يستمد المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد مكانته وأهميته في الحقل الثقافي العربي والغربي, علي حد سواء, من مشروعه الثقافي الذي تبلورت معالمه من خلال الكتب الثلاثة التي أصدرها تباعا, في الفترة من1978 وحتي عام1981; وهي علي التوالي كتابه المهم حول الاستشراق, وكتابه الثاني عن المسألة الفلسطينية, ثم ثالث هذه الكتب تغطية الإسلام وأحداث العالم الإسلامي في الصحافة الغربية. في كتابه الأول حاول سعيد تعرية ونقدا الإستشراق والربط بينه وبين السيطرة الاستعمارية والإمبريالية, وانتقد مفهوم الشرق كما طرحته كتابات المستشرقين أو عدد كبير منهم في فترة زمنية طويلة نسبيا; مبينا علي نحو خاص الوحدة الثقافية والمعرفية بين مختلف هذه الكتابات, رغم تفاوت كتابها ومواقعهم وتباين الأزمنة والحقب التاريخية التي كتبوا فيها عن الشرق; فالشرق عموما في نظر هذه الكتابات هو الشرق' المتخيل' لدي هؤلاء المستشرقين, أو أنه' الشرق كما خلقه الغرب' وفقا للطبعة الفرنسية المترجمة عن اللغة الإنجليزية لكتاب سعيد الأول في تلك الثلاثية. يكشف الكتاب الأول في ثلاثية سعيد التي أشرنا إليها حول الاستشراق والمترجم إلي اللغة العربية بعنوان' الاستشراق: علم موضوعي أم سياسة مقنعة؟' وإلي اللغة الفرنسية بعنوان' الاستشراق: الشرق كما خلقه الغرب' عن طبيعة هذه المبادئ والأسس التي تؤطر مشروع إدوارد سعيد الفكري والثقافي; فهذا الكتاب أي' الاستشراق' ينخرط مضمونه في إطار محاولة لتحرير العلاقات بين الغرب والشرق من تلك الصور النمطية والمختزلة والمجتزئة التي أنتجها الاستشراق عن الشرق والمسلمين والعرب; هذه الصور البعيدة عن الواقع المتعين والمحدد للمجتمعات العربية والإسلامية, تلك الصور الباحثة عن نمط متجانس ومقولب تنخرط فيه تلك المجتمعات علي اختلاف تاريخها وثقافتها وخصوصياتها, ويكشف سعيد عن طبيعة التحيزات المسبقة والإرادة المسبقة لتقزيم الشرق في المخيلة الغربية وتجاهل التاريخ الواقعي لهذه المجتمعات, والعزوف عن دراسة العمليات الواقعية الاقتصادية والاجتماعية والتاريخية في قلب هذه المجتمعات, والاكتفاء بدلا من ذلك بدراسات اللغة والعادات وأدب الرحلات واعتبار ذلك تشخيصا علميا وموضوعيا لطبيعة المجتمعات الشرقية والإسلامية يتوفر فيه كل شروط الموضوعية والمهنية. كما استند كتاب سعيد حول الاستشراق إلي ضرورة وحق الإنسان الشرقي والعربي والمسلم في الكرامة ورد الاعتبار والحديث عن نفسه وكذلك حق المجتمعات العربية والإسلامية في الكلام والتعريف بنفسها وتشخيص مشكلاتها من منظور تاريخي, ذلك أن آفة الاستشراق كما يوضح سعيد أنه يفترض بداية عدم قدرة هذه المجتمعات علي أن تعرف نفسها بنفسها, وأن الاستشراق والمستشرقين هم المؤهلون بحكم مؤهلاتهم ومعارفهم وخبراتهم العلمية لمعرفة هذه المجتمعات والحديث باسمها, بل وإدارتها بمعرفة الغربيين من العسكر والساسة والخبراء والعلماء, ذلك أن الاستشراق كما يوضح سعيد الذي أحصي أكثر من ستين وصفا ومجموعة من الأسماء والأوصاف تستهدف الشرقي العربي والمسلم وتنزع عنه الآدمية والكرامة والإنسانية أو علي الأقل تضعه في مرتبة متدنية مقارنة بالإنسان الغربي. وهنا يربط سعيد بين المعرفة والسلطة, وبين السيطرة الاستعمارية والإقصاء, ووضع المختلف والآخر ليس فحسب المسلم العربي أو الفلسطيني ولكن أيضا' الزنجي والأسود والسكان الأصليين' في البلاد المستعمرة بوجه عام في المكان والمكانة التي يحددها العارف المسيطر, ولا شك أن هذه المنهجية التي تمثلت في الربط بين المعرفة والسلطة والخطاب الاستشراقي والسيطرة الاستعمارية استلهم فيها سعيد أعمال ميشيل فوكو المفكر الفرنسي المعروف واستثمر فيها حصاد إطلاعه الواسع علي مناهج وتطورات مختلف العلوم الاجتماعية. أراد سعيد عبر كتابه' الاستشراق' أن يؤكد ضرورة الخروج من تلك الدائرة الجهنمية التي يضع فيها الاستشراق الغرب والشرق علي حد سواء; فالأول أي الغرب ليس أمامه وفق إنتاج الاستشراق الفكري عن الشرق سوي إخضاع الشرق والسيطرة عليه وتعريفه بنفسه أو إقصائه من دائرة المدنية والحضارة والكرامة وتغذية الاتجاهات العنصرية والنمطية, أما الشرق فيواجه نتيجة شيوع الفكر والنظرة الاستشراقية لدي النخب المثقفة بأحد احتمالين أولهما الإغراق في الماضي والسلفية أو العداء العنصري للغرب وكراهيته وشيطنته. لقد فضل سعيد في مشروعه الثقافي النقدي للثقافة الغربية خاصة كما وضحت في كتاب الاستشراق إثارة الأسئلة الكبري في العلاقة بين الشرق والغرب, ولم يقدم دليلا أو نموذجا لكيفية الإجابة علي هذه الأسئلة ربما لإدراكه أن ليس بمقدوره منفردا تقديم هذه الأجوبة, أو أنه لا يريد أن يسجننا في الأجوبة, وأرتأي أن إثارة الأسئلة وصياغتها قد يكون فيه كل الفائدة كما يقول' تودورف' مقدم النسخة الفرنسية للكتاب. يحاول سعيد أن يحرر الغرب من سيطرة الأفكار النمطية والتحيزات والصور المجتزئة عن الشرق, وأن يبين أن هذه الأفكار والصور التي تقدم باعتبارها حصاد المعرفة العلمية الاستشراقية مفارقة للواقع في المجتمعات العربية والإسلامية; المتفاوتة ثقافيا واجتماعيا, ويحتفظ كل منها بخصوصية ما تميزه عن غيره من المجتمعات, كما أنه استهدف أن تأخذ الشعوب الخاضعة وغير الغربية بزمام المبادأة في صياغة خطابها الخاص والكلام عن نفسها, بالصورة والطريقة التي تراها معبرة عن ذواتها, وفي هذه الحالة نكون قد قطعنا شوطا كبيرا في إعادة بناء منظور جديد للعلاقات بين الشرق والغرب. ولقد أثارت رؤية سعيد عاصفة من ردود الأفعال, سواء المختلفة والمعارضة والمؤيدة والمتحفظة, سواء علي الصعيد العربي' الاستشراق والاستشراق المضاد صادق جلال العظم' أو علي الصعيد العالمي' أنظر فريدها ليداي الإسلام وخرافة المواجهة' خاصة فيما يتعلق بمنشأ الأفكار وارتباط ذلك بصحتها; ذلك أن سعيد يوحي ضمنا بأن الأفكار التي أنتجت في سياق السيطرة أو في خدمتها هي بالتالي غير صحيحة, وهو أمر موضوع جدال حيث أوضح كارل مانهايم أن إنتاج الفكرة في سياق مصلحة أو مجموعة أو فرد مرتبط بالسياق لا علاقة له بصحتها من عدمه. وفضلا عن ذلك فإن نقد سعيد لمشروع الاستشراق واستناده علي الثقافة والإيديولوجية واللغة والأدب لم يقابله تقديم سعيد لدراسة العمليات التاريخية والاجتماعية والثقافية كما كان متوقعا من الكثيرين, كما أن الاستشراق في منظور سعيد يكاد أن يكون قوة ميتافيزيقية قادرة علي التغلغل في كل العصور وكل أنواع التعبير المختلفة, وهو الأمر الذي يفقد هذا المفهوم قوته التفسيرية والتحليلية, وكذلك فإن ما عاناه الشرق عاني مثله الكثير من المناطق والشعوب حيث كانت لليابا ن وروسيا وغيرها من البلدان نصيب من هذه الرؤي المتجزئة والمجزأة والمبتسرة والمتحيزة. غير أن مشروع سعيد الفكري تبقي له قيمته النابعه من كونه يخرج من رحم الثقافة الغربية ومفاهيمها وأدواتها المنهجية والعلمية, وهو ما أكسبه القدره علي التأثير والفعل في الحقل الثقافي الغربي والعقل الغربي عموما لأنه يخاطب هذا العقل من ذات الأفق العلمي والنظري والفكري, ويستوعب مفاهيمه ومقولاته ومآثره, رغم أن هذه الميزة التي يستحقها مشروع سعيد النقدي قد تحولت في خطاب بعض المعارضين إلي' سعي لتحسين شروط الهيمنة الإمبريالية علي المنطقة'! كان المفكر الراحل إدوارد سعيد يعي تماما تعدد وتداخل الانتماءات في هويته التي يحملها, فهو الفلسطيني العربي المنتمي للثقافة العربية الإسلامية, ويعيش في قلب الغرب وبالذات في الولاياتالمتحدةالأمريكية, أي منتمي للثقافة الغربية, ولم يقده تعدد هذه الانتماءات إلي إغفال إحداها أو عمل مفاضلة بين هذه الانتماءات, بل لم يجد بينها تعارضا, فحاول شق طريق جديد يجمع بينهما في الإطار المعرفي والوطني والكرامة ودعم وتعزيز الروابط والارتباطات التي تعزز الإنسانية المشتركة التي تنخرط فيها كافة الانتماءات دون إقصاء ودون تمييز, بشرط امتلاك إرادة التحرر وتحرير العقل من الأوهام والتحيزات التي تحول دون الفهم والمراجعة والنقد والتقويم. امتاز الراحل بشجاعة فكرية وسياسية نادرة عبر تقديم إسهاماته النقدية والفكرية واشتبك بدوره مع القضايا التي يؤمن بها والحلول التي رآها ملائمة, ولم يكتفي بالتنظير للواقع أو الحياة الطيبة في الغرب والجامعة التي كان يعمل بها بل زاوج بين النظر والعمل وبين المعرفة وتطلعات الشعوب الخاضعة للتحرر الوطني وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني والقضية التي حمل لواءها في عقر دار الغرب. لمزيد من مقالات د. عبد العليم محمد