مازالت الأنباء تتوالى عن حياة هيمنجواى وابداعه. نعم أتحدث عن الكاتب الأمريكي الشهير ارنست هيمنجواى صاحب رواية «العجوز والبحر» الذي غاب عن عالمنا فى 2 يوليو عام 1961. وكما هو معروف فان هيمنجواي أنهى حياته وهو في ال61 من عمره .. منتحرا في مدينة كيتشام بولاية أيداهو في الغرب الأمريكي. ولا شك أنه بحياته الثرية ومغامراته المتواصلة وانغماسه التام في تفاصيل الحياة وتلافيفها لم يحمل فقط مفاجآت لنا خلال سنوات عمره بل ترك لنا مفاجآت وكنوزا أيضا بعد مماته. فقد تم الاعلان مؤخرا بأن المكتبة الرئاسية الخاصة بجون كيندي في بوسطن قامت بأرقمة أوراق ومواد مكتوبة ( يقدر عددها بألفين وخمسمائة وثيقة) من بيت الكاتب الكبير في كوبا وهي الآن متاحة الكترونيا لمن يريد الاطلاع عليها. وهذه الأوراق تشمل رسالة تلغراف بتاريخ 28 أكتوبر 1954 من مسؤول بلجنة جائزة نوبل يبلغ الكاتب بفوزه ومن ثم يسأل عما اذا كان الكاتب يقبل الجائزة وعن امكانية حضوره لاستوكهولم لاستلامها. وأيضا جواز سفر هيمنجواي الذي انتهت صلاحيته في عام 1953. ووثيقة تأمين سيارة ورخصة حمل سلاح في كوبا وتذاكر لمشاهدة عروض مصارعة الثيران بالاضافة الى وصفة طهى للهامبورجر المفضل لدى الكاتب احتفظت به زوجته الرابعة. وهذه الأوراق ومقتنيات أخرى مازالت موجودة في منزله المسمى ب «فينكا فيجيا» على بعد 10 كيلومترات جنوب شرق العاصمة الكوبية هافانا. وهو المنزل الذي أمضي فيه هيمنجواي 21 عاما من عمره من 1939 الى 1960. وقيل أن هيمنجواي كتب في هذا المنزل عديدا من أعماله الشهيرة ومنها «لمن تقرع الأجراس؟» و«العجوز والبحر». وقد أقيم منذ نحو عشرة أيام في كوبا احتفال بتدشين هذا الارث المميز لهيمنجواى تتويجا لجهود مشتركة ما بين مكتبة كيندي ومؤسسة «فينكا فيجيا» امتدت لأكثر من عشر سنوات شارك فيها أكاديميون من كلتا الدولتين كوبا والولايات المتحدة (وذلك رغم الخلافات السياسية) من أجل انقاذ هذه الأوراق والحفاظ على ما عاشه وكتبه هيمنجواى العظيم.وكان جيم ماكجفرن النائب الديمقراطي بالكونجرس الأمريكي حاضرا لهذا الاحتفال وقال فيه «ان هيمنجواي جمع الناس معا دائما.. وقد تجاوز السياسة». وكانت زوجة الكاتب الرابعة ماري ولش هيمنجواي قد أهدت المنزل والأرض للحكومة الكوبية بعد انتحار الكاتب. وكما ذكرت تقارير صحفية فان منزل الكاتب كان يواجه خطر الانهيار مما دفع بأكاديميين وباحثين في كل من كوبا وأمريكا للعمل معا من أجل انقاذ البيت وترميمه وتحويله لمتحف ومزار تتردد عليه أجيال مختلفة من البلدة نفسها ومن كافة بقاع العالم. وذلك ليروا المكان الذي عاش فيه «Papa» (الاسم الشهير له) وأبدع واستقبل أصدقاءه وعشاقه.. وعلق على جدرانه عشرات من رؤوس الحيوانات المحنطة وكان هيمنجواي كما هو معروف مغرما بالصيد ورحلاته. وبما أن هيمنجواى مازال يطاردنا بأخباره. فمنذ أسبوعين تم الاعلان عن اسم الفائزة بجائزة مؤسسة هيمنجواى ونادي القلم. واسمها نوفيوليت بولاوايو مؤلفة رواية «نحن في حاجة الى أسماء جديدة». والروائية مولودة في زيمبابوي وروايتها تحكي حياة بنت في العاشرة من عمرها تترك مدينة الصفيح في زيمبابوي وتأتي لتعيش مع قريبة لها في ديترويت. ولم يعد بالأمر الغريب ونحن في عام 2014 وأثناء الحديث عن القضايا البشرية والأزمات الدولية الراهنة أن يقال مثلا «ترى ماذا كان سيكتب هيمنجواى اذا ذهب اليوم الى سوريا مثلا؟» كما أن هيمنجواى وأسلوبه في الكتابة السلسة والمتدفقة وأيضا قدرته في تناول تفاصيل الحياة والبشر يستخدمه كدليل ونموذج العديد من مدرسي التربية والتعليم وهم يطرحون السؤال اياه: « ترى من سيكون هيمنجواى القادم؟» «وهل تريد أن يكون ابنك هيمنجواى آخر؟». ولعل أطرف ما ذكر أخيرا له صلة بهيمنجواى هو صدور App باسمه يتم تحميله كتطبيق على الأجهزة الذكية تتمكن من خلاله تقييم كتابتك وتصحيحها بمعايير ومقاييس كتابة هيمنجواى المتميزة.. أو بتعبير آخر تستطيع أن تحاكيه في الكتابة أو تحاول أن تقلده في أسلوبه أو تكتب مثله.. كما أنك تعرف هل أنت تسير على خطاه .. أم أن أمامك مشوارا طويلا؟ وبما أن شئ بالشىء يذكر فان موقع مؤسسة سميثسونيان الشهيرة الحاضنة والراعية للعديد من المتاحف الوطنية الكبرى في واشنطن نشر منذ أيام ما يمكن تسميته بدليل القارئ الذكي لزيارة باريس.. حسب نصيحة وتوجيه هيمنجواى. باريس التي انبهر بها هيمنجواى وأبهر قراءه بكتابته عنها وعن جمالها وسحرها ومتعة العيش فيها. نعم هيمنجواى لم يمت ولن يمت. وهذا التوصيف يذكر ليس من باب التمني كما أنه لا يدرج تحت بند التهويل لمن يتابع الحياة الأدبية والثقافية الأمريكية ويجد التشوق الدائم لما كتبه وعاشه وعشقه هيمنجواى. مجموعة رسائله وأوراقه الخاصة التي تصدر تباعا أو تسلط عليها الأضواء من حين لآخر تكشف رغبته الجارفة في أن يتواصل، وأن يتفاعل مع الحياة والبشر فيها أيما كانوا أو أيما كن.. منذ فترة وجيزة ذكر أن خطابا شخصيا كتبه هيمنجواى لنجمة السينما مارلين ديتريتش بتاريخ 28 أغسطس عام 1955 تم الكشف عنه مؤخرا ومعروض حاليا للبيع في مزاد دعت اليه حفيدات ديتريتش. وقد التقت ديتريتش بهيمنجواى للمرة الأولى على ظهر سفينة خلال رحلة من باريس الى نيويورك في عام 1934 وقد ظلا أصدقاء مدى الحياة.وقد حرصت مجلة «هوليوود ريبورتر» وهي تقول هذه الجملة الأخيرة أن تضيف اليها جملة أخرى لتفول «لم يصبحا عاشقين أبدا» وان رسائل عديدة تبادلوها تتضمن مشاعر دفاقة.. هيمنجواي وصف الكتابة بأنها كالنزيف، وبالتالي «ما عليك الا أن تقطع الوريد وتدع الكلمات تتدفق». وهيمنجواى ليس بالاسم الغريب للعاشق العربي للآداب والكتب. ولكل من يعرف ويتذوق الكلمة خاصة تلك التى تأتي بعفوية وسلاسة ونضارة لتخلب العقل وتمتع النفس ثم يدفعك كقارئ الى المغامرة واحتضان الحياة والجرأة في التعبير عن الذات وعن اللذات أيضا. وقد صدر منذ فترة ليست ببعيدة رواية باسم «مسز هيمنجواى « (سيدة هيمنجواى) للكاتبة ناومي وود تقوم فيها بجولة في حياة زوجات هيمنجواي في محاولة منها لمعرفة المزيد عن حياته وزيجاته وعلاقاته مع المرأة وعشقه لها واقترابه منها، وأيضا قسوته معها،ومن ثم افتراقه عنهن أو افتراقهن عنه. وهيمنجواي تزوج أربع مرات. زوجته الأولى كانت هادلى ريتشاردسون (ما بين عامي 1921 و1927) ثم الثانية بولين فايفر (بين عامي 1927 و1940) ثم مارتا جيلهورن (بين عامي 1940 و1945) وأخيرا الزوجة الرابعة واسمها ماري ولش هيمنجواى (بين عامي 1946 و1961). وهيمنجواي كان أبا لثلاثة أبناء أبن واحد من الزواج الأول وابنان من الزواج الثاني. وكاتبة الرواية التي تتناول حياة زوجات هيمنجواى تقر وتعترف وهذا رأيها بأن هيمنجواي لم يكن الجاني دائما بل كان أحيانا ربما الضحية وأنه كان متألما وكان متخبطا في علاقته مع النساء ومع تقدم العمر. وسواء كان ما كتبته الكاتبة صوابا أو ربما تسامحا منها وتفهما لحياة مبدع، أم كانت مخطئة جملة وتفصيلا فان ما يهمنا ويجب أن يهمنا في نهاية المطاف هو ما أبدعه وكتبه هذا الكاتب الفذ المنطلق والمحلق والمتمرد والعاشق والمقبل على الحياة والحاضن لها، وأيضا القادر على الحكي الثري والسرد البسيط .. الذي مثلما كان يقول كان يعني ما يقول والأهم كان يفعل كل هذا مستمتعا بحياته وبناسها ونسائها ورحلاتها ومغامراتها ودائما كان لا يرضى بأقل منها.. وعندما وجد نفسه بأن ليس في استطاعته أن يفعل كل هذه الاشياء أو أن يعيشها ناقصا أو منقوصا .. قرر أن ينهي علاقته مع الحياة. وحدث ما حدث. وهو الحدث والموقف الذي وقف أمامه كاتبنا الكبير يوسف ادريس مذهولا ومعجبا ومنبهرا ولم يتردد في أن يكتب «اني أحسدك». ادريس الذي كتب عن هيمنجواى «ان شجاعة هيمنجواى في انهاء حياته لا يعادلها في رأيي الا شجاعته في مزاولتها»وقال أيضا عن هيمنجواى «أنت بموتك لم تمت وانما انتصرت على الموت، وعلى الحياة، وعلى عالم الرجال الصغار، اللا أبطال .. عالمنا» وعالم هيمنجواى دائما صاخب ومبهج ومتدفق ومنطلق ومندفع وراقص وأيضا حاضن .. لمن يقرأه ويقترب منه..