مهما طال الإبحار وامتدت المغامرة في بحار المعرفة، فالعودة الى الشاطئ أو «بر الأمان» أو ما شابه ذلك حسب اعتقادنا هى دائما الغاية والهدف والمراد وأيضا الأمل والحلم بالاستقرار والأمان لحين إشعار آخر.. أو فلنقل ل«حين ابحار آخر» يدفعنا من جديد لكى نترك الشاطئ ونخرج من المعتاد والمألوف الى حيث المغامرة و«مواجهة المخاطر» واكتشاف المزيد عن الذات.. وعن الآخرين. وسواء كانت رحلتنا أو رحلاتنا من أجل «اكتشاف ما هو جديد» أو «اكتشاف الذات من جديد» .. أو من أجل تأكيد ما لدينا من قدرة ورغبة على «محاسبة الذات ومراجعتها» وربما أيضا على «تصحيح مسارنا في الحياة» و» الأهم اختيار ما نراه أكثر توافقا وصدقا ونفعا لنا، وتحقيقا لما نريده ونتمناه ونسعى اليه» وهنا نجد في «أصداء السيرة الذاتية» لنجيب محفوظ الشيخ عبد ربه التائه يقدم لنا النصيحة ويوجه لنا التنبيه. اذ نقرأ «سألت الشيخ عبد ربه التائه: متى يصلح حال البلد؟ فأجاب: عندما يؤمن أهلها بأن عاقبة الجبن أوخم من عاقبة السلامة» ...................... وقد رحلت مؤخرا الكاتبة نادين جورديمر (من جنوب إفريقيا) وهي في التسعين من عمرها. وجورديمر حصلت على جائزة نوبل للآداب عام 1991 وعرفت واشتهرت ب«وعيها وادراكها الأدبي تجاه القضايا الانسانية» وأيضا بنشاطها المتميز في مواجهة الاضطهاد العنصري في جنوب إفريقيا وبالتالي صداقتها وقربها من الزعيم نلسون مانديلا. وقد كتبت 15 رواية وهي التي قالت: «ان التليفزيون والصحف تظهر حياة الناس في زمن ما.. الا أن الروايات تقول لك ماذا حدث بعد المظاهرة وماذا حدث عندما ذهب كل شخص الى بيته». الاحتفاء بحياة جورديمر وأدبها كان من المنتظر حدوثه مع ورود خبر رحيلها. وهذا ما قد حدث بالفعل. ومن ضمن ما أشير اليه أن جورديمر بحياتها وكتابتها أرادت واستطاعت أن تشارك في مواجهة الواقع وزيادة وعي الناس بضرورة المواجهة والتغيير. وأشير أيضا الى أن جورديمر عندما كانت عضوا في لجنة تحكيم بوكر العالمي لعام 2007 سئلت عما كانت تبحث عنه في كتابات أكثر من 70 كاتبا كانت تقرأ وتقيم أعمالهم. فكانت اجابتها: «الاضاءة» أو «التنوير» أو «ما هو مضئ». ان ما كتبته جورديمر ساعد الناس (كما قال بعض النقاد) على «أن ينظروا في عيون بعضهم البعض». إنها دائما صدق اللحظة وشجاعة المواجهة وإلا تاهت المواقف وتلاشت المعاني واختلطت القيم. بالنسبة للأديبة العظيمة فان أول مكان ذهبت اليه خارج جنوب إفريقيا كان مصر. وقد استدعت ذكرياتها وانبهارها باللحظات التي كانت في عام 2007 في حوار مع مجلة أمريكية تهتم بالأماكن والأسفار اذ قالت جورديمر وكانت وقتها في ال83 من عمرها: «كنت في الثلاثين من عمري وكنت قد كتبت كتابين.ولم أكن قد تواجدت خارج البلاد أبدا. زوجي راينهولد كاسيرر كان قد أمضى أربع سنوات ونصف السنة في مصر. وكانت مصر مهمة بالنسبة له وكان يريد أن يأخذني معه الى هناك» ثم تستكمل حديثها بالقول: «وكنت أتوق للذهاب الى مصر. وكنت قد قرأت الكثير عن التاريخ المصري والأهرامات. وأنا ليس لدى أى معتقدات دينية وأنا «ملحدة» ولم أمض وقتا في معابد يهودية أو كنائس أو مساجد.الا أن مسجد ابن طولون في القاهرة أبهرني بهدوئه وبمعماره وجماله. كوني امراة لم يسمح لي بالدخول الى المسجد إلا أن الأقواس والمئذنة وأيضا المشهد من صحن المسجد كل هذا أبهرني كثيرا. وكنت محظوظة أنني ذهبت لرؤية كل هذا عدة مرات.وبالتأكيد شعرت بتأثير هذا المكان على نفسي والروحانية التي شعرت بها. تواجدي هناك جلب سكينة ما الى نفسي». ورغم مرور عشرات السنين ومئات التجارب في حياة الكاتبة الا أن مسجد ابن طولون حفر في ذاكرتها مشاعر انبهار وسكينة لم تنسها أبدا. جورديمر كانت ضيفة معرض القاهرة للكتاب عام 2005 بدعوة من محمد سلماوي الذي رتب أيضا لقاءا تاريخيا مع نجيب محفوظ تم في منزله. لقاء كانت الكاتبة تتطلع لتحقيقه والحديث مع محفوظ عن أعماله التي تابعتها منذ سنوات. وكانت جورديمر قد كتبت في نهاية التسعينيات من القرن الماضي مقدمة للترجمة الانجليزية ل«أصداء السيرة الذاتية» لنجيب محفوظ وقد ترجم هذا العمل المتميز دينيس جونسن ديفيز. في هذه المقدمة احتفت جورديمر بخصوصية هذا العمل والتميز الذي لا مثيل له في أي «سيرة ذاتية». في صفحات «أصداء السيرة الذاتية» نجد: «قلت للشيخ عبد ربه التائه سمعت قوما يأخذون عليك حبك الشديد للدنيا.. فقال: حب الدنيا آية من آيات الشكر، ودليل ولع بكل جميل، وعلامة من علامات الصبر». ومن أقوال الشيخ عبد ربه: «خفقة واحدة من قلب عاشق جديرة بطرد مائة من رواسب الأحزان» .. وأيضا «كنا في الكهف نتناجى حين ارتفع صوت يقول «أنا الحب، لولاى لجف الماء، وفسد الهواء، وتمطى الموت في كل ركن» .. وأخيرا نقرأ قوله: «جاءني قوم وقالوا انهم قرروا التوقف حتى يعرفوا معنى الحياة ، فقلت لهم تحركوا دون إبطاء، فالمعنى كامن في الحركة». وبما أن التأمل الدائم والمستمر هو طريقنا وهدفنا هذه الأيام ونحن نحاول أن نتابع ونراقب أحوال البشر والدنيا من خلال ما نقرأ من قديم وحديث فان «الفوضى الخناقة» (وليست «الخلاقة» التي مللنا الحديث عنها وعن المؤامرة التي تقف وراءها) لا شك أنها تقلقنا ويجب أن تقلقنا خاصة أن الانسانية بأكملها تبدو كأنها «فقدت عقلها» أو «فقدت بوصلتها» وبالتالي تتخبط وتترنح وتصرخ وتتأوه وتدور في «حلقات مفرغة» من التيه والضياع و«قلة العقل» و»قلة الحيلة» وبالطبع «قلة الذمة». وهنا نلجأ لكتاب متميز للكاتب الفرنسي اللبناني الأصل أمين معلوف اسمه حسب الترجمة العربية «اختلال العالم». معلوف من مواليد بيروت في عام 1949 ويعيش في فرنسا منذ عام 1976 وصار اسما مرموقا وكاتبا معروفا في الأوساط الفرنسية والعالمية وهو يكتب بالفرنسية. ومن رواياته الشهيرة «ليون الإفريقي» و«سمرقند» و«صخرة طانيوس». وأيضا كتاب متميز عنوانه «الهويات القاتلة». معلوف في كتابه «اختلال العالم» (2009) يؤكد أنه ليس من أولئك الذين يخشون التغيير أو يفزعون من وتيرته ذاكرا: « ان مصدر قلقي هو من نوع آخر، انه قلق نصير للأنوار، يراها تترنح، وتشحب، وفي بعد البلدان تشرف على الانطفاء، انه قلق مولع بالحرية، التي كان يحسبها سائرة الى الانتشار في كل أنحاء المعمورة وهو الآن يشهد ارتسام ملامح عالم لا مكان لها فيه، انه قلق نصير للتنوع المتناسق يجد نفسه مكرها على أن يشهد، عاجزا، صعود التعصب، والعنف، والنبذ، واليأس، انه أولا، وبكل بساطة قلق عاشق للحياة، لا يقبل التسليم بالفناء الذي يتربص بها». كما أن معلوف وهو يحاول «ايجاد الكلمات الصائبة لاقناع معاصريه، رفاقه في السفر» يكتب: «بأن المركب الذي نحن على متنه بات بعد الآن هائما على وجهه، بلا طريق، ولا مقصد، ولا رؤية ، ولا بوصلة، في بحر هائج، وأنه لا بد من صحوة، ومن حالة طوارئ تفاديا للغرق. لن يكون كافيا أن نواصل السير في الوثبة التي بدأناها، كيفما اتفق، مبحرين اتكالا على البصر، متحاشين بعض العوائق، مسلمين أمرنا للزمن. فالزمن ليس حليفنا، وانما هو القاضي الذي يحاكمنا، ونحن منذ الآن محكومون مع وقف التنفيذ» ولا شك أن المطلوب ليس فقط كما يقول البعض ويردده وكأنه «العصا السحري» لعلاج حالنا وتخبطنا واختلال العالم بأكمله، هذا الحديث المتكرر عن نمط جديد من الأداء الاقتصادي أو المالي، ونظام جديد للعلاقات الدولية، ولذلك يحرص أمين معلوف على تأكيد أن المطلوب «أن نغرس في الأذهان رؤية مغايرة تماما للسياسة، والاقتصاد، والعمل، والاستهلاك، والعلم، والتكنولوجيا، والتقدم، والهوية، والثقافة، والدين، والتاريخ، رؤية راشدة أخيرا لما نحن ولما هم الآخرون، وللكوكب الذي نحن شركاء فيه. وبكلمة، ينبغي لنا أن «نخترع» مفهوما جديدا للعالم لا يكون مجرد ترجمة عصرية لأفكارنا المسبقة القديمة، ويسمح لنا بابعاد خطر التقهقر الذي يظهر في الأفق». ويضيف: «ان من واجبنا جميعا، نحن الذين نعيش بداية هذا القرن الغريبة ونحوز، أكثر من جميع الأجيال السابقة، الوسائل اللازمة لذلك، أن نساهم في مشروع الانقاذ هذا، بحكمة، وصفاء ذهن، لكن بحمية، وبغضب بعض الأحيان أيضا. أجل بالغضب المتوهج، غضب الأبرار». وأمام مفهوم «رؤية مغايرة» للتاريخ وقراءته وأيضا للدين وتفسيره أو تبريره نجد ما ذكره جمال بدوي كاتبا «من أسوأ ما ابتلى به الفكر الديني في عصور التخلف: داء التنطع.. حيث التمسك بالقشور، والطنطنة بظواهر الأمور وإهمال جوهرها.. والتنطع أسوأ من التعصب.. لأن المتعصب يحاورك من الخندق الآخر.. فهو واضح ومكشوف.. أما المتنطع فهو يقف معك على نفس الأرض.. ويشترك معك في أفكارك ولكن جهله يطمس فكره. وضرره أكثر من نفعه». جمال بدوي الكاتب الصحفي والباحث التاريخي تميزت كتاباته ودراساته التاريخية وبحوثه الاسلامية ببساطة عرضها وتنوع مصادرها. ومن كتبه «نظرات في تاريخ مصر الحديث» و«في تاريخ الفكر السياسي للاسلام» و«المسافرون الى الله بلا متاع» والكتاب الأخير عن «الأتقياء الأنقياء الذين باعوا الدنيا ومتاعها الفاني.. وآثروا الحياة الباقية المفعمة بالطهر والفضيلة..» أى التصوف وأهله. وبدوي كما كان يصف نفسه كان ينتمي الى «مدرسة تنظر الى التاريخ على أنه أداة للازعاج واليقظة والوعي والتنوير.. وهو دعوة شريفة الى النظر والتفكير والتدبر.. ومن ثم الى التغيير والتقدم.. ولا يمكن أن يكون مادة للتسلية أو تزجية الفراغ أو قتل الوقت(!!). وقد كتب أيضا: «ورغم أن التاريخ يتحدث عن الماضي، الا أنه يهدينا الى المستقبل. انه يجذبنا جذبا الى الوراء لنقلب صفحات الغابرين. ونسبر أغوارهم، وندرس أحوالهم، دون أن نغفل لحظة عن الواقع الذي نعيشه، ولا نتوقف أبدا عن التطلع الى المستقبل. ان التاريخ هو ذلك المرشد المنصف المثقف الذي يطوف بنا المتاحف والمساجد والمعابد والمقابر. ويأخذنا الى آثار الأقدمين لنرى وندرس ونتعلم منهم كيف ارتفعوا الى الذرا العالية. ولماذا هبطوا الى السفح .. فنضع أيدينا على عوامل السمو والرفعة والقوة.. ندرك أسباب السقوط والتدهور والانحدار»» ...................... وسواء كانت مغامرتنا هي الإبحار، أو قرارنا هو العودة الى بر الأمان فان ما نقل عن شمس التبريزي يتردد على مسامعنا «عندما كنت طفلا، رأيت الله، رأيت ملائكة، رأيت أسرار العالمين العلوي والسفلي. ظننت أن جميع الرجال رأوا ما رأيته. لكني سرعان ما أدركت أنهم لم يروا..» وطالما أننا رأينا وأدركنا وعلمنا وتعلمنا فأننا نعتز بما حققناه ونسعد بحسن حظنا. خاصة أن الإبحار وحده لا يعني الاكتشاف، كما أن الاكتشاف وحده لا يعني الإدراك. كما أن مواجهة الذات ومراجعتها تحتاج الى جرأة وشجاعة.وهنا بالتأكيد نتحدث عن اختيار الطريق والتمسك بالصديق ونشير الى الاقتراب من الصدق وأيضا الابتعاد عن الادعاء والكذب.. وأن تجد نفسك راضيا وهادئا تمضي في طريقك الذي اخترته ولا تتوقف خلال رحلتك ولا تتراجع عن المضي قدما. نعم انها الرحلة التي تبدأ دائما ولا تتم أبدا. وكل خطوة تخطوها تعتبر اضافة لخطوات سابقة اتخذتها من قبل. تلك التجربة الانسانية الفريدة التي يجب أن تعتز بها لأنها تؤمن بالتراكم مع مرور الأيام وتؤكد التواصل مع الكل بلا حواجز نفسية أو عقلية وأيضا تحتفي بالمشاطرة والمشاركة طالما أن العائلة الانسانية الواحدة تجمعها الأفراح والأحزان معا ولا تفصل بينها الأحلام والدموع !!