انطلقت منذ أسبوع حملة إعلامية لترويع الرئيس ومجلس( الشوري) وجماعة( الإخوان), ومعهم مصابو الثورة وأهالي شهدائها الذين شاركوا في مظاهرة تطهير القضاء. وبغض النظر عن التجاوزات المرفوضة, والتي لا تخلو منها مظاهرة, فقد بدا لي أن المقصود من هذه الحملة, وما اقترن بها من اعتداءات علي المظاهرة بالمولوتوف والخرطوش, هو.. من ناحية, ترويع( الإخوان) كلما تظاهروا, حتي ينتبهوا إلي استمرار وضعهم كجماعة محظورة عن التعبير عن الرأي.. ومن ناحية ثانية عدم التعرض لفصيل من القضاة, منحاز إلي أحد أطراف الصراع السياسي.. ومن ناحية ثالثة تشويه أهداف المظاهرة والتشويش عليها بتصريحات مضللة من نوعية' تأميم القضاء أخونة القضاء إخضاع القضاء مذبحة القضاء هدم المؤسسة القضائية هدم الدولة'.. إلخ, وكأنها جريمة لا تغتفر أن يطالب أحد بتنقية ثوب القضاء من البقع السوداء التي تلوثه, أو كأن( الإخوان) وأهالي الشهداء ليسوا مواطنين يحق لهم التعبير عن رأيهم في مسألة هامة تمس حاضرهم ومستقبلهم. لا جدال أن الفساد استشري في جميع قطاعات ومؤسسات الدولة خلال العقود الثلاثة الماضية. غير أن المؤسسة القضائية تبقي هي الأخطر, لأن ترك الفاسدين المسيسين فيها دون مواجهة, يعني أنه بجرة قلم, يستطيع أي قاض مسيس تحويل مصير ثورة وبلد من حال إلي حال. كيف يمكن الحديث عن هيبة واحترام القضاء, بينما القضاة رافضون أو عاجزون عن إزالة البقع السوداء الواضحة أمام الجميع وضوح الشمس. الحالات عديدة والتفاصيل كثيرة والأسماء معروفة. ولهذا انطلقت حملة الترويع ضد مظاهرة أصابت وترا حساسا, كما يبدو.. وإلا أين كان كل هذا الغضب عندما قامت مجموعة من وكلاء النيابة بحصار النائب العام في مكتبه, حتي يقدم استقالته؟ ألم يكن هذا عدوانا صريحا علي هيبة قاض جليل؟ أين كان هذا الغضب عندما أعلن رئيس نادي القضاة قبيل حل البرلمان أنه لن يلتزم بتشريعاته؟ أليس هذا عدوانا من سلطة علي سلطة؟ أين كان هذا الغضب عندما حلت المحكمة الدستورية البرلمان؟ ألم يكن هذا تغولا مشينا لسلطة علي أخري؟ أين كان هذا الغضب عندما قام بعض المعارضين بمحاصرة دار القضاء العالي وإلقاء المولوتوف عليه وإغلاق أبوابه بالسلاسل؟ أم أن السكوت أوالغضب إزاء حدث معين يعتمدان علي طبيعته السياسية؟ وماذا عن مظاهرات الوسائط الإعلامية المستمرة منذ خلع مبارك صباحا ومساء؟ كيف نجرم التظاهر أمام قاعات المحاكم, ولا نجرم المظاهرات الإعلامية التي تعبئ الأجواء بسموم تؤثر علي القضاة وأهاليهم؟ أليس القضاة في النهاية بشر يتأثرون بما يتأثر به الآخرون من حملات تشنها الصحف والفضائيات ضد طرف سياسي معين؟ وإذا فرضنا أنهم قادرون علي عزل أنفسهم عن الإعلام المسيس, فهل يستطيعون عزل أنفسهم عما تغسل به عقول زوجاتهم وأبنائهم ؟. يقودنا ما سبق إلي معضلة أخري.. أيتهما تعلو علي الأخري.. سلطة القضاء أم سلطة الشعب؟ طبقا لتقديرات المستشار زكريا عبد العزيز, فإن90% من القضاة لا يؤمنون بالثورة, وأن موقفهم السلبي هذا' لعب دورا رئيسيا في إفلات رموز النظام السابق من العقوبات التي يستحقونها'. فهل هذا يفسر أيضا الأحكام المتتالية التي تعرقل تقدم الثورة إلي الأمام ؟ وألا يكون من حق ممثلي الشعب حينئذ, أن يهبوا لانقاذ ثورته ليس فقط من التحيزات السياسية لبعض القضاة, وإنما أيضا من تأثير وسائط الإعلام المحتمل علي أحكامهم ؟ لقد رأينا ماذا جري لمصر عندما حكمها المجلس العسكري, فهل نريد تكرار المأساة مع قضاة لا يؤمن أغلبهم بالثورة؟ أليس من حقي كمواطن أن أتظاهر مطالبا بقضاء مستقل عن أي تيار سياسي( لا أخونة ولا علمنة), بدلا مما نراه من تسييس للقضاء علي الفضائيات وفي نادي القضاة لصالح طرف ضد طرف؟ أليس من حقي كمواطن أن أطرح كل هذه الهموم للنقاش, دون أن يتهمني أحد بتدمير القضاء, أو يزايد علي بزعم أنه أحرص مني علي هيبته واحترامه؟. إن كلمة السر في أزمة القضاء هي الثقة, لأن منظومة العدل لا تستوي بدونها, وهي شرط أساسي لفرض الهيبة والاحترام. وحتي تتوافر الثقة لابد من محاسبة ومعاقبة المخطئين والمفسدين داخل السلك القضائي. إن هؤلاء الذين شاركوا في حملة الترويع, ويتشدقون بهيبة واستقلال القضاء, هم أول من يهدر هيبته واستقلاله بتشجيع تسييسه وتمييز أعضائه عن باقي المصريين.. وهذان هما أهم عوامل إهدار الهيبة. ثم كيف لمن أسقط هيبة واستقلال الشعب عندما تمرد علي خياراته في الانتخابات, وانقلب علي قراراته في الاستفتاءات.. كيف له أن يزعم إحترامه لهيبة واستقلال القضاء, والجميع يعلم أن الشعب هو مصدر السلطة القضائية وكل سلطة أخري؟ لقد إتخذوا الإعلان الدستوري ذريعة للانقلاب علي الثورة, بعد انقلابهم علي الديمقراطية منذ مارس2011, حتي لم يبق في النهاية أحد يدافع عن الثورة ويقف بجانب مصابيها وشهدائها سوي حزب( الوسط) وجماعة( الإخوان) وحلفائهما. إن هذا هو مقالي الثالث عن أزمة القضاء بعد مقالين طرحت فيهما تساؤلات كثيرة, عن توقيت وأسباب حكم حل البرلمان والملابسات المريبة التي أحاطت به. هذا الحكم هو الذي أدي التهديد به إلي تراجع( الإخوان) عن قرار عدم الترشح للرئاسة, وأدي صدوره إلي إعلان نوفمبر الدستوري. إن ما أكتبه ينطلق من غيرتي علي هيبة القضاء وحرصي علي فهم ما يجري: لماذا لم تحاسب المستشارة التي تردد انها تآمرت علي البرلمان, وحديثها المنشور في( نيويورك تايمز) يشهد علي ذلك؟ لماذا لم يحاسب النائب العام السابق علي تلقيه' هدايا' من مؤسسات عامة ؟ لقد قال الأستاذ عصام سلطان أن' مسألة رفع الحصانة عن رئيس نادي القضاة هي سبب مقاومة فكرة تطهير القضاء', خاصة بعد مرور ثمانين يوما علي تقديم النيابة العامة طلب رفع الحصانة دون أن يستجاب لهذا الطلب.. فما مدي صحة هذا الأمر؟ نريد أن نفهم ومن حقنا أن نفهم, وتؤخذ تساؤلاتنا بجدية. من حق ملايين المصريين أن يطمئنوا إلي أنه لا توجد جماعة من المصريين فوق القانون, تتميز بتحصينها من الحساب والعقاب مهما فعلت. إن الاستخفاف بحقنا في الفهم لن يحل الأزمة بل سيزيدها تعقيدا, لأننا لن نقبل بتضييع ثورتنا وإهدار حقوق شهدائها ومصابيها. أيها القضاة ساعدونا حتي نستعيد الثقة في قضائنا. لمزيد من مقالات صلاح عز