ها أنتِ تعرفين: راحت بعض الحقائق تطوف المدينة عامًا بعد عام، تتلوي هنا وهناك، لكن سرعان ما التصق بعضها بكل قوة بكسوة الحوائط، وبلحاء الأشجار، وبجِلد إنسان غريب، في نقطة محددة. ها أنتِ اليوم تعرفين بالأمر. لكنكِ وقتَها ظننتِ أنها ستتجمد إلي الأبد، وستختفي في الأعماق فوق السقف، حيث تنفرج القبة السماوية. لكن العِفريت الصغير يحتضنك بين ذراعيه بكل إحكام، فلطالما سجنْتِه في جوفك الذي ظل يقرعه. ليته عرف علي الأقل كيف ينطق حرف النون! "لن تنفرج، لن تنفرج، لا شيء هناك ينفرج!" ولأنكِ جوعانة مثل حيوان ظل لأسابيع وأشهر قابعًا في أعماق ملتهبة بإحدي الجُزُر، غير قادر علي فهم ملامحه المثالية، ما زلتِ راضية بقسوة ما مرَّ بكِ، بصورة الماضي، وبهيكل لوحة مجردة. وضعها رَجُلَا الإسعاف بزيهما الورديّ فوق السرير، ثم صَفَقَا الباب. قالت وهي تخاطب الفراغ الضيق الذي تزاحموا فيه لعدة سنوات: أنا مثل تلك الضفدعة. ضفدعة في بئر ماء، انفجرت جمجمتها عندما رأت البحر لأول مرة. انطلقوا في طريقهم يجوبون المدينة، يتباطؤون عند تقاطعات الطرق ثم ينطلقون. وهي تتأرجح فوق السرير، تستند بكفها علي سقف السيارة، وتنظر إلي أعلي. إلي ما وراء السقف، حيث السماء مفعمة بسُحُب فبراير، ورياح هائجة تهب عكس اتجاه عربة الإسعاف. كتل الجليد تنوء بها سحبٌ تَجْأَر وتدوِّي، وتبحر إلي سماء أخري مختلفة، غير هذه السماء. وشيء ما يثور أثناء الحركة. شيء له اسم، لكنها نسيت اسمه. "أشرب... أرجوك! أعطني ماءً...". ها هي تتذكر اسمه. إنه العطش. عطش شديد لم تشعر بمثله من قبل. التف إليها رأسٌ بشعر أحمر لامرأة عارية، تضع وَشْمًا فوق مؤخرة عنقها البدين، استدارت وقالت بنظرة شاردة: "ليس لديَّ ماء يا سيدتي. اهدئي من فضلك! ها نحن نقترب، وبالتأكيد سيعطونكِ هناك شيئًا تشربينه...". أخذت تتوسل من جديد وهي تري رجلًا في مقدمة السيارة يرتشف الماء من زجاجة بلاستيكية: أعطوني ولو قطرة ماء واحدة.... ليحملوني إلي حيث يريدون. الشيء الوحيد الذي معي الآن هو تلك الحقيبة التي أحملها علي ظهري. هل تعرف "ريبكا" ما هي حقيبة الظَّهر؟ هل تعرف ما هو الجِراب؟ أو كيس الزاد؟ عندما أعود... تختلط السحب التي تنظر إليها مع سقوف مسطحة لمبانٍ شاهقة، "سيمنس"، و"مايكروسوفت"، و"هيولد باكار". تشد أربطتها سعيًا للحصول علي الماء، علي قطرة ماء واحدة، تشققت شفتاها من العطش، تجاهد كي تتذكر إحدي الشتائم، لكنها نسيتها جميعًا بعد كل تلك الأعوام التي قضتها مع "داليبور"، صمت خلالها الحديث الخشن. تحمّلي يا سيدتي! نحن علي وشك الوصول! لا تغضبي مني، فأنا رجل بسيط، وهناك رجل غيري مسؤوليته أن يعطيكِ الماء.... ما هذه اللغة الغريبة؟ ربما أنها تعثّرت في إكمال المزحة، فتدخّل هذا الرجل الأحمر ليكملها. وعندما ينتهي هذا المسكين من مزحته التي يحكها للسائق، وتخرج من فمه في لحظة صمت مربكة. يتوجه بعدها مباشرة إلي البيت. نحن علي وشك الوصول، لكن إلي أين؟ يشعل أحدهم الورقة كي يخفي الدليل، فتأكلها النيران علي مهل في حوض الاغتسال. شفاه جافَّة، وأوراق قديمة، وأفرع جافة تتصدع تحت الأقدام. يترك مقاطع الكلمات تهرب منه في هدوء، والسماء يحجبها العطش، وسُلطة غاشمة تُخبئ كل ما ظهر لها. لم تعد هناك بوابة خروج، ولا سيارة إسعاف تتحرك من مكان إلي مكان، اختفت حقيبة الظَّهر بجوارها، ولم تعد هناك ذكري ل "ريبكا". تجاوزت العطش، ونَهَرَت كبدها، اعتصرت كل وجودها حتي صار جافًّا، ثم ألقت به في الصحراء كخِرْقة بالية. يا "ريبكا"! أنتِ لا تعرفين ما كُنت أضعه في الحقيبة عندما ذهبنا في جولة إلي منطقة "شاركا"، وإلي وادي "بركوبسكي"، وعندما مررنا بمدينة "بيرونكا" فوق أرض صفراء تطوق مستعمرات البيوت الريفيّة، ننتعل حذاءً رياضيًّا. وضعوا بيني وبين علامات الطريق، وبيني وبينكِ كومةً من الكذب لم أستطع يومًا أن أتخلص منها، هل ما زالوا ينتجون تلك الأحذية الرياضيّة؟ لا أحمل الآن في حقيبتي ضمادات جروح، ولا بطاقة تطعيم، ولا خبزًا مدهونًا بعجين السجقّ الذي التصقت رائحته بكل شيء. كان عليّ أن أُرسل لكِ رسالة قصيرة من الهاتف كي لا تنزعجي، كي لا تجوبي المستشفيات غدًا وأنتِ خائفة، تبحثين في كل الحالات الطارئة التي دخلت المستشفي، وفي مشارح الجثث، لكن جسدي المُوثّق بالأربطة قد تحول إلي حَجَر، وصار مثل نُصب تذكاريّ. أحاول أن أرفع ذراعي، لكنه صار كحَجَر رمليّ، أو حجر من الجرانيت، أو المرمر، ولم يعد ذراعي، استلقي هامدًا بجوار جسد غريب، مثل قدمي أبي الهول. عربة الإسعاف تسير بلا توقف. وفوق السقف مبانٍ زجاجية تَمْرُق، تري العمال يضعون إعلانات ضوئية. ترفع رأسها لتصل إليها، إلي إعلان عن بيرة استارو برامنب الذي صُنِع من مصابيح مُلوّنة. تُحلّق وتشرب ذلك الصدأ الوامض اللاذع، والبارد. تصوِّب نظرها نحو خفّ ترتديه، برز نحو السحاب فوق عربة الإسعاف. فجأة أعجبها منظره، إنه خفّ وَبَريّ بنفسجي اللون. من المؤكد أنه من عند الباعة الفيتناميين، أهدته لها أمُّها في أعياد الميلاد. التفت الرجل الأحمر حوله باندهاش. المرأة تضحك كالمجنونة، فقد اعتقدت أن شيئًا تافهًا مثل ذلك الخفّ الذي تضعه في قدميها سيصبح بالضرورة ضامنًا لنهاية سعيدة. الهروب. الفرار. المغادرة قبل أن تنفجر سيارة الإسعاف مثل كتلة جليد أبيض. إلي أين تأخذونني؟ صمتت المرأة، وأتت بإيماءات نسائية، وشرود في الفراغ الأحمر. ابتلع الرجل لكنته، وأخذ يتطلع إلي الطريق في صمت. وفجأة تثاءب بصوت عالٍ حتي جعل المرأة التي كانت مستلقية طوال الوقت تعتدل في جلستها بهمّة، واخضّر لونها. ربما لأنها كانت تشرب عصير ال "موخيتو" بالثلج. لكنها هي من طلب هذا الشراب! إنها تجلس مع أمها في مقهي تكعيبيّ، والنادل يضع أمامها كأسين، وطبقًا صغيرًا به إكليل من الخبز. إنه بالطبع إكليل مربّع الشكل، فهو مقهي تكعيبيّ. ويجلس عازف موسيقيّ أمام البيانو. مفاصل عظامه تطقطق عاليًا وهو يعبث مُرهقًا في مفاتيح البيانو. تقول أمي عند سماع أوّل نغمة هادرة: أردت أن أتحدّث معكِ، لكن كيف وسط هذا الضجيج.... وأنا، لست هذه المرأة ذات الوشم، أرتشف عصير ال »موخيتو"، وأبتسم، السبب: - ألا تستمعين يا أمي إلي ما يعزفه؟ ثم تنطلق أحباله الصوتية البالية بصوت عاطفيّ، وتقول: يا بو العيون السود، يا بو العيون الجريئة يا بو العيون الجميلة أحبك، وأخاف منك أمي لا تصدق أنها مجرد صدفة، وأني لم أطلب من عازف البيانو أن يغنيها. ثم تدسّ الملعقة بكل رضا في إكليل الخبز المكعّب. تقول دون أن تصرخ: إلي أين تأخذوني؟ صراخ دفين. تروّض لهجتها كي تبدأ حديثًا طبيعيًّا وموضوعيًّا، ومهذبًّا يليق بالبشر. لكن الرجل صمت. توقف حتي عن سرد النكات عن الغجر والْمِثْليين لزميله الذي يجلس خلف عجلة القيادة. توقفت عربة الإسعاف فجأة. وطَرقت الأبواب. ومرّ وقت طويل دون أن يحدث أيّ شيء. أنا أحلم، لكني لا أحلم بشراب ال »مخيوتو". فهذا لا يليق، إنهم ذاهبون لشراء ماء كي أشرب، فهم لا يُقِلّون جمادًا، أو قطعة حجر رمليّ ترتدي خفًّا. يصبُّون الماء في زجاجة بلاستيكيّة في أحد الحمامات بجوار محطة البنزين، ويشترون قهوة جاهزة. سائق عربة الإسعاف يشربها مُحلَّاة، ورجل الإسعاف بدون سكر. يشترون أيضًا شريحة خبز مُغلّفة، ومقبّلات بطعم لحم الخنزير المقدَّد. نبع ماء حارّ يتدفق أمام السيارة فوق الطريق. السحب فوق المدينة تتصدّع، وتيار الماء يتوجه مباشرة إلي داخل فمي. وثلاث سيدات إيطاليات سمينات يضحكن، ويثرثرن وهن يَمِلن علي مصدر المياه في يوم صيفيّ حارّ. السادس عشر من يوليو، الساعة الواحدة والربع، عام 2008. أم أنه كان وفي وقت آخر؟ هل هذا مُهِمّ؟ أضع كفِّي أسفل نبع يتدفّق من فوق الجبال. وأنتِ معي. أتابع ظهركِ المائل، الذي يشبه ظهر صبيِّة ضعيفة. وأتابع خطواتكِ القوية التي تقول: هلُمِّ بنا! كُفّي عن التقلب في الفراش بهذه الكآبة، وانهضي! انصرفي! تبختري! امشي! سِيري! امشي بخطوات واسعة فوق هذه الأرض! اضربي بقدميك، واصعدي التلّ! انزلي من فوق التلّ سريعًا! تنفّسي بعمق كما كانت أمك تقول لكِ وأنت فتاة صغيرة. يا إلهي! أنتِ تتنفسين مثل امرأة تَلِد. عليكِ أن تأخذي نفسًا عميقًا! استنشقي الروائح، أنصتي إلي الحسيس القادم من خلف الشجرة لنعرف إن كان صوت حيوان أم صوت حجَر. انظري إلي ذلك التل المتداع، وإلي الفطر النابت أسفله. ما هي آخر مرة عثرتي فيها علي فطر حقيقي أبيض؟ رياح تهبّ فوق رؤوس الأشجار، وبين أصابع نسيج العنكبوت، وبعوضة تجلس علي كتفك وسط نقطة من دمكِ. تعطيني لأشرب من كفيكِ، لكنني لا أستطيع، ما نالني منه سوي أن بللت وجهي. امتلأت قدماي بالبثور وما زال أمامي عشرة كيلومترات. وفجأة نري مَرْجًا فسيحًا في الوادي، مَرْجًا غارقًا في أشعة شمس المغيب. أحتضنكِ، وكأنني أفعلها لآخر مرة. أين هي تلك اللحظة؟ من سيجدها في جسدي الذي تحوّل الآن إلي تمثال صخريّ؟ أين هي هذه اللحظة... من سيعثر عليها... ولسانكِ في فمي، طعم التوت، رُضابكِ، الحياة. أخيرًا. فتح الرجل الباب، ثم صفعه مرة أخري بقوة. وجلس بجوارها فوق المقعد رجل يرتدي معطفًا جلديًّا. نتأت فوق وجهه نظارة بلاستيكية مُربّعة. كان يشبه "آندي وارهول" قليلًا. همسَت بعدما انطلقت السيارة: أليس لديكم شيء أشربه. أنا أموت من العطش. رفع إليها بصره متثاقلًا، غير مبالٍ بالرد علي تمثال مغلول يرتدي خفًّا بنفسجيّ اللون، وفوق بطنه حقيبة رَثّة. في تلك العَجَلة لم تعثر في الصندوق علي حقيبة أخري. تَحَوّل عنها ببصره دون أن ينبس بكلمة واحدة. سأتركهم يحملوني إلي حيث يريدون يا "ريبكا" حتي أكفّر عما سببته لكِ. سأظل أطوف في أروقة المستشفيات، وأندسّ في أحشاء الأنابيب. أغطي نفسي أثناء الليل بثرثرة العجائز وأبنائهم عند الأسِرّة المتقرحة. أبناؤهم الذين سئموا من إضاعة الوقت وسط روائح المستشفيات الكريهة. أدخُل إلي رأسي لأُكفّر عن ثرثرة العالم التي لا تنتهي، وصرخة زاعقة لأولاد ماجنة. انظري! تابعيني وأنا أخرج إلي فناء السجن، ضعيفة ومرهقة. أسكب المرق من الغلاية علي قميصي، وأيادي اللصوص الناعمة تتحسسني أثناء الليل. أنصرف إلي صلوات باردة مثل مياه نهر "فلتافا" في شهر يناير، أو أتسمر في فقاعات الصمت إلي الأبد. ثم تأتي قفزات سريعة، انبطاح وانتصاب، انتصاب وانبطاح، أطوف حول جبل "كايلاس" الذي تحوم فوقه النسور. فعند سفحه تمني جدّكِ أن يُقطعوه إرْبًا إرْبًا حتي الموت. ليحملوني إلي أي مكان غير الحديقة. يعاودون الطواف في المدينة فوق رؤوس القطط، وعلي الأسفلت، ويتوقفون عند الإشارات الضوئية. فجأة تنقلب زإيماس علي جانبها بقدر ما تسمح به أربطة السرير، وتتقيأ، تتقيأ تحت قدميْ "آندي وارهول". تلمع علي أرض سيارة الإسعاف بقعة علي شكل قنديل البحر الصغير، فقاعة رسوم هزليّة نسوا أن يكتبوا فيها نصًّا. سألتهما: ألا ترغبان في أن تلعبا معي لعبة البريد الصامت؟ "آندي" لا يفهم كيف سيلعبها معها. فالبريد الصامت لعبة من فرد واحد. فبدأت تلعب مع نفسها. تهمس، وتثرثر، وتتلعثم، وتواصل إرسال الطرود. فجأة عنَت لها فكرة: ماذا لو عكست الأمر في هذه اللعبة، ماذا لو وُلِدت كلمة واضحة المعالم في نهاية اللغو الأوليّ، مثلًا: كلمة "حديقة"، تراها نابضة وكأنها خُلِقت منذ لحظات. هذه السخرية من الاتساق، كَوْنٌ قبيح تحوّل إلي شكل ثلاثيّ الأضلاع. وطيور نافقة تتساقط بغزارة في النبع في جماعات. ويمر به مسافرون عرايا فوق ظهور الخنازير، يعبرون أرضًا مظلمة، مُطرّزة بومضات الضوء. يلتهم البابا-الشيطان طعامًا فوق كرسيِّه الوثير، ويندد بالفاسدين، ومن حوله موسيقي جهنمية، وشيطان صغير يحمل طبلة، سجنوا بداخلها طفلًا وليدًا. هنا عقارب، ورجل مصلوب فوق القيثارة، وهناك أذنان معلقتان فوق إبرة، ويبرز منهما مقبض سكين. التفتت نحوها النظارة متسائلة: البابا-الشيطان يلتهم الطعام هناك...؟ ألا تعرف إلي أين يأخذوننا؟ هل لديكِ شيئًا نشربه؟ أخيرًا يتحدّث "آندي وارهول"، ويقول: لا أعرف، يبدو أنكِ تشعرين بالبرد. خلع "آندي وارهول" معطفه الجلديّ، وبسطه عليها حتي ذقنها. أيقول رجل الإسعاف شيئًا ما في جهاز اللاسلكي؟ الآن انتبهت إلي أن بوق سيارة الإسعاف لم يكن يعمل. من حسن الحظّ أنها ليست مهمة علي الإطلاق، ولا حتّي وارهول. ليست حالة طارئة. كان عليها أن تجرّب مغادرة قسم الطوارئ في مستشفي "موتول" وهي تمشي علي قدميها، وتترك لهم دمية من المطاط الصناعيّ فوق سريرها، ثم تصل إلي بيتها، وتنام، أخيرًا بدون حبات الدواء. تنام أربعًا وعشرين ساعة، ثم تستيقظ، ترفع الستائر المعدنية، وتذهب إلي العمل، ثم تتناول الغداء مع "ريبكا". وفي المساء تشعل الشموع، وتشغّل أسطوانة ل "نيكو"، ثم تنتظر أن تدقّ "ديتا" جرس الباب. تتحدّث معها، وتضحك، ثم تقضيان الليل في المضاجعة. تستيقظ، وترفع الستائر المعدنية، وتذهب إلي العمل، ثم تتصل ب "ريبكا"، وتدعو أمها لتناول ال "موخيتو"، وإكليل الخبز المكعب في المطعم. ببساطة تتحرك في جوف الحياة اليومية الآمن. تنام طويلًا. لا تُولد الآن. تنام أخيرًا بعد كل تلك السنوات، بدون أقراص. هل ما زال جسمها قادرًا علي أن يفعل شيئًا كهذا؟ - هل كنتِ تُعالَجين من قَبْل من مرضٍ نفسيّ؟ مرت ثلاث ساعات وهي ترقد في قسم الاستقبال بمستشفي "مُوتُول"، ويسري في عروقها سُمٌّ آخر. سُمٌّ آخر يضاف إلي ما تجرَّعَتْه خلال اليوم والليل. ظهر طبيب بجوار الستارة العازلة ينادي علي امرأة تعرّضت لأزمة سُكر: هل تسمعيني يا سيدة "فوراتشكوفا"؟ حرِّكي عينيكِ إن كنتِ تسمعينني! سمعت زإيماس صوته القويَّ من جديد، يرتفع حتي السقف، ويرتدّ إلي أرض الغرفة. بصيص أمل شامانيّ يوقظ الموتي. طلبَتْ منهم ثلاث مرات أن يُحضروا لها وعاءً، وتمنّت للمرة المليون أن تنهض، وتشكرهم علي الرعاية، ثم تنصرف. وما إن رفعت جسدها قليلًا حتي اهتزّ المكان، ودار، وتحول إلي دوائر لولبية. فتراجعت عما انتوَتْه. - علي مدي أكثر من عام وأنا أنام بدون ألم بعد تناول تلك الأقراص. - هيّا يا سيدة "فوراتشكوفا"، ها أنتِ تستردين وعيكِ! أتسمعينني؟ - كم قرصًا تناولتِه اليوم؟ نطقت رقمًا ما بصورة عشوائية، ربما خمسة أقراص. لم تتغيّر ملامح وجه الطبيب علي الإطلاق. كانت تعرف كل شيء، وتري كل شيء، وتوقعت كل ما حدث لها. - يجب أن تنتظري عربة الإسعاف. وبعدها بساعة، أو بساعتين، أو بدهر كامل، وضعها رجلا الإسعاف فوق السرير، وصفقا الباب. ثم انطلقا يخترقان شوارع المدينة. السماء مفعمة بسُحُب فبراير، ورياح هائجة تهبُّ في الاتجاه المعاكس للسيارة. السحب تتصدع، وتصير ثقيلة مثل جبال الجليد. شيء آخر رأته هناك، فوق مدينة براغ: طائري "لقلق" يحلقان برشاقة غير معهودة ومعهما خفّ أبيض يدور. يختفيان ثم يظهران من جديد من بين السحب الداكنة. لم تقدر علي أن تحوّل بصرها عن ذلك المشهد. أخذت تتابع خطوط سيرهما الرشيقة وهي تتداخل، ثم تتباعد. خلَّفا وراءهما في السماء -مثل الطائرات -شبكة من الخطوط. وسرعان ما اختفت من أمام عينيها، ثم ظهرت هناك من جديد. كانا يلعبان لعبة الجدّة. يطارد أحدهما الآخر وسط أكوام الثلوج العالقة في السماء. في لعبة الخفّ الفاتنة هذه ظهر شيء ما يثير القلق والكآبة. شظية ما علقت تحت الجلد. فجأة فهمت الأمر: ابتعد كل منهما عن الآخر إلي الأبد أثناء الرقص المُربك. كان ذلك آخر يوم لهما معًا في "ليمني كيري". رصوا الحقائب في الحافلة، وانتظروا السائق. تعالِ نذهب إلي الصخور لنودِّعها. من يدري متي سنري البحر مرة أخري... السائق لن يأتي الآن، فتقدير الوقت في هذه البلدة مختلف تمامًا. أراد "داليبور" بذلك أن يقول إن السائق قد استغرق في الحديث مع موظفة الخزينة اللَّبِقة التي تعمل في متجر المدينة. الوقوف هنا اندفعا سريعًا نحو الصخور التي سقطت بقوة في خليج صغير. لاطمت الموجة الثالثة والخامسة والسابعة كتل الأحجار، وأغرقتها بالكامل. انظري! إنه يعاود السباحة. رأت نقطة صغيرة سوداء وسط البحر، علي مسافة بعيدة جدًّا عن الشاطئ. رأت رأس "سَبَّاحهما" دقيقة، بعيدة لا تكاد تراها. يختفي ذلك السبّاح كل صباح وكل مساء في مياه المحيط. عرفاه، مجرد نقطة تطفو فوق السطح، ثم تختفي وسط المحيط الشاسع، لم يره يومًا وهو يسقط في البحر أو يخرج منه. لم يعرفا كينونته، ولا شكله. لن يفعلا شيئًا لو أن هذا الإنسان -رجلًا كان أو امرأة -غطس في الماء ولم يخرج منه إلي الأبد، لو أنهما صارا شاهدين علي غرقه هناك، في تلك المنطقة النائية. الموت، متناهي الصغر مثل رأس دبوس، قد لا يكون حدثًا مهمًّا، بل أمرًا ثانويًّا في حركة سرمدية غير مبالية لفضاء أزرق مترامٍ. مجرد موجة وسط أمواج لا تحصي. ببساطة سينزلان من فوق الصخور، ويصعدان الحافلة، ويشتريان في المطار آخِر زجاجة بيرة "ميتوس" اليونانية، ثم يركبان الطائرة عائدين إلي مدينة "براغ". من الأفضل أن تكفَّ عن مراقبة ذلك المثابِر. دافع مفاجئ جعلها تخلع الخفَّ الفليني، وتبسط ذراعيها، ثم تلقي به في البحر. اختفي الخفُّ وسط زَبَد البحر. لم تكن واثقة من أنه سيطفو فوق الماء. أرادت أن تستدير وتنصرف، لكن "داليبور" أمسك بمعصمها. فالخف الأبيض قد طفا فوق السطح، وأخذ يتراقص بشكل جنونيّ وسط الأمواج. زوج منه تحرّك نحو الشاطئ، واتجه الآخر نحو البحر الواسع. ظهرت أحيانًا موجة تقرّب فردتَيِ الْخف من بعضهما، ثم تلاحقت موجات أخري لتفرقهما عن بعضهما. لِمَ فعلتِ ذلك؟ نظرت إلي "داليبور" في دهشة. رجل نحيف، يرتدي نظارة، بِلِحية خفيفة. لم يبادلها النظرات. أخذ يتابع رقصات فردَتَيِ الخف الأبيض وهما تتباعدان. أنف لفحتها الشمس وكأنها أرادت أن تتحرر من الجسد، و ... وماذا؟ هل سيقفز من فوق الصخر، ويسبح إلي هناك. تخيلت أنه سيفعل. لكنه لم يفعل. ف "داليبور" لن يبلِّل نفسه بالماء من أجل خفٍّ.