلي، أو شبه جاهلي، أو شارد عن حقيقة الإسلام. والإسلام عندهم في المقام الأول شريعة ودولة تطبق الشريعة. فهو إسلام سياسي في أساسه، عبارة عن مقدمة في العقيدة يُستخلص منها بصفة أساسية ضرورة الطاعة لأمير أو مرشد، يتولي قيادة جماعة ما لإقامة حكم الإسلام، وفقا لفقه خاص بذلك، هو ذاك الذي ابتدعه قطب وأسماه "فقه الحركة".
برغم أن هذا الهدف، أي طبيعة حكم الإسلام المطلوب إعادته، ليست واضحة تماما، وبرغم أن فرقاء الصحوة الأصولية يختلفون بشأن الطريق "الشرعي" المؤدي لحكم الإسلام، أي "فقه الحركة" (من بناء منظمات مجتمع مدني مرورا بالمشاركة في الانتخابات إلي أعمال التفجير والقتل والأسر بالجملة)، فإن ما يكاد يكون محل إجماع هو "المفاصلة الشعورية"، التي تعني "انخلاع" المسلم المنشود، أي المسلم المؤمن بالأصولية، من المجتمع نفسيا ليكون ولاؤه مركزا في قيادته التي يبايعها علي السمع والطاعة، في إطار مشروع "استرداد السلطة" الإسلامية. وهو ما خلق ما يشبه تنظيمات إسلامية-لينينية (:تقوم علي انضباط يفوق انضباط التنظيم اللينيني)، تُشكل بالفعل جماعات مغلقة شعوريا، لها لغتها وعاداتها ونظمها وأعرافها الخاصة، التي هي في نظر كل جماعة صحيح الإسلام.
من هذا المنطق، تنظر كل جماعة من هذه لنفسها (ولحلفائها من مثيلاتها إذا تحالفت) علي أنها أعلي مشروعية من أية سلطة في العالم، فيما يُعرف بالاستعلاء بالحق، وبالتالي فإنها غير قادرة من حيث المبدأ علي العمل في إطار مفاهيم وطنية أو دولتية، بل تطرح، مهما كانت "سلمية" نسبيا، مهمة حكم العالم كله في نهاية المطاف بصرف النظر عن أية تقسيمات دولية أو عرقية أو لغوية أو غير ذلك. طرحت كتابات سيد قطب هدف السيادة العالمية مرتبطا بهذا التسييس الشامل للإسلام. فالإسلام في طرحه هو الحُكم: كل "أرض" تقع تحت حكم الإسلام تعتبر إسلامية بصرف النظر عن عقيدة السكان وإرادتهم. يستطيع الأفراد تحت حكم الإسلام استبقاء عقائدهم الأخري، لكن لا يكون لهم مساهمة في السلطة. وبالتالي انتصار الإسلام العالمي هو ببساطة الحكم الإسلامي للعالم بصرف النظر عن عقيدة السكان. لكن هذا الانتصار هو الخير الذي سينقذ البشرية. والطرح بهذا الوضع عبارة عن صيغة مقلوبة من إيديولوجيا "عبء الرجل الأبيض" الاستعمارية البريطانية، أو صيغة "المهمة الحضارية" الاستعمارية الفرنسية. وهو ما يعني أن الهوياتية في صيغتها الأصولية الإسلامية ثأرية (وفي مصر، كانت الصيغة الوطنية ثأرية أيضا عند مصر الفتاة).
برغم أن هذا المشروع خيالي كما يبدو، فإنه بِسِماته هذه أثبت فاعليته، فقد أسفر عما نراه من اقتياد المجتمعات العربية (أو كثير منها) في مسارات العنف أو مواجهة العنف أو المزايدة الرسمية علي الخطاب الديني للصحوة، فضلا عن التأثير الذي ظل يتزايد لعقود (حتي بداية القرن الحالي علي الأقل) علي موزايك الإسلام الشعبي.
لكن هذا التأثير الواسع، فضلا عن التفاعل مع الفكرة الوطنية (القومية) والفكرة العربية، لم يحدث لمجرد الإرهاب، بل لأن ثمة أرضية مشتركة تسمح بهذا التأثير. الفكرة الأساسية فيما يتعلق بهذه النقطة أن صعود "الصحوة" الإسلامية الأصولية، ليس سوي إعادة هيكلة ما أسميه البؤرة الصراعية التي تعمل تحت اسم "الإسلام"، والتي تشارك فيها مختلف التيارات الساعية إلي تفسير هذا الإسلام الواحد الافتراضي. يطرح المقال أن هذه البؤرة هي المشكلة، وأن مواجهتها ربما تتطلب بالتحديد تفكيكها بدلا من المشاركة فيها برؤي إصلاحية، دورها هو تدعيمها في الحقيقة.
هذا الاقتراح لا يأتي من منطلق خبرة في ممارسة التجديد الإسلامي، بل من موقع الاهتمام بالتأريخ للأفكار الحديثة والمعاصرة (بما في ذلك أفكار الأصولية الإسلامية)، والاهتمام بالشأن العام. ومن هذا المنظور التاريخي يُطِلّ المقال بإيجاز علي هذه الجهود التي بذلتها أجيال من المصلحين والمفكرين المجددين للخطاب الإسلامي؛ أي من مسافة قد تتيح تكوين رؤية إجمالية لمشكلة الخطاب الإسلامي. بهذا التوجُّه، يقترح هذا المقال الموجز مساءلة تكوين هذه البؤرة الصراعية الإسلامية نفسها، وليس فقط قلبها الأصولي الحالي.
(2) تكوين البؤرة الصراعية الإسلامية و"ثوابتها"
لم تكن الأصولية هي التي أنشأت المجال أو البؤرة المذكورة. بل كان الإصلاح الإسلامي هو المبادر بإنشائها في أواخر القرن التاسع عشر إلي أوائل القرن العشرين.
أنشأ الأفغاني ومحمد عبده، كل بطريقته، هذه البؤرة لمواجهة أزمة حادة، تمثلت في تفاقم خطر الاستعمار، من ناحية، وتراجع دور المؤسسات الدينية التقليدية بفعل تراكم تأثيرات التحديث، سواء كانت قواه استعمارية أو محلية. باختصار وتبسيط، أتي الأفغاني بفكرة وحدة العالم الإسلامي والتخلص من حكامه الفاسدين، للتصدي لخطر الغزوة الأوربية التي كانت قد بدأت بالفعل. بذلك وضع تصوُّرا قوامه وجود أو إمكان إيجاد عالم إسلامي متَّحد له قضية مشتركة، يتجاوز عن الخلافات الفقهية والمذهبية، ويتسع لمساهمة غير المسلمين من أبنائه لتحقيق هذه الوحدة، المعادية أيضا للاستبداد باعتباره مدخل الاستعمار وسبب ضعف الأمة الإسلامية.
كان الشيخ محمد عبده أهم تلاميذ الأفغاني، وقُدِّر له وضع بذور البؤرة الصراعية المذكورة بشأن الإسلام. طرح الشيخ مبادئ وبعض تطبيقات لإصلاح إسلامي فقهي لإنشاء ما يمكن أن نسميه حداثة إسلامية، لا تفرط في الإسلام ولا تحتذي الغرب. وبهذا الموقف المركّب أقام نقطة تقاطع تفرَّع منها ما نسميه الآن الإسلام الرسمي والحركي والليبرالي أو التجديدي اختصارا. فقد كان عبده سلفيا وتجديديا وكذلك مرتبطا بالمؤسسة الدينية التقليدية: الأزهر. فتفرعت عن مواقفه، سواء المكتوبة أو الإدارية (في إدارة الأزهر وفي منصب الإفتاء)، تطورات في هذه الاتجاهات الثلاث، منها ما يمتد عبر رشيد رضا إلي حسن البنا، ومنها ما امتد إلي الليبراليين المسلمين بتجديداتهم في الجامعة المصرية والفكر الحر، ومنها ما استقر في إصلاح المؤسسات الدينية. وبصفة عامة تجد جميع التيارات المتصارعة أصولا لها في كتاباته.
كانت الأداة الأساسية التي لجأ إليها الشيخ محمد عبده للإصلاح الديني هي إدانة إغلاق باب الاجتهاد، وفتحه مجددا بالعودة إلي الأصول أو السلف، سواء بإصدار فتاوي جديدة أو الأخذ بحرية من مختلف مذاهب السنة حسب مقتضي الحال، بما يعني فعليا تفكيك المنظومة الفكرية القديمة وفتح هذا المجال الموحد المُسمَّي "الإسلام" (السُنِّي في واقع الأمر برغم أنه شخصيا كان ربما أكثر انفتاحا من ذلك)، أي المجال الذي جرت فيه الصراعات بين المدارس المختلفة. وانعكس ذلك مؤسسيا، سواء في تجديد الإسلام الرسمي ومؤسساته (يضاف إليها لاحقا الإذاعات الدينية)، وظهور التيار الأصولي المتمركز في تنظيمات مسلحة أو غير مسلحة، فضلا عن مساحة في المجال العام (كتب، مجلات، نشرات، ومؤخرا فضائيات)، أو الإسلام التجديدي (ويُسمَّي أحيانا ليبراليا) الممَثَّل في مؤسسات الرأي العام المختلفة وفي الجامعات بقدر ما.
وليس المقصود هنا بالطبع أن كل هذه التطورات عبارة عن تطورات مباشرة ترجع بشكل خطي بسيط إلي الشيخ محمد عبده، بل فقط أن عمله (مع تأثير الأفغاني) أنشأ هذه البؤرة الصراعية الموحدة التي أصبحت واقعا تجتمع حولها الجهود والتيارات المختلفة وتطوِّر نفسها، لأنها كانت (أي البؤرة) استجابة لحاجات قائمة متنوعة لا يتسع المقام لتناولها هنا.

أنتجت الاستجابة الواسعة لهذه النقلة التاريخية تيارات مختلفة (أصبحت الأصولية تحتل قلبها الآن، كما ذكرتُ)، ومتصارعة بشأن نقطة الصراع الافتراضية، وهي "الإسلام"، بألف لام التعريف، بما أنتج حقلا للكتابات الإسلامية، يمتد من حسن البنا وسيد قطب، ولا ينتهي عند محمد أركون، وينعكس حتي علي مدرسة الحديث والأثر من خلال صراعها بطرح مبادئها في مواجهة الآخرين للسيطرة علي هذا الموقع المستحدَث. وقد ترتب علي ذلك النتائج التالية (وربما غيرها)، مرتَّبة منطقيا:
- برغم أن العالم تقارب وأصبحت عقائد كثيرة (كالكونفوشيوسية والتاوية والبوذية) متاحة للمعرفة، فإنها لم تلق أي اهتمام يُذكر، بحيث يمكن القول أنها وكأنها غير موجودة عند "الإسلام"، بالمقارنة بالجدل مع المسيحية واليهودية، التي هي أديان سماوية قريبة الشبه بالإسلام، التي اعتُبرت (هي وشعوبها) "آخر" الإسلام الذي يجب نقده، سواء بنقد التبشير أو العلمانية أو ما يسمي "الاستعمار الحضاري". يعني ذلك أن بؤرة الصراع الإسلامي لم تعد معنية بالعقائد ولا بالمصير الأخروي للناس، بقدر ما هي معنية بما يمكن أن نسميه العالم الإسلامي ككيان معنوي يمثل "الإسلام"، وما قد يمسه؛ أي الحفاظ علي وحدة المجموعة البشرية التصورية التي عيّن الأفغاني حدودها. أصبح "الغرب" الآخر المُختار ل"إسلام البؤرة" هذا، قبولا واقتباسا ورفضا.
- تراجع علم الكلام، أيا كانت المآخذ عليه، ليحل الجدل بين مختلف المدارس المتصارعة علي "الإسلام" المرتبة الأولي. وحتي الصيحات التي رفعها التيار الأصولي ضد التبشير وما إلي ذلك كانت صيحات حشد وتعبئة أقرب للبروباجندا، أكثر منها كلاما في العقيدة، فضلا عن أن يكون قدرة علي الاستيعاب والتفاهم. وأسفر ذلك عن إقامة عُرف، أصبح علي المسلم بموجبه ألا يعرف شيئا عن العقائد الأخري، إلا ما يشيعه عنها المشايخ، وصولا إلي القول بالانعزال النفسي الكامل وفقا للتيار الأصولي. يعني ذلك انفصال الإسلام (السُنِّي) عن غيره من العقائد السماوية خطابيا، وعن مجمل تراث المنطقة السابق عليه والمعاصر لنشأته في الوعي الإسلامي العام، بل وفعليا عن الخطاب الشيعي "المجاور" الذي كان يمر بتحولات مماثلة. وهو ما يعني أنه من الناحية العقائدية، أصبح انغلاق الإسلام السُنِّي (بوصفه "الإسلام") مسلَّمة متفقا عليها. أصبح "الإسلام" إذن جوهرا أو جوهرانيا.
- هذه البؤرة السُنيّة فعليا لا تشمل أيضا كامل أرض الإسلام. البؤرة عربية بامتياز، لا تكاد تشمل إلا نادرا أوضاع وأفكار الإسلام في بلدان مثل نيجيريا أو إندونيسيا، أو غيرها من البلدان ذات الأغلبية المسلمة. لكنها تشمل الجاليات العربية، وأحيانا التركية، في بلدان "الغرب"؛ بما أنشأ في واقع الأمر نوعا من أمة (لا شعب) تخيلية عربية- إسلامية، هي موضوع هذا الإسلام "الواحد" محل الصراع. يقوم الأزهر، وربما غيره من المعاهد، بتعليم الدين الإسلامي "للأجانب"، أي غير العرب، كما تسلل الإسلام الأصولي إلي تلك المناطق. لكن لا يوجد حقا تفاعل أو معرفة بهذا "الآخر" الإسلامي؛ فقط إرسال من جانب واحد.
- برغم المحاولات التي بذلها بعض المجددين والمصلحين وغيرهم لاستعادة ما عملت هذه البؤرة علي استبعاده من النقاش من ماضي الحضارة الإسلامية الثرية في العصور الوسطي، تم تقليص هذا الثراء بانتظام في الفقه أساسا، بل وإصدار طبعات "منقحة" من الفقه تخلو من "الإسرائيليات" - علي حد تعبير من أصدروها. الأهم أن هذا البتر كان منطقيا ومنسجما مع منطق "البؤرة الصراعية" التي تحتاج بشكل متزايد إلي "تلخيص" "الإسلام". ولعل ذلك هو سبب الصعود المتزايد للتيار الأصولي، والصعود المتزايد لتنظيره، فكريا ودعائيا، في مجموعة أفكار بسيطة.
- بذلك، أصبحت بؤرة "الإسلام" المذكورة نوعا من استشراقية مقلوبة، أي قائمة علي تفريد إسلام جوهراني. وهو "إسلام" يظل واحدا برغم التعدد والتطاحن علي التفسير وعلي السلطة المعرفية والمجتمعية بواسطة آلية البؤرة الصراعية. والاستشراق متواجد في هذه البؤرة باعتباره الآخر، باعتباره أهم ما يعني المسلم من "الغرب" الذي تم تنصيبه بوصفه آخر "الإسلام" المختار. لذلك يجري التركيز علي ما يناسب هذه الوظيفة، أي كتابات الاستشراق التي "تسيء فهم الإسلام"، أو "تقلل من شأنه". أما الجوهرانية في حد ذاتها فلم تكن محل اعتراض في غالب الأحوال (التعامل العربي مع كتابات إدوراد سعيد نموذج كاشف). وثمة عرف استنه الأفغاني ومحمد عبده، أساسه ترافق المطالبة بالإصلاح (السلفي بالمعني الملتبس المذكور) مع الدفاع عن "الإسلام" في مواجهة المستشرقين. ومع الوقت ترسخ طقس الاعتذارية الدفاعي.
- بالمقابل، أصبح اشتباك "الإسلام" الأساسي يقوم مع الإيديولوجيات الحديثة، الشيوعية أو الليبرالية أو العلمانية، ومع الفكرة القومية، رفضا لها، أو إعادة تخصيص لمعناها وأدوارها، أو، بالعكس، محاولة إدماجها في الإسلام في مسعي إصلاحي. والاشتباك هنا في غالب الأحوال ليس مع "الأصول"، بل مع نظرائها المنسوبين لهذه الإيديولوجيات من العرب ومنظماتهم أو مؤسسات الدولة الحديثة. وهو ما يعني أن المجال الإسلامي العام أصبح مسيسا بشدة، يدور حول بؤرة الهوية المحلية (ما إذا كانت الهوية مصرية أو عربية أو إسلامية أو خليطا).
- هذا "الإسلام" الهوياتي اعتبرته معظم أطراف الصراع شاملا، أو يجب أن يكون شاملا، لكل جوانب الحياة. وهو بذلك يعتبر الأساس الذي أتاح ظهور الطرح القطبي. فهنا يصل التضييق المتزايد إلي منتهاه؛ فيصبح الإسلام نظرية سياسية، هي الحاكمية، تطالب بتطبيقها الشامل. وليس المهم هنا ماهية هذا التطبيق بقدر ما يهم توفير شرطه الأول، وهو الاستيلاء علي سلطة الدولة، التي يجب أن تمارس هيمنة شمولية علي السكان من المسلمين وغيرهم. لكن بصرف النظر عن النموذج المتطرف، تنطبق فكرة شمول الإسلام علي كثير من خطابات الإصلاح. فالخطابات التي تحاول "التأصيل" لمنح بعض (ولا أقول كل) حقوق المواطنة للأقليات الدينية، أو نقد أهل الحديث والأثر طلبا للحرية بالاستعانة بحديث "أنتم أعلم بشئون دنياكم"، مثلا، تتبني هي أيضا مسلَّمة شمول "الإسلام"، مطالِبة إياه بأن "يُفسح" مجالا من داخله لغيره ووفقا لمنطقه. وهو من نافلة القول فكر لا علاقة له بفكرة المواطنة أو بفكرة الحرية من الأساس، أيا كانت "رحابته".
- ترتب علي فكرة شمول الإسلام أن أصبحت بؤرة "الإسلام" هذه بؤرة خطابية أساسا، تقوم علي صراع النصوص وتفسيرها؛ سواء كان الصراع بشأن إصلاح جزئي هنا أو هناك (مثلا تحسين معاملة النساء)، أو بشأن أمور أساسية في العقيدة (هل الوحي نزل بنصوصه أم بمعانيه إيحاءً، مثلا). وتتمثل العودة إلي الواقع في: إما البحث عن طريقة لتأويل النصوص بما يتفق مع الواقع القائم أو المأمول (علي طريقة الشيخ محمد عبده من حيث الجوهر)، وإما البحث في كيفية ضبط الواقع نفسه ليتفق مع تأويل مسبق للنصوص كما تفعل الأصولية ، أو كلاهما كما تفعل كثير من الاتجاهات الوسطية (مثل اقتراح طارق البشري بإعادة نظام الأسرة الممتدة لأنه هو المناسب لنظام المواريث وفقه الأسرة، جنبا إلي جنب مع إعادة النظر في هذا الفقه).
لكن أخطر النتائج والتي ربما لا تُلفت انتباها، أن إقامة البؤرة الصراعية علي النحو المذكور، كرَّس فكرة "إصلاح المجتمع" من أعلي. فالصراع علي "التفسير الصحيح" يعني ضمنيا أنه من المفترض أن المسلم غير الدارس عليه أن يتَّبع تصورا ما، أصولي أو رسمي أو إصلاحي. بذلك أصبح موزايك الإسلام الشعبي المتنوع مجرد ساحة صراع تسعي كل المدارس حسب قدراتها لاختراقها. أما الدراسة الأنثروبولوجية لواقع الإسلام ومعناه وتغيره عند قطاعات الجمهور، فقد تُركت أساسا للغرب، لكنها لا تدخل بأي حال في النقاش، إلا بشكل عَرَضي، لأنه من الواضح أنه لا مكان لها في مثل هذه البؤرة. بعبارة أخري، الإسلام الشعبي (إن جاز استعمال صيغة المُفرد هنا) هو بمثابة "اللا مفكَّر فيه" الأكبر، أو المفعول به المطلق (إن جاز استخراج مثل هذا الاشتقاق النحوي الأصل). ويعتبر هذا هو التجليِّ النهائي لبؤرة "الإسلام" الصراعية وفلسفتها الضمنية الكبري ضمن صراعها ككل مع غيرها في إطار بؤرة الهوية. فالمسلَّمة العامة هي "إنقاذ" جماعة "الإسلام"، باعتبارها أمة، قيادتها كقطيع.
(3) النتيجة العامة: الإسلام القتالي القومي
قد يري الكثيرون أن بعض النقاط المذكورة هي من طبيعة الأمور، أو من طبيعة الإسلام. فقد أتي الإسلام، أو علي الأقل فُهم تاريخيا، كرسالة أتت من خارج العالم الملموس، من السماء، أي كنوع من "الفتح" الإلهي الذي استُكمل بفتوح مادية لاحقة. كما أن التنزيه والتوحيد، خاصة في صوره الأكثر تشددا، يقيم علاقة تراتبية بلا أية شبهة، تجعل العقيدة مجرد مدخل للشريعة، أي الأوامر والنواهي الربانية، وهو ما كرّسه الفقه. لكن هذا لا ينفي واقع التشكُّل الجديد الذي اتخذ شكل بؤرة "الإسلام" الصراعية، التي لا تتفق بالضبط ولا في كليتها مع هذا الماضي.
الواقع أن الإصلاحيين أو الليبراليين أنفسهم قد ساهموا تاريخيا، أيضا بدءا بالشيخ محمد عبده، في ترسيخ الرؤية الفقهية للدين بتحجيم وحصار الصوفية بوصفها نوعا من الخزعبلات، التي حاولت أن تتطور لكي تجيب علي الواقع الجديد، سواء بشكل أصولي أو إصلاحي أو تقليدي متجدد (رسمي وشبه رسمي).
في كل الأحوال، أهم النتائج التي ترتبت علي إقامة هذه البؤرة هي قومنة الإسلام. فقد أصبحت بؤرة الإسلام الصراعية وفقا لما سبق ذكره تتعلق بخطاب دفاعي- هجومي، وفي المُجمل قتالي، ينافح عن قوم بعينهم، هم المسلمون السُنَّة العرب، ويسعي في نفس الوقت للسيطرة عليهم، سواء بإصلاحهم أو بإقناعهم برفض الغرب أو غير ذلك، لتحقيق الحشد القتالي. وفي هذا الإطار أصبح هذا الخطاب ابن الحركة القومية الاستقلالية ووريثها. وهو ما يتضح جليا في كيفية نقل سيد قطب لمحتوي خطابه القومي المتطرف في الأربعينات، بما فيها مطالب الإصلاح الاجتماعي والعداء للاستعمار، وكذلك تصوُّره الرومانسي عن الذات النقية التي تكافح تلويث الآخرين لها، إلي مفهوم الحاكمية. كما اعتمد مشروع التراثيين الجدد (طارق البشري وآخرين) علي الدمج الصريح بين القومية العربية أو المصرية والإسلام، علي أساس أن "الإسلام" يمثل "التحرر الفكري" الذي كان ينقص التحرر الوطني الناصري، ويُعزي إليه فشل المشروع أو تراجعه، وافتقاره إلي الحرية.
بسبب هذا الطابع القومي الدفاعي، تجد البؤرة الصراعية نفسها ملحقة بأفكار أخري، بدءا بتنبؤات شبنجلر بسقوط حضارة الغرب التي اقتُبست باحتفاء في الثلاثينيات، وحتي نقد الحداثة الآن. لكنها لا تُستعمل بشكل منهجي كأدوات نقدية، في كثير من الأحوال، بل "للبرهنة" علي أن "الإسلام" قادم. وقد ترافق ذلك مع تبني ثنائيات بسيطة من قبيل الروح/ الجسد، المادي/ الروحي، الإلهي/ البشري، للتمييز بين الإسلام والغرب. واتسع الخيال أيضا لظهور "فلسفات"، وبالأحري تأملات غائية، من قبيل أن "الإسلام" (وهو دائما بألف لام التعريف) هو المنهج الوسط بين الشيوعية والرأسمالية (سيد قطب عام 1951)، أو بين روحانية الهند ومادية الغرب، أو بين الكبت المسيحي للجسد والفجور الناجم عن الإلحاد، إلخ.
ويتضمن هذا "البحث عن الذات" إنكار وجود أية صلة بين التأويل المقترح للإسلام والفكر والواقع الغربيين، أو التقليل من شأنها، بحثا عن أصالة مفقودة. ومن قبيل ذلك تجاهل الصلة بين تصورات سيد قطب والماركسية من نواحي (أساسا مفهوم العصبة- الطليعة المؤمنة)، والفاشية من نواحي أخري (استعادة الهوية ونقد الديمقراطية)، أو الصلة بين تقنين الشريعة ومنطق ومنهج القانون الروماني، أو العلاقة بين التبريرات المتعلقة بالأفكار الرجعية عن تقسيم العمل بين المرأة والرجل والأفكار المماثلة التي طرحها المجتمع المحافظ الأوربي في القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، وهكذا. وفي الكثير جدا من الحالات، يجري تبني الأفكار أو الحجج أو المناهج بشكل ضمني، غير مُعلن، بسبب الحاجة الملحة للأصالة.
ويترتب علي هذه القومنة غياب رؤية للعالم. فالإسلام الدفاعي أو القتالي، أي البؤرة بأكملها، منشغلة بالدفاع عن الإسلام والبحث عن "مصيره في العالم"، وهو ما يجعل هذه البؤرة دائما في وضع التابع للمتغيرات العالمية، من حيث البنية والفكرة، لا لمجرد تأخُّر أو تخلف. فالأمر يشبه وضع نبيل من العصور الوسطي الأوربية يبحث عن دور (لا مجرد حيز من الفراغ) لسيفه أو جواده أو قلعته في مدينة معاصرة، فيجتهد في إعادة تشكيل سيفه أو تزيين حصانه أو إجراء عمليات هدم وبناء في قلعته. وكلما أنجز شيئا في هذا الصدد وجد المدينة نفسها تتغير، لتصبح عمليات التوفيق السابقة غير نافعة، ويجد الفارس نفسه دائما في وضع الكاره للتطورات. فمثلا أصبحت الحداثة تسمي علمانية جزئية، أما ما بعد الحداثة فعلمانية شاملة كارثية (المسيري). ويتفوق الأصولي تحديدا من حيث إنه يرفض ابتداء كل التغيرات، بما فيها محاولات "الإصلاح من الداخل" (لكن الأصولية نفسها غير أصيلة، بل هي بنت التجديد كما أشرت). ولكي لا يساء فهم هذه النقطة، هناك العديد من المسلمين (وغيرهم من مختلف الأديان)، قدموا مساهمات فكرية أو علمية أو غيرها في العالم المعاصر. فالكلام هنا يتعلق بالتحديد بطبيعة بنية البؤرة الصراعية التي يتناولها باختصار هذا المقال.
وبسبب الطابع القومي الدفاعي، ليس ثمة مجال للحرية بالمعني الصحيح في هذه البؤرة. الحرية ليس لها مفهوم معطي سلفا. الحرية سعي، ليس فقط للتخلص من القيود، بل أيضا لاستكشافها. فكلما جري التخلص جزئيا أو كليا من قيد، تكشف الآفاق الجديدة عن قيود جديدة، تصبح بدورها محل نقد، وهكذا. فالحرية بهذا المعني هي آلية الإبداع المعاصر، وليست مناخا يُفسِح له الطريق. أما في بؤرة الإسلام الصراعية، فيضمن منهج الصراع علي الرؤية أو القراءة الصحيحة للنص الالتزام المسبق بقيد تصوُّري، هو نفسه "الإسلام" بألف لام التعريف. والصراع يدور فعليا بشأن ماهية هذا القيد، وما إذا كان "خفيفا" أم "ثقيلا". وبهذا المنطق، تحتل الأصولية موقع القلب باعتبارها "القيد" في تشكُّله الحداثي كنظرية (نظرية الحاكمية). فسواء كان التفسير المطروح "متحررا" أو "متزمتا"، فإنه مطروح أصلا كقيد يجب "تقنينه". ليست المشكلة في بؤرة "الإسلام" الصراعية نقص الحرية أو زيادتها (بإصدار تفسيرات "متسامحة"). المشكلة في منطقها نفسه الذي يُغيِّب مفهومها فكريا، ويثير علي المستوي الشعوري الخوف منها أو كراهيتها.
(4) تفكيك البؤرة الصراعية
بناء علي ما سبق، يبدو أن النقد يجب أن يتجه أكثر فأكثر نحو تفكيك هذه البؤرة الصراعية. ليس فقط بسبب مشاكلها المنهجية، بل أيضا بسبب تمركزها المتزايد حول الخطاب الأصولي، الذي هو، كما حاولت أن أشير سريعا، خطاب "نظري" تجديدي، لم يعد فقهيا بالمعني التقليدي. ففقه الحركة منظور يمكن القول بأنه كان مستحيلا أصلا في العصور الوسطي الإسلامية. وتراكُبه مع التيار الوهابي شبه التقليدي، أو التقليدي المجدَّد شبه الرسمي، لا ينفي عنه هذه الخاصية.
هذه البؤرة تحتضن نصوصا لا يحب أحد الجهر بها. فالمنظمات الإرهابية تستند بالفعل إلي نصوص وإلي وقائع في التراث تبرر قتل المخالفين، بل وقتل من يحملون الرأي المضاد (مثلا عصماء بنت مروان، وغير ذلك). فالعنف هو أحد الممكنات الواردة بشدة في هذه البؤرة الصراعية التي تعزل الإسلام وتفرده كظاهرة موحدة ونقية. بل يمكن القول بأن العنف يمثل من الناحية المعنوية التجسيد الأكثر نقاء لفكرة "المفاصلة". وبالتالي لا تُسفر معركة تأويل النصوص عن أية نتيجة إصلاحية حاسمة.
في هذا الاتجاه، كثيرا ما أشير إلي أنه لا يوجد إسلام واحد، بل إسلامات. لكن هذا التوجه العام النقدي لم يمنع كما رأينا إنشاء مجال مشترك بين كل هذه الإسلامات، يرعي عبر الصراع ادعاءات مختلفة بشأن الإسلام الصحيح، أو التفسير الصحيح للإسلام.
كثير من أسس هذا التحوُّل موجودة. فقد تقدم النقد بالفعل وفرض نقل النقاش من الجدل بشأن الأحكام وتكيفها مع الواقع (علي طريقة الشيخ محمد عبده) إلي مستوي معايير تمييز الإسلام الصحيح، أي المستوي المنهجي، فضلا إلي نقل النقاش إلي المستوي العقائدي، بدلا من الاقتصار علي المستوي الفقهي بين المجددين والمحافظين. وبرغم أن الأصوليين ما زالوا يحاولون جر النقاش دائما إلي دائرة الإيمان أو التمرد، التسليم بالنص كنص أو الكفر، لإغلاق الباب أمام محاولة قراءة الإسلام بطريقة جديدة، فإن المناهج الجديدة أخذت تفتح الثغرات بالفعل البؤرة المغلقة التي تأسست في أواخر القرن التاسع عشر.
كذلك، ثمة ما جري إنجازه بالفعل في دراسة الحركات الإسلامية، غالبا علي أيدي الباحثين في العلوم السياسية ودراسات الشرق الأوسط، وإن يكن غالبا من خارج دائرة الصراع الفكري الإسلامي بمجملها. فقد أوضح باحثون أن الحركة الإسلامية الحديثة رافعة لواء الأصولية هي بنت الحداثة ومتأثرة بحركة الإصلاح الديني التي سبقتها، ولا يمكن اعتبارها بمثابة "عودة إلي الماضي" برغم ادعاءاتها. وينطبق ذلك علي أساليب حركتها وتجمعها وأهدافها بشأن "الدولة الإسلامية". كما قارن باحثون أوربيون الحركة الأصولية الإسلامية بالإصلاح الديني اللوثري والكالفني في أوربا، وقدموا مداخل تحليلية مهمة في هذا الشأن.
وقد تكون الدراسات المقارنة عموما من أهم الأدوات المنهجية التي تستطيع أن تساهم في تفكيك هذه البؤرة التي أنشئت في لحظة تاريخية سبقت. من غير المنطقي دراسة الإسلام بمعزل عن الأديان السماوية، ليس بطريقة المناظرات المسرحية، أو علم الكلام، لكن بطريقة الدراسة الأركيولوجية التي تربط الإسلام كعنوان عام لظاهرة تاريخية متنوعة ومتطورة بأصول تاريخية سابقة، لولاها لما أمكن أن تُفهم رسالته في زمنها، سواء كانت هذه الأصول هي الأديان السابقة أو مجمل التطور الثقافي للحضارات القديمة. وهو نقد جري إنجازه بالنسبة للتوراة والإنجيل ومراحل النشأة، لكن ما بُذل فيه من جهود بالنسبة للإسلام استُبعد لعدم تناسبه مع البؤرة الصراعية الموصوفة أعلاه. كما أنه جري بمنطق الصراع لا التفسير، في مواجهة الأصولية ومدرسة الحديث الخانقة. ولعله من المفيد هنا أن نلاحظ أن علم الأديان المقارن غير مرغوب فيه نهائيا في النقاش الدائر، بينما يمكنه أن يساهم في وضع تشكُّل الإسلام وتياراته التاريخية القديمة في سياق الظاهرة الدينية الإنسانية ككل وعلم الأديان المقارن، أيضا بمنطق الرحابة الإنسانية، لا في سياق البؤرة الصراعية الموصوفة.
وبالنسبة للإسلام الحديث، تلك البؤرة التي تناولها هذا المقال باختصار، ربما كان ربطها مع جذورها في نشأة الفكر القومي وإيديولوجيات التحرر أجدي في تحليلها من وضعها في إطار فكرة عودة المكبوت، التي تعيد استنساخ البؤرة الصراعية ذاتها بلغة جديدة. وعلي سبيل المثال، سيكون من قبيل بتر الظاهرة من سياقاتها تناول تشكل جماعة الإخوان المسلمين بغير أخذ ظاهرة صعود الفاشية في العالم وقتها، وظهور "مصر الفتاة" كتجلٍ محلي صريح للفكرة، وكذلك حركة التحرر الوطني. وبالمثل يصعب دراسة تطور سيد قطب بمعزل عن صعود الطبقة الوسطي الساخطة في مصر، ثم الناصرية. وبالإجمال، يصعب نقد الأصولية خارج نقد العروبية والقومية السلطوية، في سياق نقد الهوياتية بصفة عامة.
كذلك تفيد الدراسة المقارنة في فهم عملية "علمنة الدين" التي مر بها الإسلام من خلال هذه البؤرة الصراعية، وخصوصا من خلال الأصولية. فمثلا، الأصولية إذ تأخذ في يدها التعبير عن الإرادة الإلهية وتمثيلها في العالم وتحقيق الأوامر الإلهية، إنما تعتبر نفسها معبرة عن "ثأر" النص الإلهي من العالم المعادي، وبذلك تقوم بنفس الدور الذي مارسته الصهيونية إزاء الديانة اليهودية (أي العودة إلي أرض الميعاد بالإرادة البشرية بدلا من انتظار الإرادة الإلهية)؛ وإنشاء "قبيلة" أو "طائفة" بالتجنيد الفردي بدلا من الطوائف "الطبيعية".
وبصفة عامة، يعتبر وضع التيارات الإسلامية وتحولاتها في سياقها الواقعي المؤثر، الحداثي والعالمي، مهما للخروج من دائرة الصراع حول ماهية الإسلام. بينما يُكرِّس استبعاد التفسير السياسي والاجتماعي أو تهميشه بؤرة الصراع المذكورة، بالنظر إلي هذا السياق باعتباره "تهديدا"، بينما هو في نفس الوقت شرط وجود وتكوين للأصولية، بل والمرآة (أو "الآخر" المختار) التي تري نفسها فيها.
كذلك، قامت هذه البؤرة الصراعية علي أساس استبعاد الفهم التاريخي والاجتماعي، مؤكدة علي النصية، وهو ما حاول طه حسين أن يدشنه في كتاب "الفتنة الكبري". وتفيد دراسة السياقات الأوسع في قراءة تاريخ الفكر (علي خلاف هذه القراءة التي تناولت بؤرة الإسلام الصراعية في حد ذاتها) في فتح المجال للتأمل الذاتي في النصوص والإغراق في التنظير بشأنها.
وحتي في مجال قراءة النصوص، لا يكاد المرء يجد استكشافا لإمكانية متاحة للمقارنة بين الميتافيزيقا والدين، خصوصا مع الميل المتزايد للتنظير عند معظم التيارات الإسلامية. ولكن بدلا من جعل هذه العملية مضمرة ومختفية، وهو الميل الطبيعي للبؤرة الصراعية للحفاظ علي انغلاقها، من المفيد طرح المقارنة والتحليل الفلسفي أو الخطابي بشكل صريح.
والفكرة العامة هنا هي أن الإسلام بكل تجلياته المتعارضة كان دائما جزءا من العالم، تأثيرا وتأثرا، وأنه متحول بالفعل، بشكل تعددي، ليس بجهود التيارات المختلفة وحدها (الإسلامات)، بل أساسا بتغير المناخ العام وتطور الأفكار والممارسات في العالم. وعلي خلاف قومنة الإسلام، يؤدي أخذ السياقات العالمية والإقليمية والمحلية علي مستويات مختلفة في الاعتبار، والانفتاح علي علوم متعددة، وبنظرة عالمية بالفعل، إلي إنهاء سمة أساسية من سمات بؤرة الإسلام الصراعية، وهي تناول "الإسلام"، بألف لام التعريف، بأسلوب علم الأمراضتpathology، أي بتشخيص "المرض" الذي أصاب الإسلام ومحاولة علاجه، سواء كان المرض يسمي الحداثة، أو التقليد، أو النزعة الجهادية الأصولية (حسب الرؤي المختلفة للتيارات المتصارعة)، في مقابل تناول غلاة المستشرقين ل"الإسلام"، بألف لام التعريف أيضا، كمرض يهدد العالم. وباختصار، مكان "الإسلام" في العالم مرهون تحديدا بأن يكون مهتما بالعالم، بدلا من اهتمامه بنفسه وبمكانته في العالم بطريقة تشبه في الحقيقة مركّب الاضطهاد/ العظمة؛ وأن يهتم بالعالم بطريقة مختلفة عن طريقة "المُعَلِّم" الذي يكتفي باستعمال فكرة "حُكم الإسلام" ليؤشر بعلامات الرسوب والنجاح علي إنجازات البشر، خارج السياق العالمي وخارج التاريخ.

يبدو لي أن هذه المداخل المختلفة، ولها سوابقها التاريخية بالفعل، يجب ألا تقتصر علي الاهتمام بالعالم، بل يجب أن تهدف إلي التحرر من البؤرة الصراعية نفسها، لمساعدة الجمهور علي التحرُّر منها. في النهاية لا يمكن تخيل انتصار الإصلاح علي الاستبداد بمجرد الصراع من أجل تسييد تأويل "متسامح" أو تصور لا- أصولي. فكل تأويل يطالب في النهاية "بطاعته"، أو بالأدق باعتناقه والسعي لفرضه، ويظل مهموما بالوصاية علي الجمهور خوفا من فقدانه العقيدة مع تعدُّد التأويلات التي سُميت ليبرالية أو علمانية. فالخوف علي الهوية يظل دائما هو مدار الاستبداد.
لا يمكن تحقيق الإصلاح مع مواصلة اعتبار الناس جمهورا تتجادل التيارات في شأن "إسلامه" وما يجب أن يكون عليه، بما يكرس السلطوية الهوياتية. ربما بغير تناول الإسلام كظاهرة اجتماعية معاصِرة متعددة الأوجه والتوجهات لن يتحرر الجدل من طابعه الباثولوجي، وسيظل يحاصر الجمهور ويحوُل بينه وبين التحرر من الالتزام ب"الدفاع" عن تصور ما للإسلام، وبالتالي يحوُل دون انسياب المسلمين بتصوراتهم العقائدية المتنوعة والمتطورة في العالم.
لم تؤد هذه البؤرة الصراعية فحسب إلي إقامة الخطاب العالِم عن الإسلام كشرطي عقائدي، كلَّف نفسه بأن يُملي علي الجمهور ما يجب عليه أن يقوله يعتقد فيه، بل أيضا منع تحقق أحد أهم مزايا الأديان، وهي الإشباع الروحي والفكري التأملي، والإغناء الذاتي للعقل والشعور. وهو فعل لم يعد موجودا إلا في الثنايا التي أفلتت، عن وعي أو عن غير وعي، من النقاش حول "حقيقة الإسلام". ف"الإسلام" يظل في النهاية برغم كل جهود أطراف البؤرة المتصارعين دينا، لا عقيدة قتالية قومية.
لعله من المفيد التذكير هنا بأنه ربما كان أهم ما يجب أن يتعلمه المتعلمون من الثورات العربية، أو بعضها علي الأقل أن الأفكار وحدها لا تغير الوعي. الشعوب تصنع وعيها بحركتها، لا بجلوسها في مقاعد الدرس لتتلقي قواعد الإسلام الصحيح أو الوطنية الصحيحة أو الحرية كيف تكون. التجربة التاريخية هي المعلم الأول للجميع، من المثقفين وغيرهم. وكل ما يعوق حركة الناس الحرة وخوضهم تجربتهم، كل ما يحاول إبقاءهم، ولو نظريا، علي مقاعد الدرس، إنما يساهم في، ويرمي إلي، الإبقاء علي بؤرة الهوية الصراعية السلطوية، ويقتل التجديد، ويولِّد العقم والفراغ والتعصب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.