شهد عالمنا العربي الكثير من الأحداث الجليلة علي مر التاريخ, وكللت تلك الأحداث أخيرا بالعديد من الثورات التي هزت أركانه, بداية من تونس, ثم مصر, وليبيا, وامتدت لتشمل اليمن, والآن سوريا. ويتوقع الكثيرون أن يمتد المد الثوري, أو علي الأقل آثاره, إلي بقية البلدان العربية, بل وربما دول خارج المنطقة, مما سيؤثر في شكل العالم الذي نعيش فيه. وكنتيجة طبيعية لما حدث, جرت محاولات متعددة لفهم وتفسير هذه الثورات وتأثيراتها. واعتمدت معظم التحليلات علي الرؤي السياسية, والاقتصادية, والتاريخية, والاجتماعية, لفهم أسباب وتأثيرات الثورات العربية. أما هذه المقالة, فهي محاولة لتقديم رؤية نفسية لأسباب وتأثيرات تلك الثورات.من البديهي أن الثورات تنشأ نتيجة لحالة من عدم الرضا عن الوضع القائم, ومحاولة لإيجاد وضع جديد يؤدي إلي حالة من الرضا. من ناحية المسببات, تهتم الرؤية النفسية بمحاولة تفسير ما الذي يجعل الإنسان غير الراضي يتحول من حالة اللافعل إلي حالة الفعل لتحقيق الرضا. إحباط نفسي يعد الإحباط النفسي, خاصة إذا اشتدت حدته وطالت مدته, سببا منطقيا وجوهريا للانفجار والثورة علي الأوضاع القائمة, والانتقال من حالة اللافعل إلي الفعل. وينشأ الإحباط النفسي إذا كان هناك تباين وتناقض بين ما يريده الإنسان ويراه من حقه, وبين الواقع الفعلي. وقد أسهمت العولمة والإعلام المفتوح وثورة الاتصالات في هذا التباين, ومن ثم الإحباط. فقد أصبح الإنسان العربي العادي علي وعي وإدراك بحياة الإنسان في الدول المتقدمة, ولذلك أصبحت توقعاته ورؤيته لما يجب أن تكون عليه حياته في تناقض وتباين واضح مع واقعه, خاصة من ناحية حقوق الإنسان, والحقوق السياسية والاجتماعية, وفي بعض البلدان الحقوق الاقتصادية أيضا. ولكن الإحباط النفسي- كما أظهرت الدراسات النفسية- لا يؤدي دائما إلي الانفجار والثورة, بل هو يؤدي في الكثير من الأحيان إلي السلبية وحالة من عدم الانتماء. إذن, فبرغم منطقية الإحباط النفسي كسبب للثورة, فإنه غير كاف لتفسير حدوث الثورة, مما يستوجب البحث عن ظواهر أخري لتفسير ما حدث من الناحية النفسية. يرتبط بمفهوم الإحباط النفسي مفهوم آخر يسمي التنافر العقلي المعرفي, أو عدم التوازن النفسي. وطبقا لهذا المفهوم, يعاني الفرد تنافرا وتباينا بين ما يراه العقل أنه منطقي وسليم, وبين الوضع القائم. هذا التنافر وعدم التوازن النفسي يؤدي إلي حالة من التوتر والقلق النفسي الشديد, الذي يصيب الإنسان بمعاناة لا يستطيع العقل تحملها. تولد هذه المعاناة طاقة عقلية ونفسية قوية, تدفع الإنسان إلي محاولة التغلب علي هذه المعاناة, حيث إن العقل البشري لا يستطيع أن يتحملها لفترة طويلة. لذلك, تدفع هذه المعاناة الإنسان دفعا ليقوم بعمل أي شيء لاستعادة التوازن النفسي. والنتيجة إما أن يقوم الإنسان باستخدام هذه الطاقة العقلية لتغيير واقعه, فيقوم بالثورة علي الواقع, وإما أن يستخدم الطاقة في تغيير رؤيته هو عن الواقع ليرضي عنه, فلا يثور. وعلي ذلك, فإن عدم التوازن النفسي يساعد علي حدوث الثورة, ولكن ليس منفردا. إن اندلاع الثورة يتطلب وجود عدة عوامل نفسية مجتمعة. وفي هذا الإطار, يظهر مستوي تحليلي آخر يساعدنا في تفهم أسباب اندلاع الثورات. فطبقا لنظرية الدوافع, يسعي الإنسان أولا لتحقيق حاجاته الأساسية, مثل المأكل والمشرب والمسكن. فإذا حقق هذه الاحتياجات الأساسية, تظهر لديه دوافع للحصول علي احتياجات أخري, مثل حقوقه السياسية. فقد يثور الإنسان لعدم حصوله علي احتياجاته الأساسية( ثورة الفقراء), أو لحصوله علي احتياجاته الأساسية وتطلعه إلي احتياجته الإنسانية الأخري( ثورة الطبقة المتوسطة). وفي بعض الأحوال, يحدث خليط من الاثنتين. أما الظاهرة النفسية الأخري الجديرة بالتمعن, فهي ظاهرة التوحد النفسي. وقد ابتدع هذا المفهوم الطبيب النفسي الشهير سيجموند فرويد, ويقصد به حالة نفسية لا شعورية تجعل الإنسان يشعر وكأنه اكتسب مشاعر وسمات شخص آخر, مما يجعله يشعر بمعاناته أو حماسته, وأن ما يصيبه كأنما أصابه هو نفسه. حدث ذلك في تونس, حيث رأينا الشعب التونسي, خاصة الشباب, قد حدثت لهم حالة من التوحد النفسي مع محمد بوعزيزي. وفي مصر أيضا, حدثت حالة من التوحد النفسي مع خالد سعيد. دفعت هذه الحالة الشباب في البلدين إلي الانتقال من حالة عدم الرضا واللافعل إلي حالة عدم الرضا والفعل. وعلي مستوي آخر, نجد أن حالة من التوحد النفسي قد حدثت للشعوب العربية مع بعضها بعضا. فبعد نجاح الثورة التونسية في الإطاحة بالرئيس بن علي, توحد معها الشعب المصري, وأقام ثورته, وهكذا دواليك في العديد من الشعوب العربية. كما نجد أن هذه الظاهرة النفسية قد تكررت داخل الحالة الثورية لكل شعب علي حدة. فعلي سبيل المثال, في الثورة المصرية, نزل الشباب أولا, ثم توحد بقية أفراد الشعب معه. أما علي مستوي الطبقات الحاكمة, فنجد أن هناك حالة من الجمود العقلي والانفصال عن الواقع قد أصابتهم في معظم البلاد العربية. اتسمت الأنظمة الحاكمة بالبطء الشديد, وعدم المرونة في التعامل مع الأحداث, مما قد يكون ناتجا عن المرحلة العمرية المتقدمة لمعظم هذه القيادات, وطول فترة البقاء في الحكم. كما أن كثيرا من هذه القيادات أصابتها حالة نفسية يطلق عليها الإنكار النفسي, وفيها يقوم العقل البشري بإنكار وعدم تقبل حقيقة ما يحدث, وخلق واقع آخر. وقد كانت التصريحات المتكررة بأن مصر ليست كتونس, وليبيا ليست كمصر ولا كتونس دليلا علي هذه الحالة. هذه المفاهيم النفسية مجتمعة قد تساعدنا علي محاولة فهم أسباب الثورات العربية, ولكنها بالتاكيد ليست كافية لتقدم رؤية شاملة ووافية لأسباب ما حدث. فالثورة مثل معظم الأحداث الكبيرة تكون نتاج تفاعل تراكمي بين عوامل متعددة, بعضها سياسي, وبعضها اقتصادي واجتماعي, وبعضها نفسي. فإذا كنا نرغب حقيقة في فهم أسباب ما حدث, فيجب علينا عمل دراسة وافية تشمل جميع العوامل السابق ذكرها, وكيف تفاعلت مع بعضعها بعضا. الآثار النفسية للثورات وكما لعبت العوامل النفسية دورا واضحا في قيام الشعوب العربية بالثورة, فإن تلك الثورات العربية وما صاحبها من أحداث لها أيضا تأثيرات نفسية في الشعوب. بعض هذه الآثار النفسية قد يكون إيجابيا, وبعضها قد يكون سلبيا. كما أن بعض الآثار النفسية نتجت عن الثورة نفسها, والبعض الآخر كان نتاج أحداث العنف التي صاحبت وأعقبت الثورات. من الناحية الإيجابية, فقد أظهرت وبلورت الثورات روحا وطاقة إيجابية كانت غائبة عن الشعوب العربية لفترات طويلة. هذه الطاقة الإيجابية يصاحبها شعور بالتفاؤل بأن المستقبل سيكون أفضل, من الناحية النفسية, وهي توفر للعقل المجال والبيئة الصحية التي تجعله يقوم بوظائفه علي أكمل وجه. تمنح هذه الطاقة الإيجابية الإنسان القدرة علي التفكير بطربقة أفضل, بل علي الإبداع والابتكار. كما أنها تدفع الإنسان للتعاون مع الآخرين, والعمل بروح الفريق. هذه الطاقة النفسية الإيجابية تزيد أيضا من شعور الإنسان بالآخر, مما يدفعه إلي مراعاة شعور الآخرين, ومعاملتهم باحترام, والبعد عن محاولة إيذائهم. بل وهي تدفع الإنسان للعمل من أجل مصالحهم وسعادتهم, حيث تختفي الأنانية, وتبزغ روح الإيثار. وقد رأينا ذلك بوضوح في ميدان التحرير في مصر, وغيره من الميادين في بقية البلدان العربية. زادت هذه الثورات من ثقة الناس بأنفسهم, وقدرتهم علي التغيير, وإحداث الفارق في حياتهم, بل وفي مجتمعاتهم, وتبدو هذه الثقة أكثر وضوحا في الأجيال الشابة. فبعد عقود طويلة تم فيها وصمهم بالسطحية والتفاهة والسلبية, جاءت هذه الثورات لتثبت أن ذلك غير حقيقي. فهذه الأجيال هي التي فجرت الثورات, وأثبتت لنفسها وللآخرين أنها إيجابية وقادرة علي الفعل, وتمتلك المعرفة والأدوات العصرية التي تمكنها من إحداث الفارق. ومن الجدير بالذكر أن الطاقة النفسية الإيجابية, وروح التفاؤل, وارتفاع معدل الثقة, تسهم في تحسين الصحة النفسية لأفراد المجتمع, خاصة علي المدي القصير, حيث تكون نشوة نجاح الثورة والأحداث الإيجابية هي الغالبة علي الساحة. ويكون لذلك تأثير واضح في انخفاض معدلات انتشار المعاناة النفسية بين أفراد المجتمع علي المدي القصير. ولكن بالإضافة لهذه الآثار النفسية الإيجابية للثورات العربية, فهناك أيضا آثار نفسية سلبية, ظهر بعضها نتيجة لحدث الثورة ذاته, وبعضها الآخر نتيجة لأحداث العنف التي واكبت وأعقبت تلك الثورات. فمناخ الحرية الذي أفرزته تلك الثورات صاحبه نوع من الانفلات النفسي الناتج عن الإفراط في الإحساس بالحرية الشخصية, فأصبح بعض الناس يتصرفون بحرية مطلقة دون أي اعتبار للقواعد المجتمعية. هذا الإفراط أو الانفلات النفسي يمكن تفسيره بأن الإنسان العربي ظل, لعقود طويلة, في حالة من القهر والكبت النفسي الشديد. وعندما زال هذا الكبت, تولدت طاقة نفسية كبيرة, أدت إلي انفجار انفعالي, وانفلات نفسي, وإفراط مبالغ فيه في استغلال مناخ الحرية الناتج عن نجاح تلك الثورات في الإطاحة بالنظم السلطوية والقهرية. ويمكن تشبيه ما حدث بإناء مغطي مملوء بالماء كان يغلي لوقت طويل, ثم تم رفع الغطاء فجأة, فتدفق البخار خارج الإناء بغزارة وكثافة. التلهف السريع علي الرغبات ظهرت أيضا ظاهرة نفسية سلبية أخري, هي التعجل, أي أن يكون الإنسان في حالة من التلهف علي تحقيق رغباته سريعا, ولا يطيق فكرة أن يصبر, ولو قليلا, حتي تتحقق النتائج الإيجابية المنتظرة. ويظهر ذلك جليا في حجم الاحتجاجات الفئوية التي نشهدها الآن. ورغم أنها في الأعم ترفع مطالب عادلة ومنطقية, فإنها توضح بجلاء هذا التعجل النفسي, الذي يدفع الإنسان إلي اختيار أقصر وأسهل الطرق للوصول إلي ما يريده. وإذا كان الإنسان متدينا, كما هو حال معظم الشعوب العربية, فتتولد عنده القناعة بأن وصول أشخاص متدينين إلي الحكم, بغض النظر عن كفاءتهم, هو أقصر الطرق لتحقيق الرخاء المأمول, والنتائج المرجوة. هذه الرؤية النفسية قد تكون أحد التفسيرات لفوز التيار الديني في الانتخابات, ولكن ما يدعو للقلق والحذر هو: ماذا سيحدث من الناحية النفسية, إذا لم تستطع التيارات الدينية أن تحقق الرخاء المنتظر سريعا؟. كان لتلك الثورات أثر نفسي واضح في انتشار ظاهرتين نفسيتين, هما التمرد اللاشعوري علي السلطة الأبوية, والفجوة النفسية- المعرفية بين الأجيال. وهي ظواهر نفسية موجودة دائما في كل المجتمعات البشرية, ولكن الثورات أدت إلي تفاقمها بشكل كبير. ويظهر ذلك فيما نراه من خلاف واضح بين الأجيال الشابة والأجيال الأكبر سنا من حيث الرؤي, واللغة, والسرعة في المطالبة بتحقيق التغيير. كما زادت ظاهرة التمرد علي السلطة في كثير من أماكن العمل بدون أسباب منطقية, وأصبح واضحا أن هناك حالة من العداء اللاشعوري, وعدم الاحترام بين الأجيال المختلفة. وقد كان لأحداث العنف التي واكبت وأعقبت الثورات آثار نفسية سلبية هي الأخري. فقد أدت تلك الأحداث إلي زيادة في معدلات القلق والتوتر النفسي والخوف من المجهول بين أفراد الشعوب العربية. كما ازداد معدل انتشار أحد الأمراض النفسية الجسيمة الذي يسمي اضطراب ما بعد الصدمة. وهذا المرض يصيب الأفراد الذين تعرضوا إلي أو شاهدوا أحداث عنف جسيمة. وقد تعرض الكثيرون من أفراد الشعوب الثائرة إلي أحداث عنف مباشرة. كما أن من لم يتعرضوا لها مباشرة قد تابعوها عن قرب, من خلال وسائل الإعلام المختلفة. يتمثل هذا المرض في معاناة الإنسان من القلق والخوف الشديد باستمرار, كما تصيبه حالة من التوجس والتحفز والخوف من المستقبل, وتذكر الأحداث العنيفة وكأنها تحدث مرة أخري. وتؤدي تلك المعاناة بالإنسان إلي العزلة, وتجنب الناس, وأي شيء قد يذكره بما حدث. وللأسف الشديد, فإن أكثر الفئات تأثرا بهذا المرض هم الأطفال, مما يؤدي إلي تأخر في نموهم النفسي والاجتماعي والعاطفي. السؤال المنطقي الذي يطرح نفسه علي مجتمعات ما بعد الثورات هو: ما هي الوسائل النفسية التي يمكن من خلالها تفادي هذه الآثار السلبية, والمضي قدما نحو مستقبل أفضل؟. النصيحة الأولي هي تجنب العنف, وتأهيل وعلاج الضحايا في أسرع وقت. كما ينصح بعمل تصالح نفسي مجتمعي يعتمد علي المصارحة والمكاشفة, ثم الاعتذار والتصالح في أسرع وقت. وإذا أضفنا إلي ذلك الشفافية, والوضوح, ووجود خريطة طريق واضحة للمستقبل, تجعل كل فرد علي يقين بأننا علي الطريق السليم إلي تحقيق المأمول, فإننا سنستطيع التقليل من وطأة الآثار السلبية, والتعظيم من الآثار الإيجابية للثورات. وكلما أسرعنا الخطي, كان المستقبل أفضل لشعوبنا ومجتمعاتنا.