لم يبدأ "الإسلام السياسي" من فراغ، بل وجد له بيئات مناسبة للنمو والانتشار.. ولم يولد فجأة بلا أية مبررات، أو بلا عوامل وأسباب، بل كانت له علله ودوافعه علي أرض الواقع.. ولا أريد أن يستحوذ التاريخ علي هذا الواقع الذي خلقته جملة من الظروف والتداعيات التي تصادمت مع بعضها البعض الآخر، لتغدو مجتمعاتنا اليوم أسيرة للماضي جملة وتفصيلا، بحيث تبدو اليوم مرتهنة له، ولا تستطيع أن تجد أي لغة فكرية أو سياسية حقيقية للتعامل مع أدوات هذا العصر ومشكلاته الصعبة.. ناهيكم عن طغيان ما سمي ب "الإسلام السياسي" ليحل بديلا أحاديا عن "الإسلام الحضاري" الذي شرحنا في حلقة سابقة مؤهلاته الإيجابية التي تبدو أنها تموت يوما بعد آخر علي حساب المثالب التي فرضها "الإسلام السياسي"، وجعل العالم كله ينظر إلي العالم الإسلامي كونه النقيض الصعب للعالم المعاصر اليوم.. ويأتي هينتنجتون ليكتب "صدام الحضارات"، فلا يري من معوق للحضارة الإنسانية اليوم إلا هذا الذي يتمثل بالإسلام! إن تطور النظرة السلبية إلي الإسلام ليست وليدة هذا الزمن، بل تمتد طويلا في عمق التاريخ الحديث بكل ما ورثه من تواريخ العصور الوسطي بأحقابها الثلاث، والتي انتهت، كما يعتقد، بفتح القسطنطينية عام 1453 علي أيدي العثمانيين، ولكن برغم وجود التصادم التاريخي بين عالمي المسلمين والغربيين فيما مضي لأسباب شتي منها ما يعود إلي سياسات دول، فلقد غدا الصراع اليوم أعتي وأشد بفعل سياسات إعلامية وطروحات فكرية وانتماءات اجتماعية.. وكلما انكمش العالم علي نفسه، فسيزداد تصادم الثقافات فيما بينها، وسيزداد التماس في الصراع علي القيم والأفكار والطقوس وأساليب الحياة والتفكير.. خصوصا أن التعامل لم يقتصر اليوم بين الدول والكيانات، بل امتد للمواجهة مع الحركات السياسية والتجارب المعاصرة.. وإذا كانت الدول الغربية قد استخدمت الإسلاميين لتنفيذ أغراض ومصالح لها هنا أو هناك، فإن العالم الإسلامي سيبقي هو المجني عليه من قبل كل فرقاء الصراع سواء كانوا في الداخل أم في الخارج معا. الحضاري.. هو البديل! إن مشكلة العالم الإسلامي تكمن في الفوضي الفكرية التي تعيشها ليست دولة فحسب، بل كل مجتمعاته اليوم.. وتبدو الصورة واضحة، بل فاضحة بعدما أسمي بأحداث 11 سبتمبر ,2001 حيث أصبح الإعلام العالمي مهتما بشكل كبير بالحركات الإسلامية التي أصبحت جميعها متهمة.. وبقدر ما أجد فوضي فكرية في كل مجتمعاتنا، فإن العالم أيضا يعيش نوعا من فوضي ليس التعامل، بل فوضي التحليل.. إذ غدا كل العالم الإسلامي متهما بتهمة شنيعة متمثلة في "الإرهاب".. ولما أعطي المسلمون لغيرهم الفرصة تلو الأخري بعدم تقديم أية بدائل حقيقية في الدفاع عن النفس، أو حتي لتفسير الحقائق، أو حتي لإدانة كل الانتهاكات التي تتكلم باسم الإسلام السياسي.. فإن العالم بدأ يبلور ليس مجرد الأفكار، بل للطعن في كل القيم والموروثات، فهو يجعل الإسلام مختزلا في مجاميع وأحزاب وحركات سياسية من دون أن يجد البديل من قبل العالم الإسلامي لتقديم ما هو واقعي ومتطور في الإسلام الحضاري. إن الإسلام الحضاري ليس مجموعة اجتهادات مستوردة لتلميع صورة المسلمين في العالم، بل هو الذي يمثل رؤية عميقة للمعاني أولا، والتشيؤات ثانيا في أي زمان وفي أي مكان.. إنه الداعي إلي الإعمار والعقل والإنسان وقيم التفكير وإيجاد البدائل.. إنه الذي ليس باستطاعته أن يتوقف طويلا لإدخال قطار طويل جدا من خرم إبرة! إنه لا يمثل مجاميع "أو: جماعات كما يسمونها" تتحدث كحركات سياسية متخذة بعض الاجتهادات والتأويلات لتفسير مواد ونصوص في الشريعة. وأي تفسير يناقض ما يقولون يقام عليه الحد أو ينهونه من الوجود! إن الإسلام الحضاري هو صورة متطورة من تراكم معرفي وإصلاحي وقيمي واسع النطاق.. بحيث يعترف بأن الحياة اليوم لا يمكنها أن تمشي إلا من خلال القانون.. وأنه لا يمكنه أن يكون مجرد أيديولوجية تزدحم بالنصوص والمكررات التي لا يمكنها أن تعالج مجتمعات متنوعة بأديانها وأطيافها ومذاهبها وأعراقها وكل ألوانها الثقافية.. إن السياسي هو نقيض الحضاري في الإسلام، ولا يمكن للسيارة سواء صنعت في القرن العشرين أم الواحد والعشرين أن تجرها الحمير أو البغال أو الجمال! فهي بالضرورة ستمشي من خلال موتور جديد.. وأن السفينة لم تعد شراعية تتقاذفها الرياح، بل ستمخر في البحر من خلال موتور جديد.. وأن الأسفار لم تعد قوافل علي بعران أو حمير، بل بالطائرات ذوات الطابقين! منوال التاريخ لم يكن الإسلام السياسي هو الذي يحكم تاريخنا - كما يشيع أصحابه والمؤمنون به - بل كان الإسلام الحضاري بغثه وسمينه.. ولم يكن "النص" قد طبق بحذافيره علي امتداد تاريخ الإسلام، فالخلفاء الراشدون أجروا تعديلات، وخصوصا، الخليفة عمر بن الخطاب الذي حكم لأكثر من عقد زمني كامل مستجيبا للضرورات الدنيوية وتطورات المجتمع، وهذا ما فعله الإمام علي بن أبي طالب.. وعندما حكم الأمويون سواء كانوا أصحاب ملك عضوض أم غير عضوض، فهم قد نقلوا الحياة الإسلامية إلي درجات مختلفة وأخري، عندما تعاملوا مع بيئات ومجتمعات وحياة جديدة.. وعندما حكم العباسيون، كانت لهم بالضرورة تبايناتهم في الزمان والمكان.. وكثيرا ما كانت السياسة تقض مضجع الحضارة منذ اجتماع السقيفة، فالمجتمع لم ينقسم بفعل الإسلام نفسه، بل بفعل السياسة وأهوائها.. وهل كان المجتمع في الأندلس يشابه مجتمعاتنا؟1 بل حتي آليات الحكم؟ وصولا إلي العثمانيين الذين سادوا لأكثر من ستة قرون.. هل بقوا علي مناهج من سبقهم في الحكم والحياة؟! لقد استحدثوا لهم أساليب جديدة مستلهمة من هذا وذاك. المتصوفون مسالمون إن الإسلام بالرغم ممن يسمه البعض بالعنف وشلالات الدم والقتل.. لم نجده إلا وديعا ومسالما عند أصحاب الطرق الصوفية علي امتداد ألف سنة سبقت! والمشكلة أن هذا الجانب سرعان ما يرمي من قبلنا نحن ومن المتشددين ومن السلفيين ومن المجددين والإصلاحيين والأصوليين كونه عالما تافها ليس له إلا الخرق والهلوسات والتبرك والكرامات والدجل.. إلخ، من التوصيفات البليدة، لكن إن كان حاله هكذا في غمرة التواريخ المتأخرة، فإنه عالم عجيب من التسامح والزهد والمحبة والمناشدة والفن الرفيع والشعر الشفيف.. لقد أنجب هذا الإسلام الحضاري عالما سماويا امتلأ زهادا ونقادا وشعراء ومحبين ومتغزلين ومتعففين وفلاسفة.. يقابلون منطقة أخري من عالم دنيوي يعج بالمسلمين وكانوا خلفاء وخلعاء وأجراء وحكماء وإخوان صفاء ومطربين وشعراء وصعاليك.. إلخ، فهل باستطاعة الإسلام السياسي المعاصر اليوم أن يلغي الدين والدنيا معا، ليفرض سطوته بالعنف والقوة من أجل السلطة؟ وهل السلطة التي يتحدث عنها تتوافق مع كل ما ورد من نصوص تدعو إلي العقل والجنوح للسلم والود والمعروف والإعمار في الأرض وحسن المعاملة؟ السياسي: الدولة قبل الوطن إن المشكلة لا تكمن في "النص" لوحده وكيفية تفسيره وتأويله وسحبه علي كل الزمن، بل تكمن المشكلة أيضا في "الزمن" نفسه، وكيفية التعامل مع الماضي وفوضي التفكير في صناعة المستقبل. إن الإسلام الحضاري لا مشكلة لديه أبدا، كونه يؤمن بالواقعية والتعامل مع ضرورات الحاضر.. أما الإسلام السياسي، فهو واقف عند نقاط محددة يعتبر تخطيها خطوطا حمراء، ليس له فقط، بل لكل المسلمين علي وجه الأرض، بل يستمد من فوضويته الفكرية شرعية كي يتدخل فيها بشئون الآخرين! إنه يعد نفسه وصيا علي كل الإسلام والمسلمين، كونه نظم نفسه منذ أن ولد في حركات سياسية أو جماعات دينية أو تحزبات إلهية أو رجال تابو مقدسين منهم أمراء مؤمنون أو أئمة مطهرون أو أصحاب عصمة.. إلخ، هؤلاء سواء كانوا من هذا المذهب أو ذاك فرضوا هيمنتهم علي الدين والدنيا بقوة سيكولوجية مخيفة ومرعبة.. تبدأ في البدايات مجرد أفكار في المجتمع يلتزمها الناس كونها تمثل وجها حقيقيا للدين، ولكن سرعان ما تعلن عن شرعيتها كي تسيطر بأي وسيلة كانت! إن ما يهمها أساسا السلطة الدينية والدولة الدينية.. فهي لا تعترف بشرعية غيرها، وهي لا تعترف بالأوطان أساسا، وهي لا تعترف بالآخر في مجتمعاتنا.. فكيف لها الاعتراف بالآخرين؟! هل من رسالة عاقلة؟! وأخيرا، هل من عودة للعقل ولو لمرة واحدة؟ هل باستطاعة التيارات الدينية العربية أن تخطو خطوات جديدة لإصلاح التفكير السائد، والتحول به خطوات إلي الأمام؟ وهل بالإمكان تزحزح السياسي إلي الحضاري لدي الإسلام السياسي العربي؟ هل بالإمكان الاستفادة من تجارب حزبية دينية كحزب العدالة والتنمية لدي الإسلام السياسي التركي، فلقد أثبت أنه الأقرب إلي الحضاري منه إلي السياسي؟ هل من فقه سياسي حضاري جديد من أجل الخلاص من الماضي الصعب؟ كلها أسئلة بحاجة إلي أجوبة حقيقية.. فهل بالإمكان تحقيقها، كي يتخلص الفكر السياسي العربي المعاصر من مخاطره الداخلية قبل الخارجية؟!