عندما تنبع الحكمة من المواقف الحياتية، فإنها تزيد لجمال واقعيتها تميز إجلاء الصدأ عن عقولنا الغائبة ليجنح بها الفكر الصافي لمعرفة حقيقة الناس والحياة، ويزيد من قيمة هذه الحكمة عندما تنطلق من براعة التجول في حقائق النفس البشرية إلي صناعة الحوار المتصل حول القضايا الكبري، وأن يتم ذلك بطريقة أدبية إبداعية مبتكرة، تتميز بجزالة الألفاظ، وثراء الأفكار والرؤي، وتنوع الموضوعات وشموليتها شتي قضايانا الذاتية والعامة، بأسلوب بديع يمازج بين الميتافيزيقا والسياسة، هذه هي بعض الانطباعات الأولية لمطالعة أصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ. الغلاف وتتضح عوامل براعة الإنتاج الأدبي في أصداء السيرة منذ الغلاف، فالعنوان في حد ذاته تعبير بليغ يحمل عدة معان، وتساؤلات، فالكتاب ليس سردا لسيرة حياة محفوظ كما قد يظهر من عنوانه..لكنه عبارة عن مواقف متفرقة كتبت علي شكل ومضات لامعة تكشف جوانب من الحياة والبشر والحكمة بأسلوب غاية في الاختصار والعذوبة والصفاء حتي أنني أكاد اشعر أنه أقرب لروح الشعر منه للنثر..وهذا ما يفسر كلمة «اصداء»..فالصدي هو ما يبقي من الصوت بعد انتهائه ..والكاتب هنا يأخذ من المواقف التي عاشها ما بقي منها في وجدانه من المشاعر والأفكار والذكريات. وهو في الوقت ذاته تحمل علي أحد الأوجه مضموناً عن صدي ذواتنا علي واقعنا وقضايانا، كما هي في شق آخر تحمل صدي طبائع وحقائق النفس البشرية خلال مسيرتها الحياتية، وما يحمله ذلك من حكمة وموعظة، في دقة وصف وتعبير ورصد رائع لواقعنا الذاتي وقضايانا العامة، ولعل نجيب ليس الوحيد، ممن كتبوا خلاصة تجاربهم في الحياة، ولكنه الوحيد الذي جعلها تخرج من التجربة الذاتية الخاصة إلي التجربة المجتمعية العامة، وهو ما يميزها عن سير العقاد وطه حسين وغيرهما، كما أنها تتميز أيضاً بقالبها السردي الأدبي المميز، وبذلك فهو الوحيد الذي استطاع أن يشحذ ذهنه لينطلق بنا إلي آفاق رحبة من عالم الإبداع غير المحدود، ليؤكد لنا إلي أي مدي هناك اختلاف لقدرات الأدباء في التأمل كسبب لروعة وثراء البعض منهم في أعمالهم الإبداعية، والتي يتجلي بريقها عندما يرتبط فيها الحس الأدبي بالنظرة الفلسفية كما في هذا المؤلف الإبداعي البديع كواحد من دلالات العبقرية الفكرية لمحفوظ. لوحات قصصية وهناك من يري أن أصداء السيرة، هي عبارة عن لوحات قصصية أو أقصوصات أو أصداء قصصية لرواياته المختلفة، ليبلغ عددها 227 صدي جاءت كلها شديدة التركيز، وعلي قدر عال من الشاعرية، واللغة المصفاة التي لا تحل فيها كلمة مكان أخري، وإلا انقلب المعني أو فسدت العبارة، أو امتنع الإيحاء عن التأثير. وبذلك تتفاوت الأصداء في الطول والقصر، وفي الشخصيات والأماكن، وفي النهايات، والزمن، وهي بصفة عامة من وجهة نظر هؤلاء أصداء لبعض روايات نجيب محفوظ وبخاصة: الحرافيش، وأولاد حارتنا، والثلاثية، واللص والكلاب، وقشتمر، وربما .. .. غيرها. ويكشف العمل منذ الوهلة الأولي، كم القدرات اللغوية، والأسلوبية الإبداعية، التي امتلكها محفوظ، والمبنية علي ثراء خبرته الحياتية، والتي بدأها بنشاط أدبي في كتابة القصص القصيرة والمقالات، وهو لايزال طالباً في سنوات الجامعة الأولي سنة 1930م وما بعدها، حيث كانت حينها أكثر القوالب الأدبية شعبية في مصر، حتي أنه بمجيء سنة 1944م كان قد نشر أكثر من سبعين قصة قصيرة في الصحف والمجلات غطت موضوعات مختلفة كان معظمها معاصراً، ولو أنها جمعت في كتب لخرجت في ثلاث أو أربع مجموعات قصصية، تضاف لرصيده المتجاوز خمسين عملاً إبداعياً. كما يتضح في العمل، امتلاك عناصر الجاذبية للقراء الجدد غير معتادي المطالعة، سواء من خلال الاختصار، واستخدام المحسنات البديعية، أو ثراء الأفكار المطروحة، فضلاً عن الرؤية العميقة لساردها في الحياة، وذلك علي لسان ذاته وشخصيات شتي، تم اختيارها بعناية، وفق أسماء خفيفة ومحببة للقلوب، كالشيخ عبد ربه الثائه، وهو ما يوافق الطبيعة المصرية التي تميل للممازحة، كما يوافق ذلك الطبيعة العربية والمصرية في استجلاب الحكمة من الشيوخ الطاعنين في العمر، فضلاً عما تحدثه هذه التسمية من جرس موسيقي للآذن، ويمكننا التحدث عن الشيخ عبدربه التائه الذي تحتل حكاياته وحكمه الثلث الأخير من الكتاب.. فعبدربه التائه رمز للتصوف والحكمة ، ويمكننا معرفة أول ظهوره، حين سمعوه ينادي: ولد تائه يا أولاد الحلال ..فقدته منذ سبعين عاما فغابت عني أوصافه_ربما يرمز للطفولة التي شهدت البراءة والسعادة وضاعت منه بعد أن كبر_ يجتمع الشيخ مع اصحابه في كهف بالصحراء حيث ترمي بهم فرحة المناجاة في غيبوبة النشوات كما يقول محفوظ ..حتي وصفوا بالسكاري ووصف كهفهم بالخمارة ..هذا الكهف يقال إن سيدة رائعة الجمال كانت تطوف به وأنها سوف تختار منه قرينها ذات يوم .جاء كثيرون لكنهم يئسوا أما الشيخ وأصحابه فقد صمدوا للنهاية ..ليس الشيخ عبدربه صوفيا يكره الدنيا أو يزهد متعها بل هو يحب النساء والطعام والغناء والشعر والمعرفة يقول انها نعم من الملك الوهاب وإن محور طريقته هو حب الدنيا وعدوه الهروب. وفي سياق آخر يتماشي ذلك مع ذكاء المؤلف في اختيارمكان الحدث، والذي لا يبعد كثيراً عن نسمات الأماكن الشعبية المحببة لنا جميعاً بما تحمله من أصالة وهوية واضحة، كذلك جو الحدث الذي كثيراً ما يرتبط بعبير الذكريات الحميمية، وهو ما جعل الكتاب يكون ذا رونق عذب وطبيعة متفردة لا تجعل له مثيلاً في أصداء السير، فكان مثاراً لإعجاب وانبهار الكتِّاب والنقاد، مما أدي لتناوله عبر 17 مؤلفاً عربياً و4 مؤلفات أجنبية، وذلك منذ صدورها من مكتبة مصر في عام 1994م بالقاهرة، وإعادة طباعتها بدار سحنون في تونس عام 1996م. وفي التطرق لتوصيف الكتاب، نري جدلاً بين النقاد والأدباء، وهو ما يؤكد الثراء الإبداعي والتفرد المميزين للكتاب، فمن النقاد من رأي أن الكتاب علي اختلاف تراكيبه وأساليبه ومعالمه إلا أنه يمكن إسناده لأعمال الإبداع القصصي، ومنهم من رأي علي خلاف ذلك بأنه علي الأرجح عملاً روئياً، بينما فريقاً ثالثاً ارتأ فيه عملاً شبه روائي، في حين طالب آخرون بعدم تصنيفه ليظل كما هو أسلوباً إبداعياً مستحدثاً في الكتابة. تنوع فالعمل يقوم علي تنوع الموضوعات والفقرات وهو ما يناسب القصة، ولكنه مع ذلك يتسم بوحدة الشخصية علي عدة موضوعات ذات سياق متصل وهو ما يناسب الرواية، هذا مع اختلاف المكان والزمان بين كل مجموعة من الموضوعات وهو ما يناسب أدب الرحلات، كما أرجع البعض في ذلك، لتأثر نجيب برحلات ابن فطومة، إلا أن هذا في رأيي بعيد جد عن طبيعة وطريقة السرد الموجودة في الكتاب، وهو ما يجلب الحيرة البالغة في التصنيف لدي النقاد. وبرغم اختلاف النقاد والمفكرين حول تصنيف "أصداء السيرة الذاتية" وكذلك "أحلام فترة النقاهة" لنجيب محفوظ، إلا أنني أري أنهما من أعمال القصة الحوارية، وهذا استناداً لآراء محفوظ ذاته، الذي خيل إلي في إحدي حواراته الصحفية بأنه يتحدث عن أصداء السيرة، فهو من قال : «إن التفكير في المجتمع وتطوارته، يقودنا إلي ما يمكن تسميته بالأدب الفكري، ففي الأدب الفكري، لا يكون البطل هو الشخص الخاص المحدد - إذا صح التعبير - وإنما البطل هنا هو الشخص العام الذي هو الإنسان في قضاياه الكلية والرئيسية، وهذا الإنسان العام لا يصلح للرواية التي تقوم علي الوصف والسرد، وإنما يصلح للقصة التي تقوم علي التفكير والحوار، وهو ما أطلق عليه أسم القصة الحوارية». وإننا في تصنيفنا ذلك لنتفق أيضاً مع ما قاله الناقد الدكتور حلمي القاعود بأنه لا يمكن القول بوجود فواصل دقيقة ومعلومة جيداً بين طرق الفن المختلفة، ولكن هناك اتجاهاً ما يغلب علي كاتب بعينه أو عمل أدبي معين، وهو ما يمكننا به تصنيف الأسلوب القصصي الشعري المبتكر في أصداء السيرة. وبرغم تأييدنا لتصنيف أصداء السيرة كقصة حوارية، إلا أنه يجدر بنا أن نورد الرؤي المخالفة توضيحاً وتبصرة لهذا العمل البديع، فيقول الدكتور والناقد حمدي السكوت : إن أسلوب الكتابة الإبداعية في "أصداء السيرة" من الأعمال شبه الروائية، مفسراً سبب الابتكار في هذا اللون الإبداعي الجديد، وصعوبة تصنيفه، بقوله : انه لم تمض سنوات قليلة علي حصول نجيب محفوظ علي جائزة نوبل، حتي اشتد عليه مرض القلب، واضطر للسفر إلي إنجلترا في عام 1991 للعلاج، ثم كان الاعتداء الغاشم الذي كاد يقضي عليه في يوم 14 أكتوبر عام 1994، والذي تركه في حالة نفسية وصحية سيئة لفترة طويلة، وحرمه من استخدام يده في الكتابة، ثم اشتد ضعف بصره وسمعه، مما اضطره إلي محاولة تعلم الكتابة باليد اليسري، وكان لذلك مشقة بالغة عليه خاصة مع ظروف مرضه المزمن، وهو ما أدي إلي استحداثه لشكل فني جديد للكتابة يستعصي علي التصنيف، لكنه يقطر بالشعر والحكمة، سواء من "أصداء السيرة الذاتية" أو في "أحلام فترة النقاهة"، التي ظل يكتبها - كما ظل يبدي "وجهة نظره" في الأحداث والمواقف والقضايا، المحلية والخارجية، من خلال حواره الأسبوعي مع الأديب محمد سلماوي في الأهرام، حتي نقل إلي المستشفي، ولم يخرج منه حياً. ويري الناقد حمدي السكوت أن أصداء السيرة الذاتية، تماثل طبيعتها أعمال أخري لمحفوظ كما في أعماله "حوار مع رجال مصر من مينا حتي أنور السادات"، وعمله الأخير "أحلام فترة النقاهة"، مفسراً هذه الأعمال كمرحلة للتطور الفكري لدي الكاتب، وهو التطور الذي يمكن توصيفه، عبر مراحل زمنية، بدأت في رواياته الأولي التي ارتكزت علي الحضور المكثف للمكان، ليتراجع بعدها ذلك جزئياً، ومن ثم يتلاشي الإحساس ببطء الحركة، ويحل بدلاً منه إحساس بالإيقاع السريع الذي يؤكده وصف الشخصيات وهي في حالة حركة، كما يؤكده الحوار السريع الذي أصبح يقوم ببعض وظائف السرد، وبث الإشارات التي تأخذ القارئ إلي تفسير بعينه، ولكن هذه المرحلة سرعان ما تسلمنا إلي نصوص غير تقليدية في شكلها وتقنياتها، ويسود فيها الاهتمام بالقضايا الميتافيزيقية التي ظلت تؤرقه حتي ولو توارت بسبب وطأة هموم الواقع والسياسة، وهنا سنجد استلهام محفوظ لبعض الأشكال السردية العربية مثل الرحلة في رواية "رحلة ابن فطومة". ولكن هذا لا يمنع أن يظل محفوظ في تناوله لأصداء السيرة الذاتية، كعمل قصصي يرتبط بتأثيرات المدرسة الكلاسيكية للرواية، بل لعل ذلك تحقيقاً مكتمل لعناصر قوة عمله القصصي المستمد من خبرة روائية عميقة، ويقول في ذلك الناقد أندريه ميكيل :أن نجيب ينتمي للمدرسة الكلاسيكية التي تعد الرواية عندها التعبير الأدبي عن مغامرة إنسانية معادا ترتيبها داخل سياقاتها الزمنية والمادية والنفسية، وإذا أردنا أن نحدد جانب الأصالة الذي يحتل بسببه إنتاج نجيب محفوظ مكانه في التاريخ العام للرواية، فإنه بالتأكيد ليس راجعاً لا إلي معالجة الزمان ولا المكان، ولكن لطريقة تقديم الشخصيات، والاعتدال المتزن بين الوفاء بالملامح الفردية الضرورية للرواية، وبين نموذجية الأبطال المنتمين إلي حقبة تاريخية وطنية يراد تقديمها، وهذه الدراسة لشعب بأكمله من خلال بعض الشخصيات، ولسوف يكون من شأن عالم الاجتماع في وقت لاحق، الحكم علي ما إذا كان طموح نجيب محفوظ، قد استطاع أن يجعل ألوان الوعي الوطني تتلاقي في داخل إنتاج فني، لكن الناقد الأدبي يستطيع من الآن أن يقول إن هذا الوعي الذي اضطلعت به عبقرية نجيب محفوظ، قد أعطي لإنتاجه أصالة رئيسية في إطار الأدب العربي، وحتي في إطار الرواية العالمية . بصيرة واعية فبينما توضح أصداء السيرة، مدي التقاء القصص والإنسان في موقف محدد التقطه الكاتب ببصيرة واعية، فيكشف من خلال تناقضاته أبعاد إنسانية الإنسان خلال نموه وتحوله في جوانب الحياة الاجتماعية في مصر، والذي ربما تستغرقه التفاصيل، ويغالي في تتبع وتصوير الحياة الاجتماعية في بلاده، وطبيعة النماذج التي درسها وجرب بعمق التعايش السلمي معها، غير أن هذا لا يضع أمامه حائلاً يحجب عنه إدراك أبعاد التجربة الإنسانية عامة، والرؤية البعيدة للأعماق المشتركة بين الناس، هذه الأعماق الغائرة بين متاهات من الغرائز والانفعالات والأحاسيس والأفكار المتناقضة التي تتواري وراء سلوك الإنسان، وتجسد ملامح علاقاته الاجتماعية وتطرح دائماً علامات استفهام حائرة عن معني حياته أو مأساته وتجبرنا في النهاية علي التفكير في مصيره. وأما إذا ما أردنا التطرق إلي مميزات العمل الإبداعي، فنجد محفوظ خلال أصداء السيرة الذاتية، يظل يحاور القضايا الكبري التي تتداخل فيها السياسة والميتافيزيقيا، لكن من خلال أبنية فنية لم يلجأ إليها من قبل، وهو ما يتضح في أعمال تأبي علي التصنيف مثل "حكايات حارتنا" و"أصداء السيرة الذاتية" و"أحلام فترة النقاهة" فلا يلتزم في هذه الأعمال بما التزم به من قبل من حبكة وحدث وشخصيات تنمو نحو نهاية بعينها، وإنما يصوغ هواجسه وذكرياته وتأملاته وأحلامه من خلال نصوص قصيرة لكنها متصلة، تتراكم فيها المشاهد والحكايات، لتخلق إيحاء بمعني، كأنها مكتوبة بقانون قصيدة لا قصة أو رواية، مما يؤكد أصالة عالمه وبحثه عن صياغات مبتكرة تحوي تعقد العالم، وتعدد تأويلاته. وفي مقطوعة "التحدي" بالكتاب، يشير فيها محفوظ الي عدم وجود سياسي غير ملوث حيث قال الوزير: الاشخاص الطاهرة غير الملوثة هي الأطفال والمعتوهين والمجانين..وعليه فالدنيا ما زالت بخير. فأصداء السيرة عمل يجمع الاتجاه الذاتي للكاتب بالجانب القومي السياسي، فأما عن الذاتية فيتضح ذلك فيما عبر به الأديب عما يهمه في ذاته، مما هو انعكاس لأحداث المجتمع والعصر - فهو صور الواقع النفسي المنعكس من واقع الحياة المادي، متفاعلاً مع أحداثه، متخذا منها موقفاً بالتأييد والتعضيد أو بالاستنكار والتنديد، ثم انتقلت أصداء السيرة، من الجانب الذاتي للشخصية إلي الجانب القومي السياسي مع عدم نفي صفة الإنسانية الشاملة العامة، فتلك الروح الإنسانية الشاملة، وصدقها في التعبير عن الوجدان القومي والثوري - سر مهم من أسرار عظمة السيرة الذاتية وتفوقها، وكما يقول الناقد فؤاد دواره عن نجيب محفوظ : أنه في عصرنا لم يعد يكفي الكاتب أن يعبر في أدبه عن حبه لبلاده، بل لابد أن يصدر هذا الحب من قاعدة إنسانية عريضة تستشرف الإنسانية جمعاء وتحرص علي تحررها وتقدمها... ومثال هذا الحب الإنساني الشامل إذا كان واضحا في أدب نجيب محفوظ بصفة عامة، فهو أوضح ما يكون في مرحلته الفكرية الأخيرة. بناء أدبي فأصداء السيرة وهي من أواخر ثلاثة أعمال لنجيب، تكشف لنا النهم البالغ بتجربة الإنسان العادي وتفاعلاته في الواقع كما يفسر ذلك الناقد عبد الرحمن أبو عوف قائلاً : إن أعمال نجيب محفوظ ككل تشكل بناء أدبياً سامقا له سلطانه الخفي والتحاماته الداخلية وقوة إيماءاته القصوي، فالملاحظ أن هذا الكاتب يملك القدرة علي التنوع غير المحدود، أو بمعني آخر يمتلك تجربة وخبرة عريضة عميقة يزخر بها، والنظرة الكلية لأعماله عامة، وخاصة الأخيرة، تكشف لنا عن نهم بالغ بتجربة الإنسان العادي، تجربة حياته وعلاقاته وتفاعله مع الواقع في شموله، انه يتابع ويرصد ويتغلغل وينفذ إلي أعماق التجربة الخصبة، ويجمع في النهاية مادة حية غنية لطرحها أمامنا في أعماله. ومن الجوانب الإبداعية المهمة أيضاً لأصداء السيرة الذاتية كقصة حوارية، امتلاكها لأصالة الانتماء للشخصية الشعبية، والتي لها ينتسب السواد الأعظم من الشعب المصري والعربي أيضاً، وترجع قوة تلك الأصالة بالدرجة الأولي من الإطار الروائي الطويل لنجيب، ذلك الإطار الذي يمثله حي سيدنا الحسين، داخل متاهات الأزقة مثل خان الخليلي وزقاق المدق، وما يتفجر منها أحياناً من شوارع الحي، ورحيل بعض الشخصيات، سرعان ما يأخذ من الناحية الجغرافية والشعورية طابع الاغتراب، إلا أنه يظل يحمل قدراً هائلاً من الموضوعية، وتساهم الشخصيات ذاتها في تحقيق عدالة المؤلف في مواجهة رسم البيئة المادية المحيطة به، وتدرك الشخصيات ذاتها أن مغزاها الحقيقي لا ينبع من انتمائها إلي إطار الجمال الشكلي - وإنما في إطار القيمة المعنوية، وهي بهذا تستطيع الإسهام في خلق نموذج الشخصية الإنسانية، وهنالك من هذه القيم مثلاً : الشجاعة في مواجهة الحياة اليومية، والتقوي، والعودة إلي المنابع، ولعل هذا الذكاء في التناول الأدبي، مما جعل مؤلفاته تأخذ نفس السطوة علي نفوس مختلف شعوب الأرض وأرجائها، فلا تختلف رغبات الإنسان وهمسات روحه في أمة من الأمم عن غيرها إلا بمقدار الاختلاف الناتج عن البيئة الطبيعية والثقافية العامة والتجربة الفردية. وبرغم أن نجيب ليس أول من مزج الحكمة الحياتية بأسلوب النثر الأدبي، إلا أنه أستطاع أن يجعل ذلك بأسلوب رائع مختصر وشامل للذات الإنسانية في علاقتها بمختلف القضايا الحياتية، وفق تأملات نفسية بديعة، وحنين رائع للماضي، ليكون بذلك استراحة عمر، لاستنشاق عبير السعادة في الذكريات وحكمة الحياة، وفق واقعية رائعة يحسد عليها ، وهي ميزة دائمة الصلة بنجيب محفوظ في شتي كتاباته، ويرتبط بنجاحها تلك الدقة التصورية البالغة لذواتنا الداخلية، وذلك وفق مختلف مواقفها وتحركاتها الحياتية، وهو ما كان له أثره البالغ في جعل القارئ ينطلق للشعور بالبهاء والصفاء والتأمل، خاصة عندما يأتي ذلك مع عبير نسمات كاتب حكيم وأديب عملاق بحجم نجيب محفوظ، يتميز بقدرة عقلية عبقرية في التلاعب بمفردات اللغة، والغوص الدقيق إلي أعماق النفس البشرية، فضلاً عن قدرة هائلة في رصد الهوية الاجتماعية الشرقية الأصيلة، وذلك وفق سرد أدبي بديع ومميز. وهذا ما جعل أصداء السيرة تسير بنا إلي تأكيد نفسي يساير نتائج العلوم الاجتماعية، ألا وهو أن الإنسان لا يوجد وحيداً في الحياة، ولا يصنع مصيره أو يحدد مواقفه وحده - وإنما من خلال ظروف عديدة، ومن خلال علاقات متشابكة مع الناس ومع الحياة تبدأ من سني طفولته المبكرة، وبذلك فنجيب محفوظ في أصداء السيرة لا يبخل علينا بالإجابة علي كل الأسئلة الذاتية، ولكنه ينثر إجاباته في سياق الكتابة بصورة فنية ممتازة. وتظل الأصداء تنتقل عبر مراحل زمنية، حتي الوصول إلي أقصي نقاط التطور الزمني في معاناة البطل، وهي ليست مثل معظم الحالات (الموت المعنوي، أو الجسدي) إنما في المعاناة النفسية لفقدان عزيز أو رحيل قطار العمر، ولكنه يأخذ طابعاً أقرب لطابع النشوة علي عكس المعتاد في مثل هذه الظروف من طابع التشاؤم الأساسي، ويعزز من ذلك نجاح يسجله أبطاله، الذين يتسمون بصلابة وشجاعة في مواجهة الحياة اليومية، دون أن يتحقق لهم مطلقاً النجاح السهل، وذلك الشعور بوجود التطور الزمني، لا يدع أبداً مجالاً لثبات "السعادة" مما يعطي للإنتاج الفني، واحداً من أهم ملامح أصالته ذلك أن الأبطال، في ارتباطهم بحركة الزمن، لا تدعهم يستريحون، ولا يلتقطون أنفاسهم، فالزمن عنصر أساسي للتكوين النفسي للشخصيات، وهو لا يدع لهذه الشخصيات إلا أحد خيارين : الموافقة أو الرفض لتطور يقودهم نحو مستقبل، يبدو أن الصراع والنشوة والذكريات استجلاباً للحكمة هي أكثر معطياته ثباتاً. ومما يمكننا استخلاصه من أصداء السيرة، هو تأكيدات الكاتب علي عدة معان وقيم، من تجارب عميقة في النفس البشرية، ومنها أن الصدق والإخلاص يتضمنان فهم هذه الحياة وإدراكها وارتياحنا إليها والسهولة التي بها نمارس هذه الحياة، وكأنه في ذلك متأثراً بالفلسفة الجوهرية، والتي تقول إن هذه الحياة التي نحن جميعنا مدعوون إلي أن نحياها، تنبعث من أعماق كياننا متي تطهر هذا الكيان وتجدد واتفق إيقاعه مع إيقاع القلب الكوني، وذلك علي قدر ما نبذله من الجهد من أجل القضاء علي مقاوماتنا والبقاء في مستوي أعلي من مستوي أنفسنا بعون من الله عندما نكف عن الابتعاد عنه، وعندئذ يحررنا الحق إذ نعيشه ونحياه، وننال الحرية الداخلية الصحيحة التي يتمتع بها أولئك الذين يتصرفون بناء علي اختيار نهائي يختارونه بعد تفكير عميق ، وبتخلص أرواحنا من أدرانها تتولي توجيه هذه الحياة في أدق ما فيها من التفاصيل، وتتجلي هذه الحياة فيما يصدر عنا من أفكار وأقوال وتصرفات مغايرة لما كان يصدر عنا فيما سبق، وتكفل لنا تفوقاً يومياً علي النفس يقوم عليه تطور وارتقاء واع نمارسه بمحض إرادتنا واختيارنا، ويتم في جو من الغبطة والبهجة، وليس في جو المعاناة الذي كان حتي الأمس القريب هو الجو الوحيد الذي يمكن أن يجعل قلوبنا قلوباً لينة رقيقة. ويتميز القصص الحواري عبر أصداء السيرة، بالجرأة علي التفكير في تغيير الواقع، عبر لقطات ذكية، وذلك رغم اهتمامها بالشخصية والموقف وركام التفاصيل، وهو ما جعل الفكرة تتسم بالعمق وتعطي نفسها بوضوح للقارئ، فهو من الأعمال التي تتميز بالإتقان والمهارة الجمالية، بجانب ذلك قدرته علي إقامة تناسق رائع بين الفكرة العميقة الموحية ذات الأبعاد وبين أسلوب صياغتها وتشكيلها. فنجيب محفوظ، عدا كونه أغزر الروائيين العرب علي الإطلاق، فهو أحد الذين صنعوا تحولات القصص القصيرة النوعية، وأضافوا إلي تراث القصة العربية إضافات مهمة، علي صعيدي الشكل والمضمون، فأعماله تشعرك بأنك أمام عمل يخرج من الواقع ويتجه إليه، إذ إن إنتاجه يرسم بدقة، من خلال واقع وزمان محددين، وعبر شخصيات محددة، صورة للمجتمع العربي المعاصر بمختلف تناقضاته الجذرية، ومن هذا المنطلق يمكن القول أن قيمة إنتاج نجيب محفوظ تتعدي الناحية الفنية، لتطال الناحية التاريخية عبر رصد حركة المجتمع العربي عامة، والمصري علي وجه الخصوص من خلال "الحارة" التي هي في الواقع أصغر تجسيد للمجتمع. ومما يميز أصداء السيرة كعمل إبداعي أيضاً هو جانب الثراء الفكري الذي يمكننا من خلاله الكشف عن التجربة الإنسانية والإبداعية اللافتة للنظر لنجيب محفوظ، والتي قدم من خلالها للأدب العربي والعالمي انجازاً غير مسبوق، مؤسساً تجربته الإبداعية علي الإفادة من مصادر ثقافية متنوعة، منها الأدب العربي القديم والحديث والتراث الغربي، فضلاً عن روافد متعددة في مجالات لا حصر لها منها الحضارة والفلسفة والتاريخ واللغة وعلم النفس والعلوم التجريبية، وهذا التعدد جعل أعماله حافلة بالمعرفة والمتعة والعمق، وهو ما جعله مادة ثرية للباحثين في العلوم الإنسانية ومنجماً لدارسي الفلكلور والأنثربولوجيا والحضارة والأدب المقارن والنقد الأدبي وعلوم اللغة ..الخ. فكان نجيب أحد العباقرة في إثبات أن الكتابة القصصية الإبداعية لا تعرف لها قواعد، ولا تحيطها محددات وصفية، فمن أنامله عرفنا مدي القدرات الإبداعية غير المحدودة في تغيير النص والشكل والأسلوب واللغة في آن واحد. ولعلني أجد من الداعي الاعتراف بكم هي نشوة السعادة حينما أقوم بتجربتي بعرض هذا الكتاب لما كان لي من سعادة المعرفة ، فأي نشوة تلك التي تقارن بعظيم الحظ في وقت نستخلص منه جوهر حكم الحياة وأسرارها ، مقروناً بمتعة الاستمتاع بالأسلوب الأدبي واللغوي الرائع والمتميز ، متزامناً مع فلسفة توقع وإدراك حقائق الأمور قبل فوات أوانها ، بيد خبيرة واعية ، مما يمنح النفس خبرات أعوام في أوقات ميسرة، موفراً علي النفس عذابات تكشف الأمور، ومانعاً للأسف الاكتشاف في أرذل العمر حيث لا ينفعنا إدراكها، بقدر ما ينفعنا اعتزال الناس نتيجة الهذيان والنسيان، كما أوضح ذلك المؤلف عبر كتابه بعبقرية يغبط عليها.