ماذا حدث للمصريين، الضحكة الحلوة راحت، والسماحة و"الجدعنة" اختفت، نسبة الاكتئاب زادت والعنف انتشر، والتوتر اصبح سيد كل المواقف، حتي الهزار "بيقلب جد".. في الشارع والبيت والعمل، بين الزملاء والاصدقاء والجيران وحتي بين الأزواج. جرائم غريبة علي طبيعة المصريين تطالعنا يوميا وتصيبنا بالدهشة، فبسبب الخلاف علي ثمن المشروبات في مقهي بالقليوبية خرجت الاسلحة النارية وسقط ضحايا من رواد المقهي، وبسبب منافسة بائعين بالمهندسين علي بيع اسطوانات غنائية سقط مصابون بالاسلحة البيضاء والنارية، وفي الوراق وقع الطلاق بين الزوجين بسبب الخلاف علي اسم المولود ونشبت مشاجرة بالأسلحة بين العائلتين اسفرت عن اصابة سبعة اشخاص. الدراسات تؤكد ان الامراض النفسية زادت خلال العام الاخير بنسبة 60٪ مقارنة بالسنوات السابقة، وارقام وزارة الصحة تؤكد ان عدد المترددين علي مستشفيات الصحة النفسية "الحكومية فقط " وصل الي ستمائة الف حالة خلال عامي 2011 و2012 . اما سكان القاهرة فنصيبهم اكبر من الامراض النفسية حيث اكدت دراسة اجراها برنامج التعلم المجتمعي بالجامعة الامريكية تزايد معدلات القلق والتوتر بين سكان القاهرة بسبب الضغوط الاقتصادية والأحداث العنيفة التي تحاصرهم في كل مكان، بل وواكب ذلك زيادة معدلات استهلاك الأدوية النفسية لتصبح الثانية عالمياَ خلف أدوية القلب مباشرة بعد أن كانت في المرتبة التاسعة. الخبراء يرون ان التقلبات السياسية بعد الثورة كانت متلاحقة وسريعة، وان احلام المواطنين انطلقت، لكن كل ذلك اصطدم بالواقع فاصيب الناس بالاحباط والتوتر والاكتئاب، بالاضافة لكل مظاهر العنف وعدم الامان التي ساعدت علي زيادة المشاكل النفسية. الاخبار ابحرت مع علماء النفس والاجتماع لتحليل ما اصاب نفوس المصريين. تقلبات متلاحقة في البداية يؤكد الدكتور يسري عبد المحسن استاذ الطب النفسي بجامعة القاهرة وامين عام مساعد الاتحاد العربي للطب النفسي ان العامين الأخيرين شهدا بالفعل زيادة كبيرة في معدل الاصابة بالامراض النفسية، وان ارقام الامانة العامة للصحة النفسية تؤكد ان عدد المترددين علي مستشفيات الصحة النفسية الحكومية فقط وصل الي ستمائة الف حالة خلال عامي 2011 و2012، ويضيف ان معظم هذه الحالات هي اصابات بالاكتئاب والقلق وكرب ما بعد الصدمة، ويفسر ذلك بأن التقلبات السياسية السريعة المتلاحقة، ومعايشة الأحداث التي تتصف بالعنف أدت بالفعل الي زيادة معدل الاصابة بالتوتر والقلق والضغط النفسي وعدم الاحساس بالامان والخوف من المستقبل، فالمناخ الذي نعيش فيه اصبح مناخا غير صحي يتسم بالعنف والعدوانية ووصل الامر بين الاطراف المتصارعة سياسيا الي العند والتحدي و الثأر . وهذا المناخ السيئ يترك آثاره علي جميع المستويات والاعمار، وكل هذه المشاعر والسلوكيات تنتقل بالعدوي بين الناس، كما ويؤكد الدكتور يسري ان الذكور اكثر تأثرا بهذه الاوضاع لالتزاماتهم المادية تجاه اسرهم والتي تأثرت بتلك الاحداث. الاطفال في خطر واخطر ما في هذا المناخ انه يؤثر علي الاطفال والمراهقين ويساعد في خلق جيل مصاب بحالة من التشوش العقلي والمعرفي ، لا يعرف الخطأ من الصواب لأنه لا يجد اجابات مقنعة لتساؤلاته، والاخطر ان تساهم هذه الحالة في خلق أجيال تتسم بالعنف لتأثرها بما تعيشه من غياب كامل للحوار والتسامح والحكمة، مع سيطرة القوة والصوت العالي، وغياب الحوار وعدم قبول الرأي الآخر . فاستماع الاطفال للآراء المتعصبة ومشاهدة سلوك التعصب من الوالدين والمدرسة ثم المجتمع بصفة عامة، يعتبر عاملا اساسيا في تشكيل الاتجاهات لدي الطفل بالاستماع والتقليد ويساهم في خلق نمط الشخصية التي تتسم بسلوك التعصب. ويؤكد د. يسري ان المناخ بعد الثورة مباشرة اعطانا أملا كبيرا في خلق جيل جديد يعرف المعني الحقيقي للحرية ويعرف كيف يعبر عن رأيه ويطالب بحقوقه ويحرص علي المشاركة السياسية، وشعرنا بسعادة أكبر حينما بدأت بعض الرموز الوطنية تظهر علي الساحة ويتجمع حولها الناس كقدوة ومثل أعلي، لكن للأسف خرجت الأمور عن الاطار وحدثت حالة من الشطط والتطرف السياسي والفكري والاستقطابات الحادة التي ابتعدت تماما عن الممارسة الحضارية للديمقراطية، واستخدمت فيها كل وسائل الهدم والعنف والترويع و وكل هذا واجهه المواطن إما بالمشاركة في هذا العنف وهذه الصراعات، او بالإنعزال والاكتئاب واليأس، والحالتان تعبران عن اضطراب في الشخصية. ويؤكد د. يسري ان الخروج من هذه الحالة يكون بالانشغال في انشطة أخري لتفريغ الشحنة الانفعالية، مثل الرياضة او الهوايات. ويري الدكتور رشاد عبد اللطيف أستاذ تنظيم المجتمع بكلية الخدمة الاجتماعية جامعة حلوان ان حالة عدم الاستقرار التي نعيشها يترتب عليها احساس المواطنين بعدم الامان والخوف من المستقبل والمعاناة الاقتصادية، وفي ظل هذه الظروف الصعبة يفكر كل انسان أو فصيل في مصالحه فقط وكيف يحميها، ومع سيطرة هذه الأنانية ينقسم الناس الي فئتين، فئة تلجأ الي العنف لتحمي مصالحها، وفئة اخري تفقد الامل وتصاب بالاحباط والاكتئاب وتفضل الانعزال والسلبية. ويضيف قائلا: " المصري كان مشهورا بثلاث صفات، المرح وخفة الدم والجدعنة وأخيرا الصبر علي المحن، ولكن هذه الصفات تغيرت "، ويوضح مؤكدا ان المعاناة الاقتصادية مع الكثافة السكانية العالية ادت لظهور ما يسمي بأخلاق الزحام، فمع نقص فرص العمل والتعليم والعلاج والاسكان والرفاهية يتكالب المواطنون علي هذه الفرص القليلة ويسعي كل منهم لانتزاع حقوقه القليلة بالقوة او بالفساد او بالفتونة فتظهر ثقافة القبح الاخلاقي او ما نسميه اخلاق الزحام، والي جانب كل هذه المشكلات التي نعيشها من قبل الثورة، ظهرت المشكلات السياسية بعد سقوط نظام وبدء مرحلة جديدة، ففوجئنا بظهور 114 ائتلافا سياسيا وبدا المجتمع ينقسم انقسامات حادة الي اخوان وليبراليين وسلفيين وفلول وأصبح الكل يستخدم العنف والصوت العالي فاصبحنا مجتمع " طرشان " لا يسمع بعضنا البعض وبدأ كل طرف يستخدم العنف ليجبر الطرف الآخر علي سماعه بالعافية، وبدأت المليونيات تفتت جبهتنا الداخلية وتهدد بالفرقة والفتنة، وكل هذا سيؤدي الي دمار المجتمع. كسب المصريين والحل كما يقول د. رشاد عبد اللطيف ان يعرف الرئيس ان الشعب ليس عدوا له و وان المعترضين يعترضون علي بعض القرارات وليس علي شخصه، واطالبه بأن يسعي لكسب حب المصريين جميعا وأن يأخذ برأي جميع الفصائل ، والاهم من كل ذلك هو العدل التام في التعامل مع جميع المصريين اسوة بسيدنا عمر الذي عدل فنام آمنا، وينهي حديثه قائلا : قلب مصر تكالبت عليه ثورات الطامعين ولم يتبق منه سوي بريق من الامل، واخشي ان يتمزق المجتمع وندمر مصر ونعطي الفرصة للاعداء ". مؤشر العنف ويؤكد د. سعيد صادق استاذ الاجتماع السياسي بالجامعة الامريكية انه طبقا لمقياس العنف السياسي الذي ينقسم من 1 الي 5، فان مؤشر العنف في مصر وصل الآن الي رقم 4، وأحذر من المرحلة التي تليها والتي قد تصل بنا الي الحرب الاهلية . وعلي اي اساس تم هذا التصنيف ؟ علي اساس عدة مظاهر اهمها،تزايد العنف بين افراد الشعب وبين الاحزاب والجماعات السياسية بل وبين افراد الاسرة الواحدة وزملاء العمل والاصدقاء، بالاضافة الي الحصارات والتهديدات العلنية والعنف اللفظي وانتشار السلاح بين المواطنين، ومحاولات فئات لفرض رأيها علي الآخرين بالعنف، كل ذلك في مقابل تقاعس الاجهزة الامنية، وفي مقابل سوء الاحوال الاقتصادية، وهو ما يهدد بمزيد من العنف. وعن الاسباب التي ادت بنا الي هذه الحالة يقول ان الشعب المصري قبل الثورة كان مكتوفا و وبعد الثورة انطلق، وانطلقت احلامه و ولكن بعد نتيجة المرحلة الاولي من انتخابات الرئاسة لم تكن الاغلبية سعيدة، وهو ما ظهر في نتيجة المرحلة الثانية التي شهدت مقاطعة نسبة كبيرة من المواطنين، وقيام مليون مواطن بابطال اصواتهم، وجاءت النتيجة بنسب متقاربة، وهو ما يعني ان ما يقرب من نصف الشعب كان غير سعيد بالنتيجة، ثم جاء اكتئاب آخر بعد مرور المائة يوم الاولي دون حدوث تقدم في حال البلد، ثم توالت الاحباطات مع ظهور مشكلات الاعلان الدستوري واللجنة التأسيسية ومشروع الدستور، وتوالي المليونيات والانقسامات بين المواطنين وتقاعس الامن في المواجهة مما ادي لزيادة معدلات التوتر والاحباط والعنف بصور مختلفة. والحل؟ الحل يأتي من القيادة، والمطلوب من الرئيس أن يسارع بتوحيد البلد وكل افراد الشعب، فببساطة شديدة " طول ما فيه عدم امان وخوف من المستقبل سيزداد العنف ". يبقي ان نقول الدين الاسلامي والاديان جميعها تدعو إلي الحوار والانفتاح، ويؤكد ذلك قول الرسول العظيم (صلي الله عليه وسلم): (ليس منا من دعا إلي عصبية، وليس منا من قاتل علي عصبية وليس منا من مات علي عصبية.