تعيش الأسرة المصرية اليوم حياة صعبة في ظل الظروف التي تحاصرنا والأخبار الكارثية المتتالية ولكي نتعايش مع هذا الواقع ونستطيع أن نخرج منه لمستقبل أكثر اشراقا كان لابد أن نلجأ للمختصين لنعرف منهم كيف نتفادي الآثار السلبية لما يحيط بنا من أحداث وساعات الحظر التي نعيشها في ترقب مستمر والتي يرافقنا فيها أطفالنا الذين حرمتهم الأحداث من انطلاق الأجازة الصيفية التي ينتظرونها لذا كان لنا لقاء والدكتورة مي الرخاوي أستاذ علم النفس والصحة النفسية للأطفال لنعرف منها كيف يمكن أن نحافظ علي صحتنا النفسية وصحة أطفالنا في تلك الظروف القاسية التي نعيشها اليوم بين مشاهد الدماء وساعات الحظر.. خلقت الظروف السيئة التي تمر بها مصر حالة من التوتر والاكتئاب لدي عموم الشعب, وانخفضت الروح المعنوية وتسلل اليأس والخوف لقلوب الكثيرين فقرروا الانعزال والحبس الاختياري بالمنازل فكيف يمكن تلافي تلك الآثار السلبية علي الناس وما هو المسمي العلمي لتلك الحالة؟ كل البيوت الآن تشعر بتوتر شديد, الكبار قبل الصغر, فالقلق عام نتيجة عدم الشعور بالأمان لأن الخبرة التي نمر بها الآن هي أشد وطأة من العامين الماضيين الذين مررنا بهما. فلم يعتد المصريون علي مثل هذا الصراع الذي مع الإحباط, وكان الشعور الشائع بأن الأمان سيأتي فور إصدار قرار ما, لكن استمرار الأزمة وتباين المواقف بشكل مبالغ والخلاف الجوهري داخل الأسرة الواحدة هو ما خلق شعورا بعدم الأمان, فلأول مرة المصريون يتحاربون ولم يكن صراعهم هذا المرة بسبب التطرف كما كان الحال سابقا أو عدوا طاغيا كما كان أيام الاستعمار. إضافة إلي أن الكثير من المصريين اكتشفوا حقيقة من كانوا يعتقدون أنهم دليلهم إلي دينهم, لذلك كان هناك شعور شديد بالصدمة من السلوكيات العدائية العنيفة غير المعتادة والغير المبررة معظمها من وجهة نظر الإنسان المصري, وهذا أيضا أدي إلي تنامي الشعور بالقلق وعدم الأمان. وغالبا ما ينتج عن هذه الصدمة أعراض عصبية متنوعة كالقلق والتوتر وبعض الشكاوي الجسدية, وأعراض الاكتئاب, وفي مثل هذه الظروف يكون الهدف الأساسي للإنسان' حماية شخصه' واسترجاع الشعور بالأمان, فيبدأ في العزلة لتحقيق هذا الهدف, فيحاول عدم الخروج من المنزل إلا للضرورة, أو تجنب مشاهدة التلفاز أو قراءة الجرائد أو حتي التحدث عن الحال السائد, وعندما يتحدث أو يقرأ أو يشاهد فإنه لا يبحث إلا عما يطمئنه. وساعات حظر التجوال الطويلة تساعد في ترسيخ هذا الانعزال بصورة مباشرة, والذي قد يزيد من أعراض التوتر والقلق وهكذا تبدأ دائرة مغلقة يسير فيها الفرد. ولكي نتلافي آثار الحظر علينا استعادة التواصل مع الجيران والأقارب القريبين كما كان الحال قبل انتشار الوسائل التكنولوجية الحديثة كالتليفزيون, كذلك يجب ابتكار أنشطة اجتماعية لممارستها مع الأسرة في المنزل. ومحاولة استعادة الثقة بالذات وبث روح الأمل وتجنب الأفكار السوداوية, ومصارحة الناس بحقيقة الحرب المضادة للإرهاب والمدة المتوقعة وعدم اعطاء آمال غير واقعية لحل سريع حتي لا يزداد الاحباط إذا لم يتحقق, وهنا يتجلي دور الإعلام, ودور المتخصصين في مجال الدعم النفسي لنشر هذا الوعي, كذلك علي السياسيين التطرق لتحليل المستقبل والكف عن الحديث عن الماضي, كما يجب خفض الصور والمشاهد المزعجة التي تعرض بشكل مستمر. أي باختصار يجب تأهيل المصريين لحالة الحرب التي نحياها لأنها تعد نفسيا أقسي مما مررنا به في حرب73, فالمصريون كانوا مستعدين لحرب73 وينتظرونها ولكن الحرب الحالية مفاجأة سيئة غير متوقعة للكثيرين. أطفالنا جزء من العائلة وكثيرا ما يشهدون الحوارات العائلية حول الاوضاع او يشاهدون ما تتابعه العائلة علي شاشات الفضائيات فكيف يمكن ان نقي أطفالنا من الاثار السلبية لذلك؟وهل يؤثر ذلك علي سلوكياتهم وتكوينهم؟ من المؤكد أن كثرة المشاهد العدائية ومشاهد القتل والحروب في التلفاز من شأنه أن يزيد من اكتئاب الأطفال وسلوكياتهم العدائية قد تتعدي الحدود مع الأهل, وفي الفترة الماضية حين ازدادت أعمال الشغب والبلطجة في الشوارع وقبل تنحي الرئيس المعزول, كان ما لاحظناه كمتخصصين آثار مشاهد العنف لدي الأطفال الصغار وكان مرجعه إلي حالة' التقمص', وإلي الشعور بالغضب من جانب آخر. كثير من أجيال آباء وأمهات الزمن الحالي تربوا علي الخوف من اشياء كثيرة فكيف نربي اطفالنا علي الجرأة والمواجهة وفن الحوار؟ ففي زمن الثورات تنضج الشعوب سريعا.. فكيف نستغل هذه الظروف بصورة إيجابية في تربية الأبناء؟ لقد تربينا سابقا علي الخوف والكبت وعدم المواجهة وهو ما جعلنا نعاني لسنوات طويلة, وجعلنا كجيل سابق نرضخ لكثير من التصرفات الظالمة ونرضي بالتنازل عن حقوقنا, لذا علينا أن ننشئ أبناءنا بمفاهيم مختلفة, وندربهم علي التعبير عن الذات, علي القراءة وعدم السير خلف ما يقال شفهيا, فعلي الشاب أن يقرأ ويحلل وتنتقد كل ما هو غير منطقي, وعليه أن يعمل فكره جيدا فيما يقال له, وعلي الأهل أن يفعلوا نفس الشيء, فإن ما وصل ببلدنا إلي أوضاع اليوم هو عدم قراءة التاريخ وعدم تحليله ونقده. كذلك علينا أن نحرص علي احترام الأبناء لنا, لكنا في نفس الوقت علينا أن نعطيهم الحق في ابداء رأيهم فيما يرونه مختلفا, وإذا نشئوا علي مرونة الفكر من الوالدين مع الاحتفاظ بالطبع بالحدود الوالدية والرؤية التربوية المتفتحة فإنهم سينشئون علي الفكر المرن الذي هو خطوة أولي للإبداع وللتقدم فالكبت أدي إلي نشأة جيل سلبي, والتحليل والفكر والثقافة والقراءة هي ما سينشئ جيلا متقدما حرا, وعلينا أن نربي أبناءنا علي احترام اختلاف الرؤي مع احترام الحدود الفردية للآخر, فلا يعني أنني مختلف أنني خاطئ, قد أختلف معك ولكن قد يكون كلانا له رؤية تريحه. كذلك من الشائع في بلدنا النقد السلبي السطحي وهو ما يشل تماما حركة الوعي لدي الطفل, علينا أن نعلم أبناءنا النقد البناء المبدع الذي يؤدي إلي المزيد من التقدم, فليس كل ما حولنا خطأ وكل ما نراه صحيح, ولكن قد أري في بعضه شيئا لو استطعت تغييره سيكون أفضل, هذا هو النقد البناء, فمثلا قد أري في الملتحي متطرفا وهذا خطأ, فقد يكون هذا نهجه الذي يريحه, أما أنا فنهجي آخر, فليس من حقي أن أرمي كل ملتح بالتطرف أو الإرهاب في المقابل ليس من حق الملتحي أيضا أن يحكم علي بالكفر أو البعد عن التدين لأني لا أضع حجابا, فلكل منا رؤيته. فالتعميم بدون التمييز من شيم الجهل والتخلف, ولا ننسي أن حتي الأئمة الكبار اختلفوا, وأن الفقه الاسلامي له رؤي عديدة في شئون الحياة. وهذا يسري علي كل أمور الحياة لأبنائنا منذ بدء وعيهم الفكري, علينا أن نوجه, نتقبل, نتسامح, نختلف, نقرأ, نحلل ونبدع ونبتكر لنتقدم..وإذا فعلنا ذلك وثقنا في أنفسنا وإذا وثق الطفل في نفسه ازداد نضجا واستقلالية وازداد انجازا وتقدما ونفعا لنفسه ولأسرته ولبلده. كيف تقرئين الآثار السلبية لتردي حالة التعليم علي الأجيال الحالية؟ الكثير مما نحن فيه الآن يرجع إلي انغلاق الفكر وعدم المعرفة وعدم التحليل والرضاء بالسمع والطاعة, كل ذلك كان بمثابة عناوين للجهل والظلام الذي عشنا به منذ أن بدأ مجتمعنا يعيش في ظل تعليم متدهور وفقر متزايد وضغوط لا تترك للأهل فرصا للتعايش النفسي مع أبنائهم.. لذلك علينا أن نقضي علي كل هذا, وألا نجعل من ابنائنا آلة للتسجيل سواء في المدرسة أو الحياة, ولا نقضي علي طفولته بكثرة الضغوط فإن الوقت الحر ينشأ فيه الفكر الحر. ما هي الدروس المستفادة من هذه المحنة التي نمر بها ونحن نتصدي للإرهاب؟ من الضروري أن نعلم أبناءنا ان العنف والعدوان والقوة البدنية ليست هي الحل, وأن عدم احترام الاختلاف ليس من الخلق أو الدين في شيء, فالإيمان في القلب, والوطن بيتنا الكبير. هكذا نصنع جيلا للمستقبل يحمي بلده بالفكر والعلم ثم بالبدن والجهد.