بين الواقع والخيال, جري التعامل مع المسألتين بأسلوب يكشف حجم النفاق والازدواجية المهيمنين علي الساحتين السياسية والاعلامية. والنفاق هنا موجه إلي تحالف الثورة المضادة, التي يتودد إليها كثيرون, ومنهم إسلاميون للأسف, يبدو لهم وكأنها تكسب أرضا جديدة يوما بعد يوم. منذ شهور تناول روائي معروف قصة امرأة مريضة بالسكر ظلت تبحث عن صيدلي يعطيها حقنة إنسولين, فلما وجدت صيدليا ملتحيا رفض أن يعطيها الحقنة لأنها امرأة. وفات علي المؤلف أن حقنة الانسولين لا تحتاج إلي صيدلي أو تومرجي لأنها تؤخذ تحت الجلد, ويستطيع المريض أن يحقنها لنفسه. كانت هذه الحكاية مقدمة لمقال يريد المؤلف أن يدلل من خلاله علي عدم أهلية الإسلاميين للحكم. وكذلك, من أجل التدليل علي عدم أهلية الاسلاميين للتشريع. اختلق المسيسون داخل وخارج القضاء أكذوبة مذبحة القضاة, ونصبت وسائط الإعلام عليها سيرك اللطم والصراخ. وقد تأثر البعض بحملة الترويع تلك, ورضخ لها بالوقوف ضد حق نواب الشعب في التشريع, علي الرغم من أن الصخب الإعلامي قائم أساسا علي أكذوبة, وأن مسألة خفض السن, وإن كانت تصحيحا لوضع فاسد بإقرار القضاة أنفسهم, هي ثانوية في مشروع القانون المقترح. ولكن علي الجانب الآخر, عندما وقعت مذبحة النواب في يونيو الماضي, أقامت وسائط الإعلام الأفراح وهلل العلمانيون ورقصوا فرحا علي جثة البرلمان. وكانت الحجة التي استند إليها الشامتون, حينئذ, هي حق القضاة في أن يحكموا كيفما شاءوا. ولكن ماذا عن حق نواب الشوري في التشريع, وخاصة أن الدستور منحهم السلطة التشريعية كاملة؟ إن الهجوم علي هذا الحق يجسد الازدواجية في أقبح صورها. لقد وصل الأمر إلي حد أن نطالب بمساواة الضحية بالجلاد, كما هي الحال مع مطالبة قوي الغرب بأن تتعامل مع المقاومة بالمعايير نفسها التي تتعامل بها مع العدوان. إن البون شاسع بين مذبحة النواب ومذبحة القضاة.. والأكذوبة كلما تضخمت, سهل غسل عقول الناس بها, ولهذا يجري نفخها بتكرار الحديث عنها وعن اتدميرب القضاء أو أخونته أو إخضاعه أو... وعندما تسأل ما مصلحة أي مصري في تدمير القضاء, وكيف بالضبط ستتم أخونته؟!.. لا يجيبك أحد, لأن الغرض من إطلاق هذه الألفاظ المستفزة هو تسميم الأجواء, وتعميق الاحتقان, وترويع الخصوم حتي يظل القرار مترددا واليد مرتعشة والبلد مضطربا, غير قابل للحكم. علي الجانب الآخر, الأدلة عديدة علي أن مذبحة النواب ارتكبت مع سبق إصرار وترصد: تهديد رئيس الحكومة السابق لرئيس البرلمان بأن حكم الحل في الدرج إعلان رئيس نادي القضاة أنهم لو كانوا يعلمون أن الانتخابات ستأتي بهذه الوجوه ما كنا أشرفنا عليها( يقصد وجوه الاسلاميين) إعلان الشخص نفسه وبكل جرأة أنه لن يلتزم بقوانين هذا البرلمان, وكأنه كان يعلم مسبقا بما سيحدث. بين الواقع والخيال, انضم المغرضون وحلفاء الثورة المضادة إلي وسائط الإعلام, بما لديها من تأثير وسطوة علي العقول, من أجل قلب الأمور رأسا علي عقب. فبعد أن استخفوا بالعدوان علي إرادة الشعب, واحتفوا وهللوا له, اختلقوا واقعة خيالية قائمة علي أكاذيب وأقاويل مرسلة. إن كثيرين, ومنهم كاتب هذه السطور, يؤمنون بأن البرلمان السابق تم حله ليس فقط بسبب وجوه أغلبيته, وإنما أيضا لمنعها من مناقشة وإقرار قانون السلطة القضائية. ثم نراهم اليوم يعترضون علي تولي مجلس الشوري هذه المهمة, بزعم.. أولا أنها مهمة البرلمان( الذي حرضوا علي حله ويعرقلون إعادة انتخابه).. وثانيا أن مجلس الشوري غير شرعي لأنه منتخب من7% فقط من قاعدة الناخبين, وهذا زعم يفضح مدي الجهل بالديمقراطية. أن يكون( الشوري) منتخبا من7% من الناخبين, فإن هذا لا ينتقص من شرعيته, كما لا ينتقص من شرعية الرئيس أن يفوز بفارق صوت واحد علي منافسه. إن أكثر قواعد الديمقراطية بداهة تقرر أن كل من يدلي بصوته هو ممثل ومعبر عن إرادة الشعب, وأن كل من يتكاسل عن النزول من بيته ويتقاعس عن الإدلاء بصوته إنما يتقاعس عن تمثيل الشعب, ولا يحق له أن يحتج فيما بعد علي نتيجة التصويت. هناك أيضا قاعدة ألا تزر وازرة وزر أخري.. فلا يمكن أن نأخذ ال7% الذين صوتوا بوزر المتكاسلين والمتقاعسين. نخلص مما سبق إلي أن الشعب منح نواب مجلس الشوري, من خلال إقراره للدستور, حق التشريع وتعديل قانون السلطة القضائية. لقد كتبت منذ أسبوعين تحت عنوان كيف يفكر الإخوان؟ عن التحولات في مواقف وأفكار( الجماعة), التي نتجت عن مستجدات صدمت كل وطني يغار علي ثورته, وعلي رأسها: انقلاب شركائهم علي الثورة بالتحالف مع الثورة المضادة حرب التشويه والشيطنة الإعلامية عليهم, التي انطلقت بعد عشرة أيام من خلع مبارك, والاستمرار بلا توقف في تشويه الحقائق وتضليل الناس وتلبيس الأمور عليهم تسييس القضاء وإقحامه المستمر في الصراع السياسي لمصلحة طرف ضد طرف. إن القضاة المسيسين الذين يصدرون أحكاما تمليها أهواؤهم وتحيزاتهم السياسية يسيئون للقضاء ويهدرون هيبته. وعليه فإننا في أمس الحاجة إلي قانون سلطة قضائية يضع نهاية لتسييس القضاء, ويعيد الثقة المفقودة فيه, ويخدم مصالح الناس قبل مصالح القضاة, ويكون متوافقا مع الدستور, ويضمن تطبيق مبدأ الحساب والعقاب لطمأنة المصريين بأنه لا أحد فوق القانون. لمزيد من مقالات صلاح عز