فى صبيحة السبت الموافق الثامن والعشرين من يونيو سنة 1930، نشرت «السياسة الأسبوعية» التى كان يرأس تحريرها محمد حسين هيكل «بيانا» بعنوان «دعوة إلى خلق أدب قومى» وتشير الصفة «قومى» إلى «الوطنى» فى هذا السياق، فلم تكن الكلمة اكتسبت الدلالة العروبية الشاملة بعد، وإنما كانت محصورة فى البعد القطرى الذى يقتصر على الوطن المصرى فحسب، والموقعون على البيان، هم محمد زكى عبدالقادر، ومحمد الأسمر، ومحمود عزت موسى، ومحمد أمين حسونة، وزكريا عبده، ومعاوية محمد نور ويلفت الانتباه، فى هذه الأسماء، أولا، أنها مصرية المولد والمربى، فيما عدا معاوية محمد نور (1909-1941) السودانى المنتسب إلى وحدة «وادى النيل» الواصلة بين مصر والسودان تاريخيا، وكان عبقرية أدبية استثنائية، كتب النقد الأدبى والقصة القصيرة، وأحسبه أول من قام بالتعريف بالشاعر والناقد الإنجليزى ت إس إليوت، وتولى التعريف بنتاجه الإبداعى، فى سياق دعوته الباكرة إلى الحداثة، وذلك قبل موته الباكر، أما محمد زكى عبدالقادر (19081983) الذى امتد عمره، وتكاثرت كتاباته ومجموعاته القصصية، فقد كان سكرتير تحرير «السياسة الأسبوعية» وقت صدور البيان، وكان موقعه من رئيس التحرير، هيكل، موقع التلميذ من الأستاذ وقد ترك «السياسة الأسبوعية» بعد عام من صدور البيان، حيث أنشأ مجلة «الفصول» عام 1931، وقد تولى تحريرها بعد الحرب العالمية الثانية (1945) أحمد بهاء الدين ومجموعة من الشباب الجدد مثل فتحى غانم وعبدالرحمن الشرقاوى وبدرالديب ويوسف الشارونى وتنقل بعد ذلك ما بين «الأهرام» و«الأخبار» التى رأس تحريرها لفترة ويبدو أن انشغاله بالصحافة جعله يتأخر فى نشر لوحاته القصصية ورواياته، رغم أنه أصدر روايتين وهو طالب، توقف بعدهما عن كتابة الرواية التى استأنف جهده فيها مع الستينيات التى أصدر فيها كتابه «محنة الدستور» أما بقية الأسماء فكانت من «الناشئة الأدبية الجديدة» التى كانت تمثل الموجة الثالثة من موجات الدعوة المتعاقبة إلى «الأدب القومى» وإذا كان هيكل الذى استجاب أقرانه إلى دعوته، وشاركوا فى صياغتها بمعنى أو آخر، فى انتسابهم إلى الموجة الأولى التى ولد أفرادها فى ثمانينيات القرن التاسع عشر، فإن الموجة الثانية التى ينتسب ممثلوها إلى تسعينيات القرن نفسه، أضافت إلى الدعوة، تنظيرا وتطبيقا، مثلما فعل محمد تيمور (1892-1921) الذى اختطفه الموت شابا، وأحمد رامى (18921978) وأحمد زكى أبوشادى (18921955) رئيس جماعة «أبوللو» وبديع خيرى (18931966) ومحمد فريد أبوحديد (18931867) ومحمود تيمور (1894-1973) وأحمد خيرى سعيد (1894-1962) ومحمود طاهر لاشين (1894-1954) الذى أورث نجيب محفوظ الاهتمام بتمزق أبناء الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى بين الطبقة الارستقراطية والشرائح الدنيا من المجتمع، وذلك بروايته الرائدة «حواء بلا آدم» (1934) وأضيف إلى هؤلاء أمين الخولى (18951966) وكامل كيلانى (18971959) وتوفيق الحكيم (18981987) وعيسى عبيد (18981922) الذى اختطفه الموت مبكرا، تاركا شقيقه شحاتة الذى سرعان ما هجر فن القصة، بعد صدمة وفاة أخيه الذى اغتال الموت شبابه وبقدر ما أسهم هؤلاء فى صياغة الموجة الثانية من دعوة الأدب القومى، وأضافوا إلى هيكل ومجايليه، نظرا وتطبيقا، فقد كانوا، بدورهم، تمهيدا لأبناء الموجة الثالثة التى انتسب إليها الموقعون على البيان، ويمكن أن نضيف إليهم، فى رابطة الانتساب نفسها حسين فوزى (1900-1988) وإبراهيم المصرى (1900-1979) ويحيى حقى (1905-1992) وعبداللطيف حمزة (19071970) وعبدالحميد يونس (19101989) الذى تخصص فى الأدب الشعبى، مؤسسا الاهتمام بدراسته التى ينهض بها تلامذته وكان ذلك فى السياق الذى أسهم فيه أحمد رشدى صالح (19201980) بكتابه «الأدب الشعبى» (1955) وألحق به «فنون الأدب الشعبى» (1956) و«الفنون الشعبية» (1960) إلخ.. ويأتى بعد عبدالحميد يونس صاحبه نجيب محفوظ (19112006) الذى كان فى الثامنة من عمره عندما رأى مظاهرات الثورة التى ظل منطويا على مبادئها إلى أن مات وأضيف لويس عوض (19141989) وغيره من الذين وصلوا بدعوة «الأدب القومى» إلى ذروتها، قبل انكسارها، فى دعوتها الوطنية الإقليمية، مع صعود موجات المد القومى ودعوات القومية العربية التى كان أبرز من دعا إليها وهاجم الدعوة الإقليمية فى دراسة الأدب العربى هو ساطع الحصرى (18791968). المهم، أن الموقعين على البيان شعروا بالحاجة إلى ضرورة الإعلان عن دعوتهم إلى «خلق الأدب القومى» الوطنى وكان ذلك نتيجة تصورهم أن هذا الأدب لم يحقق الغاية التى أرادها دعاته الأوائل، مثل هيكل، رئيس تحرير الجريدة التى نشرت بيانهم الذى اشترك فى تحريره سكرتير تحريرها محمد زكى عبدالقادر وقد اتبع الأستاذ محمد أمين حسونة أحد الموقعين البيان بمقال ضافٍ، عنوانه «فى سبيل الدعوة إلى الأدب القومى ضرورة التحرر من إسار كل قيد يعوقه» ونشر المقال فى عدد «السياسة الأسبوعية» الصادر فى صباح السبت التاسع عشر من يوليو سنة 1930. وكان المقال، كالبيان، ينطلق من دفقة جديدة، معبرة عن حماسة جيل أجد، أراد تأكيد وتوسيع الدعوة التى نهض بها أساتذتهم، مدركا أن ما كتبوه يحتاج إلى المزيد من الدعم، فى سياق ثقافى، كان لا يزال متأبيا على الدعوة، خصوصا فى بعض قطاعاته وطوائفه. وكانت الفكرة الاستهلالية، هى تجديد الدعوة بضرورة خلق أدب قومى، مستقل عن الشعوب الشرقية الناطقة بلغة الضاد، وهو استهلال كان يعنى تأكيد الدعوة إلى عدم ضرورة ارتباط الأدب المصرى بغيره من آداب الدول الإسلامية أو العربية التى كانت قد أخذت تجمعها تسمية «الرابطة الشرقية» وكان استقلال الأدب المصرى، فى هذا السياق، تأكيدا لخصوصيته التى تستند إلى تاريخ طويل، متعامد على مكان متعين، تفرض خصوصية كليهما رفض تقليد التراث العربى القديم، والكتابة فى المدى الذى تسمح به تقاليده التى أنتجت أمثال مصطفى صادق الرافعى الذى عدّ زعيم المدرسة القديمة فى الكتابة الأدبية شعرا ونثرا، شأنه فى ذلك شأن المنفلوطى وأمثاله وفى الوقت نفسه، تأكيدا لرفض تقليد الأدب الغربى فى الكتابة، وما يلزم عن هذا التقليد من اقتباس أو تمصير أو تعريب، يجعل من «ترتوف» موليير «الشيخ متلوف» ومن «مغامرات تليماك» «مواقع الأفلاك فى وقائع تليماك» وكانت الأصالة قرينة المعاصرة المرادفة للجدة فى هذا المجال ولكن هذه الأصالة لم تكن تمنع الإفادة من أدب الشرق أو الغرب، لكن بما يؤكد الرؤية الجديدة للواقع المصرى المتعين، وتجديد عدسات الرؤية الأدبية فى كل شىء. ويتبع هذه الفكرة ما يلزم عنها من ضرورة تجديد اللغة العربية وأساليبها تجديدا جذريا، وذلك بما يؤكد طابعها المحلى ولا يعنى ذلك الدعوة إلى استخدام العامية وإلغاء الفصحى، وإنما تأكيد الفصحى التى تنبنى على خصائص محلية، فاللغة العربية ليست لغة شعب، وإنما لغة شعوب وأمم عدة تنطق بها، ولذلك فالحاجة ماسة إلى تقريب هذه اللغة من خواطرنا وعاداتنا، ففى ذلك السبيل الأول لخلق لغة أدب محلى، تكون لنا غيرة وحمية عليه، ويكون استقلاله بعيدا عن كل المؤثرات التى تباعد بين لغة الأدب والوسط الطبيعى الاجتماعى الذى تنطلق منه تأثرا، وتعود إليه تأثيرا وتوجيها، ولذلك لابد أن تكون منه وإليه، وإلا ما كان الأدب صورة للحياة التى نجتازها والمرئيات التى نألفها والحوادث التى تقع تحت أبصارنا كل ساعة «فهل نعجز عن أن نصور حياتنا بما يتفق وما للأدب من روعة وجلال له أعمق تأثير فى نفس الشعب؟» ولا يعنى ذلك، بالضرورة، استبدال العامية بالفصحى، أو انقسام الفصحى إلى لهجات تتحول، بدورها، إلى لغات، كما حدث فى أوروبا، وإنما مراعاة الخصائص التى ينعكس بها الوسط الطبيعى الاجتماعى المصرى على لغة أدبية، حتى لو اضطر هذا الأدب، فى مسرحه وقصه، إلى الاستعانة بالعامية فى المواضع التى تقتضيها وإذا كانت الروح المصرية قد تحققت فى كتابة البلاغة، كما ذهب أمين الخولى فى تمييزه بين بلاغة الذوق المصرية، مثل بلاغة بهاء الدين السبكى المضادة لبلاغة المنطق الجافة عند أمثال السكاكى، أو مثل شعر الطبع السهل المتدفق فى سلاسة ورونق كشعر البهاء زهير الذى درسه مصطفى عبدالرازق، مؤكدا أن هذا الشاعر نفخت فيه مصر من روحها فأصبح مصريا فى عواطفه، وفى ذوقه، وفى لهجته إلى الغاية القصوى وبالقياس نفسه، لابد أن تكون لغة الأدب القومى الوطنى لغة محلية، تنتسب إلى الفصحى حقا، لكنها أكثر انتسابا إلى المحلية فى عواطفها وذوقها المصرى ولهجتها على السواء. وإذا كان الأدب القومى، فى محليته المصرية، لا يفارق تضاريس المكان، ولا البيئة المنبسطة التى يتوسطها نهر النيل فيروى الأرض الطينية الخصبة التى لا تعرف الجبال ولا الضباب الكثيف، وإنما الوضوح الشمسى الذى ينفر من الغموض والتعقيد الفلسفى، ولا يميل إلى كل ما هو سلس، واضح، سهل ممتنع، فإن هذا الأدب لا يفارق تاريخه المتعامد على وسطه الطبيعى الاجتماعى يقصد أصحاب «البيان» إلى ضرورة أن يولوا إبداعهم شطر الأدب الفرعونى قبل كل شىء، فهو تراث الآباء والأجداد، وهو الوديعة التى لا يزال لها أعمق التأثير فى التقاليد المتطاولة التى تنطوى عليها نفوس الشعب وقل الأمر نفسه عن الأدب المسرحى و«ضرورة إيجاد مسرح محلى، تغذيه روايات مصرية، حتى يكون مدرسة الشعب حقا، يتلقى عنها أجدى دروس الحياة وأنفعها، ثم لا ننسى الشعر وتهذيبه، وجعله أقرب إلى ذوق القراء، وإلى أن يتلمسوا حساسيته وروحانيته، ثم الأناشيد» وإذا فرغنا من ذلك، كان علينا، فيما يقول كاتبو البيان، أن نتجه بأنظارنا إلى الأدب العربى القديم، وضرورة دراسته على نحو جديد «فعار علينا أن يهتم أبناء الغرب المستشرقون بذلك، ونحن لا نزال غارقين فى رجعيتنا ومحافظتنا على القديم» وكما يعنى ذلك إحداث تجديد جذرى فى مناهج الدرس الأدبى للتراث القديم وتحريرها من كل قيد، مهما كان اسمه أو صفته، فإنه يعنى بالقدر نفسه الاقتصاد فى اللغة، وطرح زخارفها إلى الأبد، وأن يخرج الخطاب الأدبى، مباشرا، من القلب ليصل إلى كل القلوب. ويصل البيان، فى خاتمته، عندما يؤكد أنه يتوجه بالدعوة إلى أقران الموقعين عليه من الشباب، يرجون إسهامهم فى مناقشة الدعوة والتوسيع من أفقها، سواء بالنقد أو الالتحاق بالمجموعة التى قررت أن تكون جماعة تنتمى إلى مبادئ «الأدب القومى» والعمل على نشرها وتأصيلها وقد أضاف محمد أمين حسونة، فى مقاله، نقطة إشكالية، عندما أكّد أن من عوائق تقدم الأدب القومى الوطنى، المحلى الاعتماد على آداب الغرب والإعجاب بها ونقلها إلى لغتنا، فكثرة الترجمة قد تؤدى إلى كثرة التقليد، فى أدب يتطلع إلى الاستقلال التام فى تعبيره عن خصوصيته الوطنية والحق أنه لا خوف على أى أدب من الترجمة، فهى تثرى الوعى بتجارب موازية، ليس الهدف من الإكثار منها التقليد، وإنما توسيع الأفق المعرفى الذى يعين، بطرائق غير مباشرة، على الابتكار الذى لا يخلق من العدم، وإنما من كل ما يطلع عليه الأديب، ويحسن تمثله، وامتصاص رحيقه، كى يخرج من ذلك كله، كما يفعل النحل، رحيقا أدبيا يجمع بين الأصالة التى يتجذر بها فى وسطه الطبيعى والاجتماعى، والمعاصرة التى ينفتح بها على تجارب الدنيا التى يعيش فيها، دون أن يفقد، لحظة واحدة، إحساسه بهويته وخصوصيته فى آن. ولا يخرج مقال محمد أمين حسونة على الأفق العام للبيان سوى بإضافة هذه النقطة الإشكالية، رغم أنه كان من المشتغلين بالترجمة، وقد قرأت له ترجمة ديوان بودلير «أزهار الشر»، وغيرها من الترجمات العديدة التى تركها بعد موته فى الخمسينيات من القرن الماضى أما بقية الأفكار فإنه يضيف، إلى بيانه مع رفاقه، أمرين أولهما دفع الوهم الذى وقع فيه البعض من أن الجماعة تعادى اللغة العربية، والأمر الثانى الهجوم على الأدباء الكبار الذين ظلوا محافظين فى قضية اللغة، ويرفضون قصف رقبة البلاغة وهو أمر ينبغى أن نضعه فى سياق الاختلاف حول اللغة بين المجددين من أمثال هيكل وطه حسين من ناحية ومصطفى صادق الرافعى من ناحية مقابلة، فضلا عن الخلاف اللاحق بين جماعة «الديوان» عباس العقاد وإبراهيم المازنى وعبدالرحمن شكرى وجماعة المهجر الشمالى، وعلى رأسهم ميخائيل نعيمة، فالمهجريون كانوا أكثر تحررا وتسامحا فى اللغة، حتى لو خرج شاعر مثل جبران على أقيستها الصرفية، بينما كان العقاد، ممثلا لأقرانه، أكثر تشددا من المهجريين، رافضا قصف رقبة اللغة وكان ذلك فى سياق اختلاف مشابه، مع بعض الاحتراس بين طه حسين الذى كان يتهم صديقه هيكل بالتساهل فى التعبير اللغوى، بينما كان هيكل يتهم طه حسين بأنه لم يتخلص من أزهريته ويبدو أن علينا ملاحظة أن محمد أمين حسونة وأقرانه كانوا أكثر انتسابا إلى القرن العشرين الذى ولدوا ما بين عقده الأول والثانى فى مقابل أساتذتهم الذين ولدوا فى ثمانينيات وتسعينيات القرن التاسع عشر، ولذلك كانوا أكثر ثورية من جيل الأساتذة، ومن ثم أكثر تحررا من التقاليد التى ظلت آثارها ماثلة فى فكر الأساتذة ولا أدل على ذلك من التمايز بين الجيل الأجد والجيل الجديد السابق عليه، فى مدى ما يسميه محمد أمين حسونة «تحرير الأفكار وإطلاقها من إسار كل قيد يعوق إنتاجها فيما يختص بخلق هذا الأدب، وأهم هذه القيود هى ثروة اللغة اللفظية» فضلا عن «رجعية الفكر». ولكن المؤكد أن هذا الجيل الأجد ما كان ينكر فضل الجيل الجديد السابق، ولا المعارك التى خاضها لكى يفتح للقادمين أفقا أوسع من الحرية الفكرية والإبداعية، وقد ظل هذا الأفق مستمرا بقوة الدفع التى أوجدتها ثورة 1919 أعنى هذه القوة التى كانت وراء ما كتبه هيكل فى الجريدة التى رأس تحريرها، قبل خمس سنوات من نشر هذا البيان حين اشتكى، فى مقال له بعنوان «الأدب القومى» (نشر فى الثامن عشر من مارس سنة 1925) قائلا «إنك لتدهش حين ترى جامعتنا المصرية تلقى فيها دروس الأدب القومى والحديث للأوروبيين والعرب، ثم لا يلقى فيها درس واحد عن الأدب المصرى القديم والحديث؟ ولا يلقى فيها درس واحد عن التطور الفكرى فى مصر، وكيف تمثل ما ورد عليه من حضارات الشرق والغرب التى وردت عليه، وهل خلع عليها حلة من القومية المصرية بتاريخها القديم وبطبيعتها المتسعة، وبسمائها الصفو، وبما يمتاز به أهلها من رقة الخلق وظرف وكياسة؟ أم أن هذه الحضارة بقيت غير مهضومة حتى مرّت وحل محلها غيرها؟ ندهش لذلك حقا، فإن هذه الدراسة تعتبر فى كل الأمم المتحضرة أساسا من الأسس القومية التى يجب أن تمتلئ بها نفس أبناء الوطن لتزداد بينهم روابط الولاء لوطنهم». وقد أثبت التاريخ استجابة عدد لا بأس به إلى الدعاة الأجد «إلى خلق الأدب القومى» وتشكلت «جماعة الأدب القومى» التى تبنتها «السياسة الأسبوعية»، وتتابعت المقالات بتوقيع أعضاء الجماعة الذين كانوا يبدون فخورين بانتسابهم إليها، فى سياق الانتماء إلى القومية المصرية أما الدعوة الأصلية التى أطلقها هيكل، فلم تتحقق إلا بعد أن أصبح هو وزيرا للمعارف العمومية، فى وزارة محمد محمود باشا، فتذكر دعوته القديمة، أو ذكّره رفاقه الجامعيون بها، فأوعز إلى كلية الآداب، أيام صديقه طه حسين، أن تتقدم إلى الجامعة للموافقة على رغبتها فى إنشاء كرسى جديد، فى قسم اللغة العربية، للأدب المصرى. ووافقت الجامعة التى شعرت بتعاطف رئيسها الأعلى مع الفكرة، ولم يغب عن فطنة مجلسها أنه من أهم دعاة قيام الجامعة بدورها فى تخصيص درس لتدريس الأدب القومى، وإتاحة السبيل للمزيد من الدراسات المتخصصة فيه وبناء على ذلك تقدمت الجامعة إلى الوزير، استجابة لرغبة كلية الآداب، بطلب إنشاء كرسى جديد فى قسم اللغة العربية للأدب المصرى وقام هيكل وزير المعارف العمومية بإعداد مذكرة بإنشاء الكرسى فى الثالث والعشرين من أبريل سنة 1939. وكانت النتيجة أن صدر فى الخامس والعشرين من أبريل فى السنة نفسها مرسوم ملكى من فاروق الأول ملك مصر والسودان إلى محمد محمود باشا رئيس مجلس الوزراء بإنشاء كرسى خاص للأدب المصرى الإسلامى بكلية الآداب بالجامعة المصرية وتم إبلاغ الجامعة بالمرسوم الملكى لتنفيذه، فتحقق حلم هيكل القديم وتقرر نتيجة ذلك نقل صديق هيكل وطه حسين، أحمد أمين، من كرسى الأدب العربى إلى كرسى الأدب المصرى، وترقية عبدالوهاب عزّام الأستاذ المساعد إلى أستاذ الأدب العربى هكذا، أصبح أحمد أمين الذى كان متعاطفا مع دعوة الاهتمام بالأدب القومى منذ البداية أول أستاذ يشغل كرسى الأدب المصرى، وظل فيه إلى أن وصل أمين الخولى إلى المرتبة الجامعية التى تؤهله لشغل الكرسى، فشغله سنة 1942 وتولى تدريس الأدب المصرى الذى أصدر عنه كتابه فى السنة التالية (1943) من مطبعة الاعتماد بالقاهرة وطلب أمين الخولى، كعادته، من أحد تلامذته كتابة مقدمة للكتاب الذى أسماه «أمالى» على طريقة القدماء، فتولى ذلك تلميذه عبدالحميد يونس الذى كان أحد «الأمناء» الذين التفوا حول شيخهم أمين الخولى الذى ترك أعمق التأثير فيهم، خصوصا شكرى عياد (19211999) الذى مضى فى أثر أستاذه فاختص بدراسة البلاغة والتفسير والنقد الأدبى وكان من الطبيعى أن يبدأ الخولى كتابه بدفع اتهام بعض دعاة القومية العربية لدعوة «الأدب القومى» بأنها دعوة إقليمية، تختزل معنى «القومية» فى الوطنية، وتستبدل بالدعوة إلى القومية العربية القومية المصرية وكان أهم هؤلاء ساطع الحصرى (18791968) أبرز دعاة القومية العربية تأليفا، وأول مدير لمعهد البحوث والدراسات العربية فى القاهرة سنة 1953. ويبدو أن الانتباه إلى عدم فصل مصر عن محيطها العربى، هو الذى دفع مكرم عبيد (18891961) إلى الاهتمام بتأكيد العلاقات القومية التى تصل بين مصر وشقيقاتها من الدول العربية، فى رابطة العروبة، وذلك تعبيرا عن جناح من «الوفد» بهذه القضية، فقد كان مكرم عبيد من أكثر المقربين إلى سعد زغلول طوال حياته، وسكرتير عام الوفد بعد مماته وهو أمر يوضحه صديقى مصطفى الفقى فى كتابه «الأقباط فى السياسة المصرية» حين يذكر أن مكرم عبيد زار سوريا ولبنان وفلسطين سنة 1931، وعكست زياراته بعدا جديدا فى الموقف الوفدى تجاه مسألة العروبة، وألقى عدة خطب فى بيروت ودمشق وشتورا والقدس وعكا وحيفا، أثار فيها فكرة أن دعوة «الفرعونية» التى رددتها بعض الاتجاهات الوطنية المصرية، ليست دعوة لفصل مصر عن الدول العربية الأخرى، مؤكدا أنه لا تناقض بين الوطنية المصرية والقومية العربية، فالعلاقة بينهما هى علاقة الجزء بالكل، فى الدافع إلى الحرية والاستقلال وقد استخدم تعبير «الجامعة العربية» قبل إنشاء منظمتها بأعوام قليلة، تاركا استكمال الجهد الفكرى والتنفيذى لزميله عبدالرحمن عزام (18931976) ولكن ذلك كله لم يمنع عددا من أعلام الفكر القومى العربى من إساءة الظن بما رأوه تطرفا فى الدعوة إلى ما سموه «النظرية الإقليمية فى دراسة الأدب» أو «الأدب القومى» الذى جعل منه بعض المتحمسين له تعبيرا إبداعيا عن «القومية المصرية» ولذلك لم يكن أمام أمين الخولى مفر من تجلية هذا الالتباس فى القسم الأول من كتابه «فى الأدب المصرى».