ينتمى كتاب «اشتهاء العرب» الصادر بالإنجليزية فى صيف 2007(ترجمة : إيهاب عبد الحميد، دارالشروق،2013) لأستاذ السياسة والفكر العربى الحديث فى جامعة كولومبيا فى نيويورك، جوزيف مسعد، ينتمى إلى تيار أكاديمى يدمج فى إهابه البحثى بين التاريخ والنظرية السياسية والنقد الأدبى والأنثروبولوجيا وتبيان طرائق استخدام التمثيل المتعددة فى ممارسة الهيمنة والتسلط. وهذا المنهج يجمع بين التأويل النصى والنقد الذى يتأسى كثيرًا بريموند وليامز وأنطونيو جرامشى وميشيل فوكو؛ مما ترك أثرًا بالغًا فى حقل الدراسات الإنسانية والاجتماعية عبر ساحاته المختلفة: الأدبية والنسوية والإثنية والثقافية, مؤسسًا لحقل معرفى جديد هو «نظرية الخطاب الكولونيالي» التى تطورت لاحقًا إلى «الدراسات ما بعد الكولونيالية». لهذا يولى هذا التيار الأكاديمى اهتمامًا كبيرًا بالتحليل التاريخى، وبإعادة تشكل الفضاء الاجتماعى بما يتيح استيعاب النقلة التى أدت إلى تكثيف الروابط العالمية المتداخلة، والوعى بماهية الديناميات التى تقود العمليات السياسية والاقتصادية، وعدم التوازن فى علاقات القوة بين الشمال والجنوب، بله تمييزات القوة داخل الشمال العالمى ذاته. وبذلك استطاع د.جوزيف رصد التحولات التى راحت ترهص بميلاد عالم جديد ينهض على الضم والإلحاق والاستيعاب، ورفض الآخر وعدم التعامل معه كندٍّ له ونظير، على النحو الذى عبَّر عنه الأديب الإنجليزى المعروف «راديارد كبلنج» بقوله: الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا»؛ تعبيرًا عن المفارقة الكامنة بين السيطرة والخضوع لإرادة القوى الاستعمارية الغازية، وبين الهوة الثقافية والحضارية القائمة بينهما، ومانجم عنها من سيرورات صنعت تراتبية روَّجت لبعض الأساطير التى تمحورت حول روحانية الشرق وسحره وغرائبيته، وعلمية الغرب وعقلانيته ورسالته التمدينية.
من هنا؛ عنى خطاب جوزيف مسعد بنقد نظريات الاستشراق ومصفوفته المعرفية التى تأسست عليها شبكته المفاهيمية، فى ارتباطها بهيمنة القوى الإمبريالية المطلقة على العالم التى قامت بإعادة تفكيكه وصياغته بما يحقق المرامى والأهداف الاستعمارية المرجوة منه. وبذلك تحول الشرق إلى صورة نمطية مختزلة صيرته جسدًا قادرًا على الإغواء، وبهجة عاطفية لها قدرة التمثيل واختراع الآخر عبر كينونته المغتصَبة وطابعها الإيروتيكى التبسيطى.
غير أن كتاب «اشتهاء العرب» ينتسب إلى الحقل النظرى ذاته الذى انطلق منه إدوارد سعيد فى كتابه ذائع الصيت «الاستشراق» الذى صدر فى صيغته الأصلية الإنجليزية عام 1978، مفجرًا فيه المسكوت عنه على المستوى الفكرى والتحليلى والإيديولوجى فى قضايا الثقافة والحضارة والتاريخ والاستعمار والتحرر منه .. لهذا, يقول جوزيف مسعد: «امتازت كتابات إدوارد سعيد بالدقة فى تناولها للربط بين نتاج المعرفة الأوربية، لاسيما تلك المتعلقة بالإنتاج الأنثروبولوجى للمعرفة فى القرن التاسع عشر ، وبين السلطة الاستعمارية والمشروع الإمبريالي». ويستطرد مسعد موضحًا « كيف أن المستشرقين وصفوا الشرق باعتباره مؤنثًا؛ ثرواته خصبة، ورموزه الأساسية هى المرأة الشهوانية، والحريم، والحاكم المستبد، وإن كان يتميز بالجاذبية فى الوقت ذاته ..كما لاحظ إدوارد سعيد أن عددًا كبيرًا من الكتَّاب المستشرقين، مثل إدوارد لين وجوستاف فلوبير، قد أبدوا أثناء رحلاتهم القصيرة إلى مصر اهتمامًا بالغًا بالعوالم والغلمان الراقصين على الترتيب.»
بيْد أن كتاب «اشتهاء العرب» ينحو إلى الكشف عن حضور الذات فى التاريخ ، وتقديم سردية تنهض على حكاية الذوات الفردية فى تحركها عبر الزمن، وعلاقتها بجسدها ورغباته، وكيف تدرك العالم ونفسها .. أو بتعبير مسعد «فالكتاب إذ يسائل بقوة طبيعة المعرفة والإبستمولوجيا الأنثروبولوجية ومناهجها الكولونيالية ، فإنه يرفض بشدة إخضاع موضوع الشهوة عند العرب لمعطياتها ، بل يقدم تاريخًا فكريًّا للسجال العربى حول تاريخ العرب وكيف تحول إلى تاريخ «حضاري» وتاريخ «ثقافي» وكيف أصبحت شهوات العرب الجنسية مركزية لطبيعتهم «الحضارية» و»الثقافية»، وهنا تكمن أهمية الحجة التى يطرحها الكتاب». الأمر الذى حدا بصاحب الكتاب إلى الاحتفاء بما يدعوه «ميشيل فوكو»ب»المهمش» الذى تتحدد حياته بصورة كبيرة من خلال القيم المضادة لتلك القيم الخاصة بالتيار الاجتماعى السائد ( انظر إلى المثليين، وأتباع الديانات غير التقليدية ، والمهاجرين من ثقافات غير غربية) . لذا حرص مسعد على التأكيد على أن «اشتهاء العرب» «ليس تاريخًا اجتماعيًّا للعرب، وهو بالتأكيد ليس تاريخًا لجنسانيتهم. فالحجج التى يطرحها الكتاب إنما تصر على أن مفهوم «الجنسانية» بحد ذاته هو مفهوم ثقافى غربى وليس مفهومًا عالميًّا، أى أن الحجة لا تقوم على أن «جنسانية» الغربيين تختلف عن»جنسانية» العرب والشعوب الأخرى ، بل على الإصرار بأن «الجنسانية» بحد ذاتها هى مفهوم غربى كولونيالى ثقافى ومؤسساتى لا يمكن تعميمه خارج الغرب ولا اعتباره سمة إنسانية كما يدعى الكثير من مروجيه.»
وهو ما يعنى أن الرسالة غير المعلنة عن إعادة إنتاج الترسيمات المتوارثة للخطاب الغربى من دون تمحيص، تقودنا كما فى زمن الاستعمار، إلى تبنى إيديولوجيا عنصرية لا تنى تمارس التمييز بين الشعوب والأجناس والأقوام؛ فى إشارة إلى التراث الملتبس للأنثروبولوجيا التى تستخدم لخدمة المصالح الغربية بدلًا من أن تقدم مشروعًا إنسانيًّا مشتركًا. لذلك أعان المنظور التحررى الواسع الذى انطلق منه جوزيف مسعد على تناول قضايا الاستشراق الفكرية والسياسية ومعالجة التجارب الإنسانية المتعددة المعبرة عن حقها فى الوجود والحياة بعد أن تعرضت ردحًا من الزمان للطمس والإقصاء، واقتحام موضوعات ظلت أسيرة الرؤى المؤسساتية المحافظة والخطاب السلفى المعاصر، عاملًا على إعادة بناء نصوصها وقراءتها فى ضوء جديد يجلو سياقها وتاريخيتها، ومن ثم تحليل التمثيلات المختلفة للحب والمجون وأخلاقيات الجنس والإيروتيكية والجنوسية، ومدى قدرة الأدب على بناء هويات جنسية بتابوهاتها المرتبطة بها فى المجتمعات العربية الإسلامية، وكيف استطاع النص قلب الصور والمعانى بطريقة «تصبح معها الكتابة تعقيدًا لتبادل اللوجوس بالجنس، ويصبح معه الحديث عن الشبق ممكنًا بصيغة نحوية، وعن اللغة كخلاعة» بتعبير المفكر المغربى الراحل عبد الكبير الخطيبى.
ولعل ما كتبه الدكتور جوزيف مسعد عن الحسن بن هانئ «أبى نؤاس» يكشف عن أنطولوجيا شعرية قارَّة ، تعبر عن ناموسها الخاص العابر للسائد، والمشتبك مع حلمه وتوقه الفاضحيْن للحظته المقموعة. لهذا كله تغدو قراءة «اشتهاء العرب» مساهمة فى استكشاف العالم الذى نعيش فيه، وتحريرًا للإشكاليات الفكرية والروحية والفردية والثقافية مما رَانَ عليها من التباس، وفضحًا لأشكال التحيز والتسلط التى مارستها السرديات الإمبريالية وأرشيفها بحق شعوبنا المضطهدة، وتحفيزًا على إعادة كتابة تاريخ دنيوى عَلمانى يؤمن بالإنسان والحرية والتفاعل، متجاوزًا المفاهيم الجغرافية الزائفة عن «الشرق» و»الغرب» و»أوربا»، مؤكدًا حيوية تحديد الواقع داخل إطار التخيل، بوصفه الشرط الجوهرى لوجودنا الإنسانى من جهة، وللأثر الأدبى والفنى بما فيه العمل النقدى «واشتهاء العرب جزء منه» من جهة أخرى.