* نادين جورديمر كشفت لمحفوظ عن مخاوفها من أن تكون جذوة الكتابة لديها قد انطفأت فطمأنها بأنه مر بنفس الحالة عقب الثلاثية وبعد ست سنوات من التوقف كتب أولاد حارتنا * محفوظ لسكرتير الأكاديمية السويدية: أمضيت أنا وزملائي سنوات نكتب دون أن يلتفت الينا أحد * باولو كويللو: البطل في رواية " الطريق " يبدو أنه يبحث عن والده.. لكنه في الواقع يبحث عن الحقيقة ويبحث من خلالها عن نفسه.. وهذا هو حال بطلي في رواية " الخيميائي " كنا جميعا أصدقاء نجيب محفوظ.. حتي من حظي منه بلقاء عابر.. وليس هذا قرارنا.. بل قراره هو.. طرقت بابه مرة واحدة.. كان ذلك ابان أزمة «وليمة أعشاب البحر».. رواية الكاتب السوري حيدر حيدر التي فجرت حربا ضروسا بين المحافظين والمستنيرين في مصرحين صدرت طبعة منها عبر احدي سلاسل وزارة الثقافة المصرية في ربيع عام 2000 يومها قال لي الرقابة علي الابداع مهمة القارئ.. فلا رقيب سواه.. وعقابه سيكون قاسيا علي كاتب لايجيد أو ينحرف.. سينصرف عنه.. فهل ثمة عقاب علي الكاتب أقسي من هذا.. أن يكون بلا قراء.. ! علي أية حال.. ليس أمر الرقابة ما يعنيني الآن وأنا أستحضر من الذاكرة تلك الواقعة.. بل استقباله لي.. شيخنا أدهشني باستقباله الحار وبشاشته وروحه المرحة.. حتي خيل لي أنني ربما كنت من أصدقائه المقربين دون أن أدري ! وهكذا كان نجيب محفوظ.. عدد أصدقائه المقربين هو عدد من يلتقي من البشر.. حتي ولو لقاء عابرا.. وهؤلاء الذين لم يلتق بهم هم مشاريع صداقة يمكن أن تتحقق في يوم ما.. ! الا أن ثمة شخصا آثره محفوظ بما لم يؤثر به غيره.. كاتبنا الكبير محمد سلماوي رئيس اتحاد كتّاب مصر والأمين العام لاتحاد الكتّاب العرب.. الذي منحه محفوظ حقيبة وزارة الخارجية في جمهوريته.. هكذا كان محفوظ يناديه مازحا حين كان سفيرا أو كاتبا غير عربي يطلب مقابلة صاحب نوبل.. كان يقول: شوفواوزير الخارجية ! والمعني بالطبع محمد سلماوي.. والذي اختاره محفوظ ممثله الشخصي في احتفالات نوبل عام 1988واختصه باستلام الجائزة والقاء كلمته.. وأظنه - سلماوي - هو واحد من وزراء الخارجية القلائل الذي أمضي في منصبه هذا ما يقرب من عقدين دون أن يستبدل بآخر.. ! فماذا يختزن وزير الخارجية في جمهورية نجيب محفوظ من أسرار؟. بعض من تلك الأسرار هي متن كتاب سلماوي الجديد "في حضرة نجيب محفوظ " الصادر في 400صفحة عن الدار المصرية اللبنانية. الشكر لمحفوظ ! ولاأظن أنه من بين الصفحات الأربعمائة توجد صفحة واحدة تخلو من متعة الرأي والفكر أو جاذبية المعلومة.. الا أنني كنت أتوقف كثيرا أمام ما اكتنزته السطور من الحوارات التي كانت تدور بين محفوظ وزواره من الكتّاب العالميين.. وكلها تتعلق بقضايا شائكة في حقل الأدب والثقافة.. فإن كان الكثير لايكفون عن الكتابة حول مدي مصداقية جائزة نوبل.. فلقد طغت تلك القضية علي حوار ستوري آلين السكرتير الدائم للأكاديمية السويدية مع محفوظ حين زاره في بيته عام 1988 لابلاغه رسميا بفوزه بجائزة نوبل في الأدب.. فحين أعرب محفوظ عن شكره للأكاديمية لمنحها الجائزة له رد آلين قائلا: إن قبولك للجائزة هذا العام يؤكد موضوعيتها ونحن مدينون لك بذلك.. فالأدب العربي أدب عريق له تاريخ ممتد.. وآن الأوان أن يحصل علي ما يستحق من تكريم. وكشف آلين علي أن أعضاء لجنة نوبل الثمانية عشر أجمعوا علي هذا الاختيار!. ولقد فاجأ سكرتير الأكاديمية السويدية مضيفه بهذا السؤال التقليدي الذي يطرح دائما علي كل كاتب: لماذا تكتب؟ فقال محفوظ: أجبت منذ سنوات علي هذا السؤال قائلا لأن بناتي يطلبن شراء حذاء بكعب عال !لكن الحقيقة هي أنني أجد سعادتي في الكتابة.. فالكتابة بالنسبة لي ليست وظيفة أتكسب منها وانما هي مهنتي التي أحيا من أجلها.. ! فإن كان هذا السؤال يكتسب الآن المزيد من أهمية الطرح.. خاصة مع ظاهرة انقراض القارئ.. وبالتالي اخفاق المئات من الكتّاب العرب في التحقق.. فمن المدهش أن تلك الاشكالية عاني منها محفوظ ذاته.. ومع ذلك لم يهجر الكتابة.. وفسر ذلك لضيفه السويدي قائلا: أمضيت أنا وزملائي سنوات نكتب دون أن يلتفت الينا أحد.. ولأن بعضهم كانوا ينتظرون أن يأتيهم المال والنجاح فقد تركوا الكتابة حين لم يأت أي منهما.. أما أنا فقد كنت أجد سعادتي في الكتابة ذاتها.. وليس فيما يمكن أن تأتي به.. لذلك ظللت أكتب بلا مقابل لسنوات.. وأتمني أن أستمر في الكتابة حتي آخر أيام حياتي.. فأنا لاأتصور أن أحرم من تلك المتعة لاحياة لي بدونها! قلق جورديمر وعبارة محفوظ أنه يتمني أن يستمر في الكتابة حتي آخر أيام حياته لم يلقها جزافا.. بل كان يعني ما يقول تماما.. فحين زارته رفيقته علي درب نوبل.. الكاتبة الجنوب أفريقية نادين جورديمر عام 2005وأهداها نسخة من كتابه الأخير The dreams وهو ترجمة بالانجليزية لكتابه " أحلام النقاهة " أبدت دهشتها وسألته:أما زلت تكتب يامستر نجيب في سنك هذا ؟ فرد بالايجاب ووجه لها السؤال ذاته.. فقالت: انتهيت لتوي من كتابة رواية لم تنشر بعد.. وإني لأشعر أن تلك ستكون آخر رواية لي.. !وفسرت الأمر بأنها ربما في شيخوختها تلك حيث كان عمرها آنذاك 81عاما فقدت جذوة الكتابة.. فقال: لاتنظري لروايتك تلك باعتبارها آخر ما ستكتبين.. فما أدراك بما يخبئه لك القدر !فقالت: أشعر بأنني كتبت كل ما أستطيع كتابته ولن يصبح باستطاعتي أن أكتب ثانية ! وما تقوله جورديمر التي حصلت علي نوبل عام 1991شعور يفاجئ الكثير من الكتّاب.. ليس بالضرورة في مرحلة الشيخوخة.. بل وربما قبل ذلك بكثير.. وقد حكي لها محفوظ عن تجربة شبيهة وعميقة مر بها حين كان في مطلع الأربعينات.. قال: بعد أن انتهيت من الثلاثية شعرت بأنني أفرغت كل ما في جعبتي الروائية ولم يعد لدي ما أقوله بعد ذلك.. وقد حاولت كثيرا أن أكتب لكني لم أجد شيئا أكتبه.. لذلك اتجهت الي السينما وبدأت أكتب السيناريوهات وحين انضممت الي نقابة المهن الفنية سجلت نفسي ككاتب سيناريو وليس كروائي.. ثم بعد ست سنوات وجدت نفسي أكتب رواية جديدة هي «أولاد حارتنا» التي صدرت عام 1959 والتي جاءني بعدها فيض من الكتابات لم يتوقف لسنوات.. لكن أصارحك القول بأنني حين تصورت أن معيني قد نضب أصبت بالاكتئاب ! فقالت جورديمر: لو كنت مكانك لاكتأبت أيضا ! وإن كنت أعتقد أن الاكتئاب عرض وظيفي لمهنتنا الأدبية.. لكني الآن في ال81 وقد خلفت ورائي الكثير وقد لاأكتب ثانية ! فنبهها محفوظ الي أنه في ال93 ومازال يكتب.. فالمسألة في الأساس رغبة ودافع قد يشعر بهما الكاتب في وقت ما وقد لايشعر بهما في وقت آخر ! عم يبحث الكاتب ؟ ودائما يبحث الكاتب في أعماله عن شيء ما.. وقضية البحث تلك طفت علي سطح اللقاء الذي جمع بين العظيمين باولو كويللو والعربي نجيب محفوظ في منزل الأخير بالقاهرة حين قال محفوظ إن قصة بحث البطل في رواية كويللو "الخيميائي" عن الكنزاستحوذت علي كل اهتمامه.. فرد الكاتب البرازيلي:قرأت أخيرا روايتك "الطريق " ووجدت أنك سبقتني في قصة البحث هذه.. فروايتك هي الأخري تدور حول البحث.. فالبطل عندك يبدو أنه يبحث عن والده.. لكنه في الواقع يبحث عن الحقيقة ويبحث من خلالها عن نفسه.. وهذا هو حال بطلي أيضا.. فعلق محفوظ:لكل انسان الكنز الذي يبحث عنه.. فرد كويللو: وقد يكون الكنز بداخله.. فقال محفوظ: إن هذا هو الكنز الحقيقي لأنه اذا وجده الانسان فهو لايفقده أبدا.. لأنه كنز لايفني. وكثيرا ما كنت أسأل غيري من عشرات الكتّاب المجيدين الذين لم يتحققوا:أيعزي الأمر الي أنكم لاتنتمون لتيار بعينه ! وكنت أري أن أحد أسباب التحقق أن تنتمي لتيار حيث يقلك أربابه النافذين علي أشرعتهم الي مرافئ النقاد والاعلام والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية التي تدمغ أغلفة كتبك بختم الاجادة.. ! وخلال لقاء محفوظ بضيفه الكاتب الفرنسي الكبير "اريك ايمانويل شميت " صاحب الرواية الشهيرة "مسيو ابراهيم وزهور القرآن " تطرق الحوار الي ذات القضية حين سأل محفوظ ضيفه عن الرواية الجديدة أو رواية الضد وبعض كبار كتّابها مثل ناتالي ساروت.. فقال شميت: الرواية الجديدة أصبحت قديمة كما تعرف.. أما ناتالي فهي مازالت كاتبة كبيرة لها مكانتها.. ولكن لأسباب شخصية تتعلق بأدبها ولاتتعلق بانتمائها الي حركة الرواية الجديدة.. وأردف شميت: هذا وضع سليم في رأيي.. لأن قيمة الكاتب يجب أن تنبع من خصائصه الشخصية وليس من أنه ينتمي الي حركة فنية معينة. علي أية حال.. حتي لو كان للانتماء الي مدرسة ما اغراءاته في التحقق فمن السخف أن يمسك الكاتب بقلمه ويقول ها أنا سأبدأ في كتابة قصيدة نثر أو ها أنا بصدد كتابة رواية تعبيرية.. ولقد عبر محفوظ عن ذلك خلال لقائه بالكاتب الفرنسي روبير سوليه حين قال له: أنا في الحقيقة لاأفكر في المذاهب الفنية وأنا أكتب وانما أجد نفسي مدفوعا في اتجاه معين تفرضه علي طبيعة العمل الذي أنا بصدد كتابته.. بعد ذلك أجد النقاد يقولون: هذا العمل ينتمي الي المدرسة الواقعية أو الرمزية.. وهكذا ! لم يكن متطفلا وما كان سلماوي في رصده لعلاقات محفوظ الخارجية بالمحايد السلبي.. بل كثيرا ما كان يطل علينا عبر تلك.. الحوارات ليس متطفلا بل مرشدا وموجها.. مثل تنبيهه لنا لملاحظة أبداها أريك شميت ويراها سلماوي الي أنها ادق وأصدق ما قيل عن الثلاثية وعن أعمال محفوظ بصفة عامة حين قال شميت موجها حديثه لمحفوظ لقد وجدت عندك يا أستاذ محفوظ شيئا غريبا جدا فأنت تجمع بين الحسنيين.. لأن في أعمالك اهتماما شديدا بالتفاصيل.. لكن هناك في نفس الوقت معمارا كبيرا مسيطرا لاتخطئه العين.. وهذا واضح بشكل جلي في الثلاثية.. وفي العادة فإن من يولون اهتمامهم بالتفاصيل قد تغيب عنهم أبعاد البناء العام.. لكنني لم أجد الاهتمام بالاثنين الا في كتّاب قليلين جدا.. من بينهم أنت ومارسيل بروست