يبدو عنوان نص الكاتب الكبير صلاح منتصر( الصعود والسقوط), الذي جمعه منذ أيام بين دفتي كتاب, علي نفس وقع وقافية( شروق وغروب).. الفيلم المصري الشهير الذي قدمته السينما المصرية عن قصة اللواء جمال حماد, وإخراج الأستاذ كمال الشيخ, وتشخيص السيدة سعاد حسني والأستاذ رشدي أباظة في أواخر ستينيات القرن الماضي. والذي استدعي تلك المقابلة في ذهني, أن العملين:( التسجيلي في الكتاب) و(الدرامي في الفيلم) ارتبطا بلحظتي انتقال كبيرتين, من الملكية الي الثورة عام1952( في السينما), ومن منصة اغتيال السادات, حيث بدأ صعود مبارك عام1981, الي التمدد في قفص المحاكمة في أغسطس الماضي, حيث تعددت تجليات سقوط الرئيس السابق شخصيا وسياسيا..( في الكتاب). وبيقين فإن الكتاب ليس( رؤية تاريخية) علي الرغم من النفس الوثائقي فيه, وتضمينه شهادات, ومعلومات, وخلفيات للكثير من أحداث انهيار نظام مبارك, وما قبله وبعده مباشرة. ولكنه بدقة يمثل( رؤية سياسية), إذ لم يتخل الأستاذ صلاح منتصر عما تعوده كاتبا وصحفيا من عمليات إبداء رأي جسورة متواصلة, في الوقائع والأشخاص والأحداث التي تعرض لها, وهو ما خالف فكرة التأريخ, وتخطي حدود الواقعة محل البحث:( صعود وسقوط حسني مبارك) الي القراءة النقدية لثورة23 يوليو, أو زعيمها جمال عبدالناصر.. ولا ضرر أو ضرار بالطبيعة في طرحه وجهة نظره علي ذلك النحو الذي ظهر منذ بواكير مقدمة الكتاب, إلا أنه ابتعد بتوصيف النص عن( التاريخي), ودنا به من( السياسي). وفي تقديري أن الكتاب الجميل اكتسب قيمة أكبر حين حمل خاتم كونه( سياسيا), لأنه لم يقف عند حدود رص المعلومات والأحداث والأسرار, وإنما أضاف وجهة نظر الكاتب في تبادلية نشيطة( بين الحدث ووجهة النظر), وهي نفس ما تعوده الأستاذ صلاح( بين الرأي والخبر). ويضاف لحيثيات ابتعاد النص عن كونه تاريخيا, أن مؤلفه بذاته أشار الي أنه حذف الكثير من الرؤي والشهادات بناء علي رجاءات أصحابها, وإيماءه الي أن الكثير من الأسرار والحكايا لم تنكشف بعد علي نحو لا يسمح بتكامل عملية التأريخ. هذا عن توصيف النص.. أما عن مضمونه فقد تجلت فيه قدرة كاتبه الكبري علي التبسيط والترتيب. وأذكر في منتصف التسعينيات من القرن الماضي وقت تولي السيد عمرو موسي حقيبة الخارجية أن ثارت أزمة حول توقيع مصر علي معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية( ضمن عمليات التضاغط التي كان عمرو موسي بطلها ونجمها محققا أكبر النتائج السياسية بأقل المعطيات والإمكانات), ورأي الأستاذ صلاح منتصر أن يعد كتابا علي وجه السرعة, عن المعاهدة والأزمة والمستقبل, وحكي لي عن هذا الكتاب وقت ممارستنا رياضة المشي في نادي الجزيرة, التي انضممنا أثناءها الي السيد عمرو موسي وبعض رفاقه. وشعرت بمدي الدقة المعلوماتية, التي يحرص عليها الأستاذ صلاح منتصر حين راح يسأل وزير الخارجية في عدد من النقاط التي عنت له وشغلته وقت الرياضة, برغم أنه بالقطع حاور الوزير الأسبق لأكثر من مرة حول الموضوع. هذا الملمح بالتحديد هو ما يجعلك تشعر باستمرار ان ذلك الكاتب يقدم لك معلومة تم تحقيقها علي نحو يزيد مصداقيتها. يري الأستاذ صلاح منتصر أن محاولة اغتيال الرئيس السابق عام1995 في أديس أبابا كانت خطا فاصلا بين مباركين, أولهما كان نظيفا متواضعا, وثانيهما كان مستبدا فاسدا, وأن القول بأن ثلاثينية حكمه كلها كانت ضياعا وهوانا هو سبة غير مباشرة لشعب مصر لأنه ظل صامتا طوال تلك السنوات, ونافق حاكمه, وتحمل ما لاقاه وعاشه من فساد.. وبهذا التوازن الذي نظر به( الكاتب) الي( الرئيس), قدم لنا نصا سوف يصعب التعرض لتلك المرحلة الزمنية من دون الاشتباك معه اقتباسا وجدلا وحوارا. وعلي امتداد عشرة فصول يمثلها الكتاب, قام الكاتب بتصدير كل منها بعناوين كثيرة( علي نحو صحفي جدا) لا بل سرب إليها روحه الساخرة الضاحكة التي تظهر في مفارقات من طراز:( يوم المنصة وقف السادات يواجه المعتدين فأصبح شهيدا واختفي مبارك تحت الكراسي فأصبح رئيسا)!! وعبر شهادات متنوعة من مسئولي النظام السابق, أو أعضاء المجلس الأعلي للقوات المسلحة أو مسئولي المخابرات والوزراء والشخصيات العامة, أو حتي من المرتبطين تاريخيا بأحداث الأمن المركزي( فبراير1986) مثل المشير أبوغزالة, أو اللواء عبدالكريم درويش.. رسم صلاح منتصر بورتريها للأحداث, عني فيه بتسجيل انطباعاته وآرائه, وقدم لنا صورة بعض شباب الثورة مثل: مصطفي النجار وعمرو سلامة, ووائل غنيم.. كما حرص علي التزام تقنية كتابة في هذا النص تتقلب بين:( عرض الأحداث) و(تحليلها) و(المدخل الشخصي). تنقل الأستاذ صلاح منتصر في كتابه بين مسارين أحدهما:( الكرنولوجي) الذي عرض أحداث ثورة يناير من زوايا مختلفة, والثاني بلور كل المعلومات في إطار( صعود وسقوط مبارك من المنصة الي المحكمة), حتي لو اضطره ذلك الي التفتيش في بعض المنابع ومنها طريقة اختيار السادات لنائبه.. يعني كان الكتاب تنقلا حرا ما بين النتائج والمقدمات أو العكس, وبالشكل الذي كان صلاح منتصر يري أنه يفيد عرض الأحداث والوقائع, وراح في هذا يتمدد الي كل أصل أو مصدر يدعم تلك التقنية, حتي لو كان ما ورد في مفكراته الشخصية عن لقاء أصدقاء( رفعت السعيد منصور حسن أسامة الغزالي حرب وصلاح دياب 8 يوليو2005), أو اجتماعات مبارك بالكتاب, أو اجتماعات الحزب الوطني, وبالطبع فإن واحدا من الفصول التي رأيتها من أكثر فصول الكتاب إثارة, ليس ما يتعلق بأحداث الثورة نفسها, التي أكد الكاتب أنها لم تنكشف بعد علي نحو كامل, كان الفصل السادس:(8 رؤساء للوزراء في30 سنة) الذي أظنه الأكثر وضوحا واكتمالا في وصف حكم مبارك وبلاطه, والطريقة التي تشكلت بها أجهزته التنفيذية أو اقتراباته من الأشخاص الذين عاونوه أو استعان بهم, وأحد الفصول التي رأيت فيها أكبر استفادة من خبرة الكاتب الشخصية, ومعرفته التخصصية كان الفصل الثامن:( تصدير الغاز.. الباب السري لتبديد ثروة شعب).. إذ أن صلاح منتصر هو واحد من أوائل المتخصصين في البترول بالصحافة المصرية. وفي فصل( الأمن والحكم) يقدم لنا صلاح منتصر أيضا موزاييك بديع لنمط الحكم الذي كان سائدا في البلاد, ومدي حضور الهاجس الأمني في فكر وإحساس الرئيس. كتاب صلاح منتصر إضافة سياسية مهمة في مناقشة ما جري في أثناء الثورة وقبلها, ومراكمة جاءت علي قدر مقام الكاتب الكبير الذي جعل من كتابه/الوثيقة:( الصعود والسقوط) نصا لايمكن تجاهله حين ذكر25 يناير. المزيد من مقالات د. عمرو عبد السميع