وزير الأوقاف ومحافظ جنوب سيناء يفتتحان أعمال تطوير مسجد الصحابة بشرم الشيخ    عيار 21 يعود لسابق عهده.. أسعار الذهب اليوم السبت 20 إبريل بالصاغة بعد الارتفاع الجديد    كوريا الشمالية تطلق نوعا جديدا من الصواريخ وتختبر "رأسا حربيا كبيرا جدا"    كانسيلو يعلق على خروج برشلونة من تشامبيونزليج وآخر الاستعدادات لمواجهة ريال مدريد    أسماء ضحايا حادث تصادم سيارتين وتوك توك بطريق المنصورة بالدقهلية    آمال ماهر تشدو برائعة كوكب الشرق"ألف ليلة وليلة "والجمهور يرفض انتهاء الحفل (فيديو)    طريقة عمل تارت الجيلي للشيف نجلاء الشرشابي    ميدو يكشف احتياجات الزمالك في الميركاتو الصيفي    اندلاع مواجهات عنيفة مع قوات الاحتلال في بلدة بيت فوريك شرق نابلس    سفيرة البحرين بالقاهرة: زيارة الملك حمد لمصر تأكيد على التكامل الإستراتيجي ووحدة الصف بين البلدين    ابسط يا عم هتاكل فسيخ ورنجة براحتك.. موعد شم النسيم لعام 2024    داعية إسلامي: خدمة الزوج والأولاد ليست واجبة على الزوجة    تخفيف الأحمال فى «أسبوع الآلام»    نشرة منتصف الليل| الأرصاد تكشف موعد الموجة الحارة.. وهذه ملامح حركة المحافظين المرتقبة    300 جنيها .. مفاجأة حول أسعار أنابيب الغاز والبنزين في مصر    تجليس نيافة الأنبا توماس على دير "العذراء" بالبهنسا.. صور    بجوائز 2 مليون جنيه.. إطلاق مسابقة " الخطيب المفوه " للشباب والنشء    3 إعفاءات للأشخاص ذوي الإعاقة في القانون، تعرف عليها    انفجار في قاعدة كالسوم في بابل العراقية تسبب في قتل شخص وإصابة آخرين    العميد سمير راغب: اقتحام إسرائيل لرفح أصبح حتميًا    كوريا الشمالية تختبر صاروخا جديدا للدفاع الجوي    إيران تصف الفيتو الأمريكي ضد عضوية فلسطين في الأمم المتحدة ب"اللا مسؤول"    بصور قديمة.. شيريهان تنعي الفنان الراحل صلاح السعدني    حزب "المصريين" يكرم 200 طفل في مسابقة «معًا نصوم» بالبحر الأحمر    الخطيب ولبيب في حفل زفاف "شريف" نجل أشرف قاسم (صور)    سيف الدين الجزيري: مباراة دريمز الغاني المقبلة صعبة    ملف رياضة مصراوي.. إغماء لاعب المقاولون.. رسالة شوبير.. وتشكيل الأهلي المتوقع    يوفنتوس يواصل فقد النقاط بالتعادل مع كالياري.. ولاتسيو يفوز على جنوى    دوري أدنوك للمحترفين.. 6 مباريات مرتقبة في الجولة 20    صفقة المانية تنعش خزائن باريس سان جيرمان    منير أديب: أغلب التنظيمات المسلحة خرجت من رحم جماعة الإخوان الإرهابية.. فيديو    حالة الطقس اليوم.. حار نهارًا والعظمى في القاهرة 33 درجة    أهالى شبرا الخيمة يشيعون جثمان الطفل المعثور على جثته بشقة ..صور    فحص السيارات وتجديد الرخصة.. ماهى خدمات وحدات المرور المميزة فى المولات    "محكمة ميتا" تنظر في قضيتين بشأن صور إباحية مزيفة لنساء مشهورات    حريق هائل بمخزن كاوتش بقرية السنباط بالفيوم    وزارة الداخلية تكرم عددا من الضباط بمحافظة أسوان    تعرف على موعد انخفاض سعر الخبز.. الحكومة أظهرت "العين الحمراء" للمخابز    GranCabrio Spyder| سيارة رياضية فاخرة من Maserati    إياد نصار: لا أحب مسلسلات «البان آراب».. وسعيد بنجاح "صلة رحم"    يسرا: فرحانة إني عملت «شقو».. ودوري مليان شر| فيديو    نسرين أسامة أنور عكاشة: كان هناك توافق بين والدى والراحل صلاح السعدني    انطلاق حفل الفرقة الألمانية keinemusik بأهرامات الجيزة    بعد اتهامه بالكفر.. خالد منتصر يكشف حقيقة تصريحاته حول منع شرب ماء زمزم    بفستان لافت| ياسمين صبري تبهر متابعيها بهذه الإطلالة    هل يتم استثناء العاصمة الإدارية من تخفيف الأحمال.. الحكومة توضح    أعظم الذكر أجرًا.. احرص عليه في هذه الأوقات المحددة    أدعية الرزق: أهميتها وفوائدها وكيفية استخدامها في الحياة اليومية    رسميا.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم السبت 20 إبريل 2024 بعد الانخفاض الأخير    آلام العظام: أسبابها وكيفية الوقاية منها    عمرو أديب يطالب يكشف أسباب بيع طائرات «مصر للطيران» (فيديو)    باحث عن اعترافات متحدث الإخوان باستخدام العنف: «ليست جديدة»    عاجل - فصائل عراقية تعلن استهداف قاعدة عوبدا الجوية التابعة لجيش الاحتلال بالمسيرات    مرض القدم السكري: الأعراض والعلاج والوقاية    متلازمة القولون العصبي: الأسباب والوقاية منه    «هترجع زي الأول».. حسام موافي يكشف عن حل سحري للتخلص من البطن السفلية    50 دعاء في يوم الجمعة.. متى تكون الساعة المستجابة    نصبت الموازين ونشرت الدواوين.. خطيب المسجد الحرام: عبادة الله حق واجب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تأسيس أدب وطنى
نشر في الشروق الجديد يوم 02 - 07 - 2009

كان من الطبيعى أن يشعر أدباء ثورة 1919 بأزمة هوية ثقافية، وأعنى بهم أولئك الذين ولدوا ما بين ثمانينيات وتسعينيات القرن التاسع عشر واكتمل نضجهم مع لهيب الثورة التى فتحت أمامهم عوالم لم تكن مفتوحة من قبل، فأدركوا أنهم جاوزوا أفق التقليد للقديم، وأنه ما عاد مسموحا لهم بمحاكاة قدماء الشعراء والناثرين على السواء، خصوصا بعد أن عملوا على استنباط أنواع أدبية جديدة فى التربة الثقافية العربية كالرواية والقصة القصيرة، والمسرح والأوبريت، والأغنية الجديدة، والسينما وغيرها من الفنون التى تزايدت أعداد المستقبلين لها، وتنوعت فئاتهم العمرية والاجتماعية والجنسية، وكان إنجازهم فى إبداع الأنواع الأدبية والفنية الجديدة موازيا للترجمة التى أتاحت للقراء أن يروا العالم المتقدم من منظور جديد، يزيدهم بحثا عن الطاقات الخلاقة داخلهم وحولهم وبقدر ما انقطع أدباء هذا الجيل الجديد عن محاكاة القديم، ومضوا فى الثورة عليه إلى النهاية، كانوا يدركون أنهم لا ينبغى أن يستبدلوا محاكاة بمحاكاة، وأن إعجابهم بالتقدم الأوروبى الذى رأوه فى بلاده التى تعلموا لغاتها، ودرس كثير منهم فى جامعات عواصمه، خصوصا «باريس» التى وصفها توفيق الحكيم بأنها «فترينة الدنيا» وقلبها النابض، فإنهم كانوا على وعى كامل بخصوصية وضعهم، والوعى الكامل بهويتهم التى كان وعيهم بها يتعمق من خلال جدل الأنا والآخر، مدركين أن وعى الهوية لا يكتمل إلا بوعى الغيرية، وأنهم لن يصلوا إلى وعيهم الأدبى المتميز إلا إذا حرصوا على هذا الوعى، وابتعدوا به عن أن يكون وعيا نقليا، وإنما وعيا نقديا، يقيس كل شىء بمعيار واع بخصوصيته التى لا يمكن التنازل عنها، وإلا انقلب الوعى من أفق «الاستقلال التام» الذى ظل شعار ثورة 1919 إلى وهاد التبعية، ولذلك كان لابد من الوعى الصارم الذى استعاره رفاعة الطهطاوى من العقلانية الاعتزالية فى التراث، وأطلق عليه مبدأ «التحسين والتقبيح العقليين» واستخدمه فى كتابه «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز» وقد توفى رفاعة الطهطاوى (1873) قبل مولد كل من العقاد وطه حسين والمازنى بست عشرة سنة.
ولم يكن من الغريب أن يدرس محمد حسين هيكل «دين مصر العام» فى باريس، وأن يكتب بين ربوع فرنسا روايته «زينب» معارضا الروايات الرومانسية الشائعة من نوع «غادة الكاميليا» التى نشرها ألكسندر دوماس الابن (1824 1895) سنة 1848، قبل سنوات طويلة من دراسة هيكل فى فرنسا وتعلقه بفن الرواية الذى دفعه إلى كتابة رواية «مصرية» ولهذا كان يغلق على نفسه غرفته، كى يستعيد القرية المصرية، أصل الهوية، ومناظر الريف الجميل والنيل البديع، والبشر البسطاء الذين يتحرك حولهم «حامد» البطل المتعلم، منتميا إليهم، ومدافعا عنهم، ولم تكن «معارضة» هيكل تعنى «التقليد» وإنما الخلق الموازى الذى يشعر صاحبه أن عليه تأكيد خصوصيته وإضافته فى آن ومثل هيكل، كان يفعل محمود مختار الذى اختار تعبيرا عن ثورة 1919 تمثال «نهضة مصر» عائدا إلى أصوله الأولى، مجسدا إياها فى تمثال أبى الهول، وفلاحة مصرية عفية تتطلع إلى الأعالى الواعدة أمامها، ولم يتردد فى تحطيم نموذج التمثال الذى صنعه على شاكلة چان دارك تحمل سيفا، فقد كان يريد شيئا يؤكد به خصوصيته المصرية بالدرجة الأولى، ولذلك ظهرت أصالته العبقرية التى مزجت بين ما أعاد إنتاجه من ميراثه الفرعونى فى النحت وما درسه ورآه من خصائص جمالية وتقنيات فنية تعلمها من النحت الأوروبى الحديث، خصوصا فى فرنسا، ولذلك لم يكن هيكل يشعر بتناقض بين وجوده فى فرنسا للدراسة، وتخطيطه، بل كتابته فعلا، قصصا تجريبية يستلهمها من تاريخه الوطنى، فى موازاة ما عرفه عن الرواية التاريخية عند والترسكوت (1771 1832).
هكذا، كان طه حسين يقرأ أمثال أوچست كومت (1798 1857) وإميل دوركايم (1858 1917) كى يكتب عن ابن خلدون وفلسفته الاجتماعية، ويغشى مسارح باريس مع سوزان التى قرأت له عيون الأدب الفرنسى دون أن ينسى أبا العلاء المعرى، شبيهه القديم، كى يعود ويحدث ثورة فى تدريس التراث الأدبى، والانضمام بقلمه الثائر كى يقف فى صف الجديد وأصدقاء «السفور» الذين عاد إليهم، بعد أن أسس واحد منهم، هو هيكل، جريدة «السياسة» ثم ملحقها المستقل «السياسة الأسبوعية» التى وقفت إلى جواره بعد أن أقام الدنيا ولم يقعدها بكتابه «عن الشعر الجاهلى» الذى دافع عنه مستنيرى الوفد فى البرلمان الذى كان رئيسه سعد زغلول زعيم الأمة ومن المنظور نفسه، كتب العقاد عن «الكروان» وليس عن «القبرة» التى كثر فيها الشعر الإنجليزى الذى كان يقرأه، وذلك فى موازاة زميليه إبراهيم المازنى وعبد الرحمن شكرى اللذين شاركا العقاد فى تقويض عرش المدرسة التقليدية فى الشعر، وتأسيس شعر جديد، يجمع بين المصرية والمعاصرة فى آن، مثلما فعل طه حسين، بعد العقاد، حين كتب روايته «دعاء الكروان» عن «هنادى» ضحية التقاليد الغبية البالية وكان سابقا فى ذلك على «المدرسة الحديثة» التى احتفى بها يحيى حقى الذى ارتحل ما بين أقطار المشرق والمغرب، قبل أن يعود، ويطلق «قنديل أم هاشم» لتكون زواجا بين الأصالة والمعاصرة.
ولذلك يمكن القول، فى ثقة، إن دعوة ثورة 1919 إلى «الاستقلال التام» لم تكن دعوة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية فحسب، وإنما كانت دعوة أدبية فى الوقت نفسه، وحافزا على خلق ممارسة أدبية موازية، مصبوغة بصبغة مصرية وطنية، مستقلة الروح، حضورا ووجودا، ملازمة لمحاولات تنظيرية لتأسيس ما سماه عيسى عبيد «قصص مصرية عصرية» وقد صاغ ملامح ما قصد إليه فى تقديم مجموعته «إحسان هانم» التى فرغت مطبعة رمسيس لاحظ التسمية بالفجالة من طباعتها سنة 1921، وذلك قبل أن يصدر أخوه شحاتة عبيد مجموعته القصصية «درس مؤلم» فى أغسطس 1922 فى الاتجاه نفسه الذى مضى فيه عيسى عبيد الذى يهدى مجموعته الأولى إلى صاحب المعالى سعد باشا زغلول رئيس الوفد المصرى «الذى كان أول من أيقظ حركتنا الوطنية المجيدة» وكان الإهداء إجلالا لما قام به سعد باشا من الأعمال الوطنية الجليلة التى سجلتها له الأمة المصرية فى ذاكرتها، عرفانا بما ضربه من مثل أعلى للوطنية الصادقة التى دفعت الأمة بأسرها إلى الإصرار على مطلب الاستقلال التام أو الموت الزؤام، ويختم عيسى عبيد إهداءه إلى زعيم ثورة 1919، مؤكدا أن الشعور القومى الوطنى المتدفق لا يخنق ولا يموت، جاعلا من مجموعته هدية «كاتب مبتدئ مجهول له آمال عظيمة بأن تستقل بلاده المصرية الاستقلال التام ويستقل معها الفن المصرى».
ولم تكن عبارة «الفن المصرى» غريبة على لغة عيسى عبيد الذى كان يشعر ويعى أنه يعمِّق تيارا صاعدا فى مجالات الإبداع المختلفة. أقصد إلى تيار وصل ما بين جيل ولد فى عقد التسعينيات من القرن التاسع عشر، ماضيا فى الطريق نفسه الذى سبق إليه من ولدوا فى عقد الثمانينيات من القرن نفسه، حيث الرابطة التى وصلت بين عيسى عبيد وشقيقه شحاتة وموسيقى سيد درويش (1892 1923) وكلمات بديع خيرى (1893 1966) وتماثيل مختار (1891 1943) ولوحات محمود سعيد (1897 1962) ومسرحيات محمد تيمور (1892 1921) وقصائد أحمد رامى (1892 1978) وقصص محمود طاهر لاشين (1894 1954) وبدايات توفيق الحكيم (1898 1987) وغيرهم من مبدعى «الناشئة الجديدة» التى صقلتها ثورة 1919، وأبرزت فى إبداعها ما يقرن بين كل من مسعى الوطن والفن فى الاستقلال، ولذلك يلح عيسى عبيد، فى مقدمته، على ما تركته الثورة فى نفوس «الناشئة الجديدة» من أثر عميق، مؤكدا أن الهدف الأدبى الذى تتطلع إليه هذه الناشئة من تأليف القصص والروايات العصرية المصرية هو «إيجاد أدب عصرى مصرى خاص بنا، وموسوم بطابع شخصيتنا وأخلاقنا، يتفق مع ما بلغناه من الرقى والنضج المبكر».
ولا يختلف شحاتة عبيد عن شقيقه فى ضرورة تحقيق هذا الهدف، فهو يحلم مثله أن يكون المبدعون فى وطنه «مصريين عصريين» ويعنى ذلك الوعى «بأن الرواية لا تكون عصرية مصرية إلا إذا كان أشخاصها مصريين حقيقيين» ولم يقنع شحاتة عبيد بإعلان ذلك، فى تقديمه مجموعته «درس مؤلم» بل يضيف أن الرواية المصرية العصرية «يجب أن توسم بطابع الشخصية المصرية، فتتراءى فيها شخصيات أفرادها، ونفسياتهم العميقة، وحياتهم الاجتماعية والفردية» ويعى عيسى عبيد أن «العصرية» التى تتلازم والنزعة المصرية فى وعيه لا تتحقق إلا فى الفضاء المدينى، فالمدينة هى فضاء التحديث المادى والحداثة الفكرية والإبداعية، وكلاهما فضاء لنزوع الاستقلال الذى لابد أن ينهض المجتمع المدنى برعايته، والاتجاه به فى طريق صاعد صوب التقدم دون تمييز على أساس من دين أو جنس، فالقبطى وقف مع المسلم ضد رصاصات الإنجليز، والمرأة خرجت إلى المظاهرات، متمردة على قيود الاحتلال أولا، ثم على قيود التقاليد الجامدة ثانيا، فنزعت عن حضورها حجاب الوجه وحجاب العقل وينحاز عيسى عبيد إلى «المرأة الجديدة» التى حلم بها قاسم أمين قبله، ورأى هو نماذجها المتكاثرة تندفع مع الاندفاع الصاعد لثورة 1919 ولذلك تبرز المرأة الجديدة حضورها فى فضاء عمله الأدبى، تنزل إلى ميدان العمل، وتتظاهر والرجل، مطالبين بحق بلادهما فى الاستقلال التام أو الموت الزؤام، ويسقط منها شهيدات كما يسقط من الرجل، فتستحق بجدارة أن تكون موضوعا بارزا فى قص عيسى عبيد، وتفرض نفسها على عنوان المجموعتين القصصيتين اللتين نعرفهما له أقصد إلى «إحسان هانم» و«ثريا» ويبرز حضور المرأة فى سياق الثورة، حيث تضم قصة «مذكرات حكمت هانم» مذكرات فعلية عن وقائع الإسهام النسائى فى ثورة 1919 على امتداد الأسابيع الثلاثة الأولى من شهر أبريل سنة 1919، بعد انفجار الثورة فى التاسع من مارس، وتستمر الثورة، صاعدة بمعنى الوطنية الذى شمل طوائف دينية متعددة فى الانتساب إلى المجتمع المدنى الثائر، فى موازاة المجتمع الريفى الذى لم يكن أقل ثورة، فقد التف الجميع حول زعيم الأمة الذى تجسّد فيه حلمها عن التقدم، وتأسيس دولة مدنية عصرية، حرة ومستقلة، وأدب عصرى، حر ومستقل بالقدر نفسه.
وإذا كانت القضايا الخاصة باستقلال تقنيات الشكل ليست واردة بالقدر نفسه من صراحة الحديث عن المحتوى القصصى أو المسرحى، فإن الموقف الوطنى الواصل بين لوازم الاستقلال السياسى والاستقلال الإبداعى، كان يؤدى إلى معانٍ مفهومة ضمنيا، فلا قبول لتقليد القديم العربى أو الجديد الأوربى، وهو حلم جازم يسرى على الثنائية التى شغلت بعض النقاد الحريصين على الفهم الثنائى لحال وجود العمل الأدبى أو الإبداعى الذى لا يمكن تجزئته أو تثنيته فالإبداع الذى لابد أن يتصف بالمصرية والعصرية، فى آن، كل متكامل، لا يقبل التجزئة، وأوضح ما يكون ذلك فى رسوم محمود سعيد عن المولد وبنات بحرى والموالد وغيرها من اللوحات التى تضع فى صدارتها الحياة الشعبية المصرية، حتى الموديل الخلاسية العادية التى أغرم محمود سعيد برسمها، فى عدد لافت من لوحاته، لا يمكن أن نفصل فيها بين شكل ومضمون، فالمحتوى الوطنى هو الشكل الوطنى فى الجمع بين صفتى المصرية والعصرية، وفلاحات مختار وفلاحيه، مثل تمثال الخماسين وغيره من التماثيل الموازية للطبيعة المصرية فى القرية، مصرية الشكل والمضمون، كتمثال نهضة مصر، أو تمثال سعد زغلول وموسيقى سيد درويش مثل أغانيه فى أوبريتاته ومسرحياته، ومنها ما كتبه محمد تيمور شكلها هو مضمونها الذى لا ينفصل عنه كما لا ينفصل وجه الورقة عن ظهرها والأمر نفسه فى الكتابة الأدبية، حيث يعنى اقتران المصرية والعصرية وحدة المبنى والمعنى، حيث لا تقليد لجديد أوروبى ولا لقديم عربى ويصوغ عيسى عبيد هذا التمييز الحاسم بقوله «يحزننا أن نقول إن الأدب العصرى المصرى فى وقتنا الحاضر غير موسوم بطابع شخصيتنا، فهو ما زال خاضعا للأدب العربى الجامد المتشابه القديم، أو متأثرا بنفوذ الأدب الأجنبى الذى اضطررنا إلى درسه لنتعلم منه أسرار الفن الراقى ونأخذ منه قوانينه وأسلوبه، فالروايات المصرية المؤلفة معربة، ويا للأسف، عن المرسح الأجنبى، وقصصنا مأخوذة عن القصص الأجنبية ويتجلى فى هذه الحالة اضطراب شخصية الأشخاص الذين لا يكون لهم غالبا وجود فى هيئتنا الاجتماعية، وتنعكس الألوان الغربية بجلاء على روايتها، فتعدمها المسحة الطبيعية التى هى سر من أسرار الفن الحقيقى فواجبنا نحن الكتاب أن نعطى أدبنا العصرى المصرى صفة حية ملونة، خاصة به ويعرف بها ولذلك يجب أن نجتهد بأن نحرر ذهنيتنا من تأثير الأدب الغربى بألا نتخذ من الروايات الأجنبية قاعدة لرواياتنا التى يجب أن تشاد على أساس الملاحظة الصادقة المستخرجة من أعماق حياتنا اليومية وعلى التحليلات الاجتماعية والنفسية».
وكلمات عيسى عبيد التى حرصت على نقلها، رغم طولها، بالغة الدلالة فى تأسيس أدب وطنى بكل معنى الكلمة وهى كلمات لا تزال صادقة إلى اليوم، وتبرر عبقرية نجيب محفوظ الذى كان يبلغ من العمر أحد عشر عاما عندما كتب عيسى عبيد كلماته، ومن المؤكد أنه تعلم معنى أن يكون الأدب مصريا وعصريا من أستاذه سلامة موسى ومن المؤكد كذلك أن عيسى عبيد كان مدركا للفارق بين «تعلم» أسرار الفن الراقى وقوانينه وأسلوبه و«تقليد» هذا الفن أو «محاكاته» ففعل التعلم أبعد ما يكون عن فعل المحاكاة والتقليد ويبدو أن هذا الوعى الذى جعل أقران عيسى عبيد لا يرون فى «زينب» هيكل ما كان يراه مجايلوه الذين ولدوا فى ثمانينيات القرن التاسع عشر، أولئك الذين سبقوا إلى أوروبا، وتأثروا كل التأثر بالنزعة الرومانسية الأدبية التى رأوا فيها استجابة لما انطووا عليه من نزوع ثورى أقرب إلى الرومانسية الأدبية، وذلك على النقيض من أبناء تسعينيات القرن التاسع عشر الذين لحقوا بهم، بعد أن تعلموا منهم، ووضعوا إنجازهم الأدبى موضع المساءلة، خصوصا فى القص، فاستبدلوا برومانسية هيكل، مثلا، ما سموه «مذهب الحقائق» الذى جذب إليه الأخوين عبيد، ضمن المجموعات الأجد التى انتسبوا إليها، كما انتسب كل من محمد ومحمود تيمور ومحمود طاهر لاشين وأحمد خيرى سعيد ويحيى حقى وحسن محمود وإبراهيم المصرى ومحمود عزمى وحسين فوزى وغيرهم من أبناء الجيل الذى كان أكثر تأكيدا للتلازم بين صفتى «المصرية» و«العصرية» فى مدى الحلم بتأسيس دولة مدنية مستقلة، حرة داخليا وخارجيا لكن هذه المغايرة لا تنفى دين هؤلاء جميعا إلى جيل محمد حسين هيكل، إذا صح أن نرى فى مدى عشر سنوات ما يمايز بين جيلين، فالواقع أن الأسماء الملازمة للأخوين عبيد مدينة فى تأصيل المفاهيم النظرية والممارسات العملية الخاصة بتأسيس أدب وطنى إلى ما سبق إليه هيكل على وجه التحديد، خصوصا بما كتبه عن مفهوم «الأدب القومى» الذى كان يعنى «الأدب الوطنى» فقد كانت الكلمة الأجنبية Nationalism تترجم بكلمة القومية أولا، إلى أن فصل الاصطلاح العربى، خلال الحرب العالمية الثانية فيما أظن، بين «القومى» الذى يحمل المعنى العروبى الجامع للأمة العربية كلها، مقابل «الوطنى» التى انفردت بالمعنى القطرى المقتصر على أحد الأقطار العربية دون غيره وما أكثر ما كتبه هيكل، فى تأصيل مفهوم الأدب القومى الوطنى ولا شك أن دعوته إلى الأدب القومى تنهض بالقدر نفسه فى المكانة الموازية لانحيازه اللافت إلى فن القصة، ودعوته إلى تأصيل حضورها الذى كان لا يزال هشا مهمشا، مختلطا بالمقامة حتى فى كتابات أهم رائد للتجديد فى القرن التاسع، وهو أحمد فارس الشدياق (1804 1887) الذى امتدت حياته بامتداد القرن، وترك لنا أهم مؤلفاته التى اتخذت شكل سيرة ذاتية، تخلط بين الأنواع وتتنقل بينها فى حرية، فلم تكن حدود الأنواع الأدبية قد استقرت، أو تمايزت بعد أعنى رائعته الفريدة «الساق على الساق فى ما هو الفارياق» التى طبعها فى باريس سنة 1852.
لقد كان هيكل يرى، فى مقالاته التى ربما بدأ كتابتها قبل الثورة، أن الأدباء الكبار ذوى النفوس القوية هم الذين يعبرون تعبيرا صادقا عن مشاعرهم، وأنهم فى هذا التعبير يغوصون عميقا فى حضورهم الفردى المشتبك بحضور اللحظة الزمانية المتعامدة على الوسط الطبيعى الاجتماعى الذى يتأثرون به حتما ولذلك فإنهم يعبرون عن المجموع الذى ينتمون إليه فى الأمة التى ينتسبون إليها بالقدر الذى يعبرون به عن ذواتهم الفردية، فتعبيرهم الأدبى خاص من حيث صلته بالوسط الطبيعى الاجتماعى الذى يتأثرون به، ويسعون إلى التأثير فيه والخصوصية هى الوجه الملازم للأصالة، فى هذا السياق الذى يرجع به الأدب إلى كاتبه، كما ترجع النتيجة إلى سببها، والمجتمع هو الوجه الثانى الذى يتحول إلى دال مدلوله الصفة الوطنية فى الدلالة العامة التى يكتسبها الأدب فى تعبيره الجمعى، أو فى العلاقة التى يفضى فيها الخاص الفردى إلى العام الجمعى ويلزم عن ذلك، فيما يقول هيكل، إن أصالة التعبير عن الشعور الفردى للمبدع هى السبب الأول لأصالة التعبير عن الشعور الوطنى للأمة «فالأدب القومى تاج التعبير الفردى فى أقصى درجات صدقه وأكثف لحظات أصالته» وعلى أساس من هذا الفهم، يمضى هيكل فى صياغة مفهومه المتكامل لما يسميه الأدب القومى الوطنى وقد اكتملت صياغة المفهوم، فى انتسابه إلى نظرية التعبير، ضمن سياق تاريخى اجتماعى لم يفارق الأفق الليبرالى لطليعة الطبقة الوسطى التى قادت ثورة 1919، والتى ظلت تنطوى على أهمية حضور الفرد الفاعل فى الأمة، لكن بما لا ينقض الأثر الحتمى للوسط الطبيعى الاجتماعى الذى يتبادل وإياه الأديب التأثر والتأثير، وذلك فى المدى الذى يخلع على الوطن، فى نفوس أبنائه، من الجلال والتقديس ما يزيد من مهابته فى قلوبهم، ويؤكد الاعتزاز به فى عقولهم، فيلهب مشاعرهم الوطنية للدفاع عن حريته واستقلاله من ناحية، ويلفت أعينهم إلى جماله وجلاله من ناحية موازية والنتيجة هى تضافر ترقية الإحساس الجمالى بالطبيعة فى الوطن، وتعميق الشعور بتاريخه الخاص، ولكن بما يرد الثانى على الأول فى الجمال الذى يغدو اللازمة المنطقية على نحو ما كان يذهب العقاد، ويصل بين ثورية الوعى الجمالى بالإنتاج الأدبى، وترقية الشعور الوطنى الذى يغدو نتيجة وسببا لما يسميه هيكل «الأدب القومى».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.