المتأمل للمشهد المصري الحالي لابد أن يصاب بالدهشة والحيرة والأسي في آن واحد, جراء ماجري خلال عام منصرم في ظل حكم الإخوان, ومايجري الآن علي أرض المحروسة, بعدما أصبح الارتباك والانفلات والعشوائية حالات يومية سائدة تنخر في عظام أول حضارة عرفها الإنسان. ومبعث الدهشة هنا أن الأجداد المصريين العظماء قد تركوا ودائع نفيسة لأحفادهم في كافة ميادين الحياة, هي كفيلة بصنع حضارة إنسانية جديدة لاتقل عن تلك التي صنعوها ذات يوم هنا علي ضفاف النهر الخالد, قائمة علي الروح والضمير, ومع ذلك فإن الأحفاد يغفلونها عن قصد أو في غيبة من الوعي. نعم لقد ترك الأجداد ودائع' سياسية, اقتصادية, فنية, علمية, قومية, في صورة سير ذاتية تتسم بالفتوة لزمن مضي, نابعة من جوهر الروح المصرية التواقة للمجد, صانعة الحضارة التي أذهلت البشرية ببريقها الأخاذ, وزلزلزت بطولاتهم كيان العدو قبل الصديق جراء ما ابتكروه من فنون الحرب والقتال بشرف العسكرية المصرية التي تبدو آثارها واضحة جلية في جيش مصر الآن. وتوالت الودائع من عصر' أحمس ومينا ورمسيس' وصولا لعصرنا الحديث, حيث كان المودع الأول هو محمد علي باشا, الذي بني مجد مصر الحديثة اعتمادا علي استراتيجية الجمعية العلمية المصرية الفرنسية, التي عقدت إبان الاحتلال الفرنسي لمصر نهاية القرن الثامن عشر, وتحديدا عام1798, لتكون وديعته الأولي لنا اسمها' رفاعة رافع الطهطاوي', صاحب' تخليص الإبريز في تلخيص باريز', ومن بعده تتوالي الودائع مثل' علي مبارك الذي وضع أسس العلم والتعليم والفكر جنبا إلي جنب مع أحمد عرابي رمز القوة والوطنية في صحيفة الشرف والفخار. وفي استعراض ودائع مصر النفيسة, يأتيك مؤسس المسرح' يعقوب صنوع-1865', وها هو محمد عبده يطل علينا من بوابة التنويرفي نهاية القرن التاسع عشر, ويضع أمام أعيننا, وفي رقابنا رؤية ناضجة ومتقدمة للشكل العقائدي الصحيح, دون النظر إلي التخوفات والمحظورات البشرية التي وضعت أمام الإنسان بعض عراقيل العبادة, فضلا عن آثاره العظيمة في البحث العلمي والرؤية العصرية الوسطية للقرآن الكريم. وبعد عام من الإخوان نتساءل الآن: هل وعي هؤلاء رسالة قاسم أمين, وأدركوا قيمة الوديعة التي أودعها إياهم ؟, أظن لا, وهل علموا أن مصر كانت في صفوة الدول التي بدأت السينما في نهاية القرن التاسع عشر, وتحديدا عام1896, مع فرنسا وأمريكا, ثم احترافوا العمل السينمائي في مصر بداية من عام1909, علي يد' ريكاردو فريدا' وتجديدا في24 فبراير من هذا العام. وهل علموا أن المسرح الاستعراضي الغنائي بدأ في مصرعام1910, علي يد فرقة' سلامة وأبيض' نسبة إلي جورج أبيض رجل المسرح, والموسيقي لسلامة حجازي, ومن بعدهم جاء فنانون عظام بنوا حضارة مسرحية أذعلت الشرق والغرب, كيوسف وهبي وزكي طليمات عام1953, حال عودة يوسف وهبي من الخارج. هل علموا أنه كانت هناك ثورة حقيقية مصرية عام1919, وهل علموا أن سيد درويش, كان أحد مشعلي هذه الثورة, عندما استقبل سعد زغلول عائد من منفاه بأغنيته الشهيرة' يابلح زغلول ياحلو يابلح', حتي لايظهر للمستعمر الإنجليزي أنه يرحب بسعد زغلول زعيم الوطنية في هذا الوطن, وإلي الآن, ويعلمنا درسا في الذكاء الوطني, وأن مصر عرفت أول مجلس نواب عام1923, وأن الوفد بزعامة سعد زغلول كانت له الأغلبية. هل يعرف الأحفاد المصريون أنه كان هناك اقتصادا مصريا وطنيا خالصا, ولد في عام1920 علي يد الاقتصادي المصري طلعت حرب, الذي بدأ بناء بنك مصر وشركاته بمنتهي الوطنية والجرأة, وبني شركة مصر للتمثيل والسينما عام1934, كصناعة استراتيجية ليس لمصر وحدها بل للعالم العرب. هل علموا أن ميراث الحضارة ولد لنا أدباء ومفكرين أثروا الحياة الأدبية والفكرية مثل محمد حسين هيكل, ومصطفي المنفلوطي وقد ظهرجيل عظيم من بعدهم أمثال نجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي, وغيرهم كثيرين. وفي لوحة ودائع الشرف العلمي والوطني تتجسد الأساطير حول' علي مصطفي مشرفة ونبوية موسي', وفلاسفة مصر ومفكريها أمثال' زكي نجيب محمود, محمد عبد القادر المازني, سلامة موسي, لطفي السيد, طه حسين والعقاد'. الأمر المؤكد أن شعورا عاما لدي المصريين الآن- بعدما تخلصوا من نظام الإخوان- بإدراك ما خلفه' أحمد شوقي حافظ إبراهيم, أحمد رامي, محمد عبد الوهاب, أم كلثوم, عبد الحليم, رياض السنباطي, ويوسف شاهين وصلاح أبوسيف' من دفقات شعورية ماتزال تروي شجرة الحياة المصرية, في زمن الاغتراب الحالي. واليوم يولد جيل جديد علم العالم أسس جديدة في الديمقراطية الحديثة عبر ثورتي'25 يناير-30 يونيو' حين أدخل مصطلحا جديدا في السياسة يسجل باسم المصريين هو' سلطة الشعب', وهو مايشير أن ودائع مصر ماتزال راسخة بقيمها الأصيلة في الضمير الجمعي, وتشير الدلائل أن المصريين سوف يثرون الحياة الأدبية والفلسفية والعلمية والفنية من جديد. فيا أبناء القرن الواحد وعشرين, أنتم تولدون الآن وستكنون كما كان العظماء, من الأجداد إذا أدركتم قيمة الوديعة التي وضعوها في بنك التاريخ والحضارة, وديعة سياسية ثقافية علمية, أدبية, اقتصادية, فلسفية, وكذلك ودائع سينمائية مسرحية غنائية, ويعلو فوق كل ذلك غطاء أخلاقي ديني وسطي, يمكن أن يحدد لكم معالم الطريق الذي انحرف عن مساره الطبيعي والمعتاد لدي المصريين بعد عام من حكم الإخوان.