إذا كان علماؤنا قداتفقوا علي أنه لا مشاحة في المصطلحات. لأن المصطلح كالإناء. يستخدمه الجميع. بصرف النظر عن العقائدوالثقافات والحضارات. فإن هناك مشاحة أكيدة في المضامين والمفاهيم والمعاني والمحتويات لكثير من المصطلحات التي يشيع استخدامها في مختلف الثقافات والحضارات.. ومصطلح الأصولية نموذج لهذه المصطلحات التي تستخدم في الثقافة الغربية بمعاني تختلف كل الاختلاف عن معانيها في حضارتنا العربية الإسلامية. إن علماءنا عندما يتحدثون عن الأصول والأصوليين إنما يتحدثون عن علوم أصول الفقه وأصول الدين. وعن العلماء الذين أبدعوا هذه العلوم وبلوروا مناهج البحث فيها. وهي العلوم التي تمثل قسمة أصيلة للإبداع العقلاني والفلسفي في تراث الإسلام.. فالأصوليون هنا هم فلاسفة ومجتهدون ومجددون أبدعوا القواعد الأصولية التشريعية المستمدة من المبادئ التشريعية العامة والأصول التشريعية الكلية. وبلوروا فلسفة الإسلام في التوحيد والنبوات والرسالات ومكانة الإنسان في الكون والعلاقات بين عالمي الغيب والشهادة. وعلي النقيض من هذه المعاني والمضامين والمفاهيم والمقولات الفلسفية تأتي معاني الأصولية والأصوليين في تراث الحضارة الغربية.. لقد عرف معجم لاروس الكبير الأصولية الغربية الدينية والسياسية بأنها موقف جمود وتصلب. معارض لكل نمو أو لكل تطور.. وهذ مذهب محافظ متصلب في موضوع المعتقد السياسي.. وفي الدراسات الغربية التي دارت حول هذه الأصولية. وصفوها بأنها التفسير الحرفي للنصوص الدينية. والرفض الكامل لأي لون من ألوان التأويل لأي نص من النصوص. حتي ولو كانت نصوصا رمزية ومجازات صوفية. وانطلاقا من هذه الحرفية والوقوف الجامد عند ظواهر النصوص. قال الأصوليون الأنجيليون بالعودة الجسدية للمسيح عليه السلام ليحكم العالم ألف سنة سعيدة. وذلك بناء علي التفسير الحرفي لرؤيا يوحنا سر الرؤيا 1:20 -10 وفي العقود الأولي من القرن العشرين. عقد الأصوليون الإنجيليون عددا من المؤتمرات التي أفضت إلي تأسيس عدد من المنظمات الأصولية. كان من أبرزها جمعية الكتاب المقدس سنة 1902م. التي أصدرت اثنتي عشرة نشرة بعنوان الأصول Fundamentalism وذلك دفاعا عن التفسير الحرفي للإنجيل. وهجوما علي نقده أو تأويله.. ومن هذه المنظمات أيضا المؤسسة العالمية للأصوليين المسيحيين سنة 1919م. والاتحاد الوطني للأصوليين.ولأن هذا هو معني الأصولية وتاريخها في الفكر الغربي. فلقد رفض العلماء والمستشرقون الغربيون الذين خبروا حقيقة الفكر الإسلامي وفقه اللغة العربية. رفضوا إطلاق مصطلح الأصولية والأصوليين بمعانيها الغربية علي تيار الصحوة الإسلامية الحديثة والمعاصرة. ومن هؤلاء العلماء المستشرق الفرنسي الشهير جاك بيرك "19101995م".. وكان خبيرا بأصول الإسلام وضليعا في لغة الضاد وعضوا بمجمع اللغة العربية بالقاهرة الذي قال: أنا أرفض تعبير"الأصوليين". لأنه آت من النزاعات داخل الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية. هناك مسلمون. العامة. وهناك الإسلاميون. الذين يشددون علي قدرة الإسلام علي إيجاد حلول مناسبة لمشكلات الحياة اليومية. وقدرته علي بناء دولة ومؤسسات. وهؤلاء لا يقفون عند الطبيعة الدينية للإسلام فقط. هذه أطروحة من نسميهم الإسلاميين. إنها حركات تسعي لتقريب العالم العربي من منابعه.. ولديهم خطابات تجعلهم مختلفين بعضهم عن بعض. لكنهم يلتقون في الدعوة إلي الرجوع إلي الأصول. خاصة القرآن. ويدعون إلي إعادة تأصيل القرآن باعتباره قادرا علي تقديم الحلول للمشكلات التي يطرحها العالم المعاصر. يطرحون ذلك في مواجهة المجتمعات التي وضعت نفسها منذ مائة سنة في مدرسة الغرب. ولم تحقق النجاحات المطلوبة. هكذا رفض جاك بيرك إطلاق مصطلح الأصولية والأصوليين علي الإسلاميين. الذين يسعون إلي نهضة إسلامية. انطلاقا من الأصول الإسلامية. وأولها القرآن. والذين يقدمون بديلا نهضويا إسلاميا بعد فشل مشاريع التحديث علي النمط الغربي. * أما المفكرون الاستراتيجيون لليمين الديني الأمريكي. الذين قاموا بالتنظير للعولمة التي تعني أمركة العالم تحت شعار صدام الحضارات من مثل الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون "19131994م" وفوكوياما وهنتنجتون "19272008م" فإنهم قدكشفوا عن سر العداء الأمريكي لما سموه الأصولية الإسلامية. وذلك عندما اعترفوا صراحة بأن هذه الأصولية الإسلامية لا تتسم بالجمود والتحجر ومعاداة العلم والعقل والتقدم كما هو حال الأصولية الغربية وإنما هي علي العكس من ذلك تيار ثوري راديكالي. يريد التحرر من الهيمنة الغربية. وذلك عن طريق: بعث الحضارة الإسلامية. وتطبيق الشريعة الإسلامية. وتأكيد أن الإسلام دين ودولة. ولأن هذه الأصولية الإسلامية إنما تدعو إلي خيار حضاري إسلامي متميز عن النموذج الغربي. فإنها ترفض الرأسمالية الاستهلاكية الغربية. وترفض العلمانية الغربية التي تريد تحول الإسلام إلي نصرانية. حتي يدع ثروات المسلمين لقيصر الأمريكي. مكتفيا بما لله من طقوس. نعم. لقد كشف هؤلاء المفكرون الاستراتيجيون الأمريكان عن حقيقة هذه الأصولية الإسلامية. وعن سر عدائهم الشديد لها. وعن سبب دعوتهم لصدام الحضارات ضدها. فقال نيكسون في تعريفه للأصوليين المسلمين: إنهم هم: 1 الذين يحركهم حقدهم الشديد ضد الغرب. 2 وهم مصممون علي استرجاع الحضارة الإسلامية السابقة عن طريق بعث الماضي. 3 ويهدفون إلي تطبيق الشريعة الإسلامية. 4 وينادون بأن الإسلام دين ودولة. 5 وعلي الرغم من أنهم ينظرون إلي الماضي. فإنهم يتخذون منه هداية للمستقبل. فهم ليسوا محافظين. ولكنهم ثوار. وقال فوكوياما: إن العالم الإسلامي يختلف عن غيره من الحضارات في وجه واحد مهم. فهو وحده قدولد تكرارا خلال الأعوام الأخيرة حركات أصولية مهمة. ترفض لا السياسات الغربية فحسب. وإنما المبدأ الأكثر أساسية للحداثة: العلمانية نفسها.. وإنه بينما تجد شعوب آسيا وأمريكا اللاتينية ورفريقيا ودول المعسكر الاشتراكي السابق الاستهلاكية الغربية مغرية. وتود تقليدها. فإن الأصوليين المسلمين يرون في ذلك دليلا علي الانحلال الغربي. ولذلك. فإن الصراع الحالي ليس ببساطة معركة ضد الإرهاب. ولكنه صراع ضد العقيدة الإسلامية الأصولية الفاشية الإسلامية التي تقف ضد الحداثة الغربية.. وإن التحدي الذي يواجه الولاياتالمتحدةالأمريكية اليوم هو أكثر من مجرد معركة مع مجموعة صغيرة من الإرهابيين. وإنما هو ضد تحد أيديولوجي. هو في بعض جوانبه أكثر أساسية من الخطر الذي شكلته الشيوعية.. وعلي المجتمع الإسلامي أن يقر فيما إذا كان يريد أن يصل إلي وضع سلمي مع الحداثة الغربية. خاصة فيما يتعلق بالمبدأ الأساسي حول الدولة العلمانية..؟!