أحمد سليمان: الزمالك جاهز لمواجهة دريمز.. ولدينا ثقة في جميع اللاعبين    أرتيتا: لاعبان يمثلان صداع لي.. ولا يمكننا السيطرة على مانشستر سيتي    بلينكن يهدد الصين: مستعدون لفرض عقوبات جديدة بسبب أوكرانيا    رئيس مياه القناة: تكثيف أعمال الملس والتطهير لشبكات الصرف الصحي    الفريق أسامة ربيع يبحث مع "هيونداي" سبل التطوير في مجال الخدمات اللوجيستية    عاصفة ترابية شديدة تضرب مدن الأقصر    جماهير بايرن ميونخ يوقعون على عريضة لبقاء توخيل    تامر حسني يبدأ تصوير فيلم «ري ستارت» في مايو    رحلة فاطمة محمد علي من خشبة المسرح لنجومية السوشيال ميديا ب ثلاثي البهجة    وفد جامعة المنصورة الجديدة يزور جامعة نوتنجهام ترنت بالمملكة المتحدة لتبادل الخبرات    عاجل| مصدر أمني: استمرار الاتصالات مع الجانب الإسرائيلي للوصول لصيغة اتفاق هدنة في غزة    وزير الخارجية الروسي يبحث هاتفيا مع نظيره البحريني الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والتصعيد بالبحر الأحمر    التربية للطفولة المبكرة أسيوط تنظم مؤتمرها الدولي الخامس عن "الموهبة والإبداع والذكاء الأصطناعي"    ذاكرة الزمان المصرى 25أبريل….. الذكرى 42 لتحرير سيناء.    الآلاف من أطباء الأسنان يُدلون بأصواتهم لاختيار النقيب العام وأعضاء المجلس    مصطفى عسل يتأهل لنهائي بطولة الجونة للإسكواش ويستعد لمواجهة حامل اللقب "على فرج"| فيديو    أسعار الذهب فى مصر اليوم الجمعة 26 أبريل 2024    والدة الشاب المعاق ذهنيا تتظلم بعد إخلاء سبيل المتهم    وزير التنمية المحلية يعلن بدء تطبيق المواعيد الصيفية لفتح وغلق المحال العامة    خبراء الضرائب: غموض موقف ضريبة الأرباح الرأسمالية يهدد بخسائر فادحة للبورصة    «الصحة»: فحص 434 ألف طفل حديث الولادة ضمن مبادرة الكشف المبكر عن الأمراض الوراثية    مزارع يقتل آخر في أسيوط بسبب خلافات الجيرة    أول تعليق من كلوب على إهدار صلاح ونونيز للفرص السهلة    مدينة أوروبية تستعد لحظر الآيس كريم والبيتزا بعد منتصف الليل (تعرف على السبب)    "الدفاع الروسية": "مستشارون أجانب" يشاركون مباشرة في التحضير لعمليات تخريب أوكرانية في بلادنا    «التعليم» تستعرض خطة مواجهة الكثافات الطلابية على مدار 10 سنوات    25 مليون جنيه.. الداخلية توجه ضربة جديدة لتجار الدولار    «مسجل خطر» أطلق النار عليهما.. نقيب المحامين ينعى شهيدا المحاماة بأسيوط (تفاصيل)    وزارة الأوقاف تحدد موضوع خطبة الجمعة 3 مايو    حصاد الزراعة.. البدء الفوري في تنفيذ أنشطة مشروع التحول المستدام لإنتاج المحاصيل    إيرادات الخميس.. شباك التذاكر يحقق 3 ملايين و349 ألف جنيه    فعاليات وأنشطة ثقافية وفنية متنوعة بقصور الثقافة بشمال سيناء    خطيب الأوقاف: الله تعالى خص أمتنا بأكمل الشرائع وأقوم المناهج    الناتو يخلق تهديدات إضافية.. الدفاع الروسية تحذر من "عواقب كارثية" لمحطة زابوريجيا النووية    قافلة جامعة المنيا الخدمية توقع الكشف الطبي على 680 حالة بالناصرية    طريقة عمل ورق العنب باللحم، سهلة وبسيطة وغير مكلفة    خير يوم طلعت عليه الشمس.. 5 آداب وأحكام شرعية عن يوم الجمعة يجب أن تعرفها    مواقيت الصلاة بعد تطبيق التوقيت الصيفي 2024.. في القاهرة والمحافظات    استمرار فعاليات البطولة العربية العسكرية للفروسية بالعاصمة الإدارية    الإسكان: تنفيذ 24432 وحدة سكنية بمبادرة سكن لكل المصريين في منطقة غرب المطار بأكتوبر الجديدة    نجاح مستشفى التأمين ببني سويف في تركيب مسمار تليسكوبى لطفل مصاب بالعظام الزجاجية    سميرة أحمد ضيفة إيمان أبوطالب في «بالخط العريض» الليلة    أمن القاهرة يكشف غموض بلاغات سرقة ويضبط الجناة | صور    وزير الخارجية الصيني يحذر من خطر تفاقم الأزمة الأوكرانية    بث مباشر.. شعائر صلاة الجمعة من الحرمين الشريفين    تأجيل الانتخابات البلدية في لبنان حتى 2025    تشكيل الشباب المتوقع أمام اتحاد جدة في الدوري السعودي    موعد اجتماع البنك المركزي المقبل.. 23 مايو    عرض افلام "ثالثهما" وباب البحر" و' البر المزيون" بنادي سينما اوبرا الاسكندرية    الشركة المالكة ل«تيك توك» ترغب في إغلاق التطبيق بأمريكا.. ما القصة؟    طرق بسيطة للاحتفال بيوم شم النسيم 2024.. «استمتعي مع أسرتك»    رمضان صبحي: نفتقد عبد الله السعيد في بيراميدز..وأتمنى له التوفيق مع الزمالك    منها «عدم الإفراط في الكافيين».. 3 نصائح لتقليل تأثير التوقيت الصيفي على صحتك    توقعات الأبراج اليوم الجمعة 26 أبريل 2024.. «الحوت» يحصل علي مكافأة وأخبار جيدة ل«الجدي»    فضل أدعية الرزق: رحلة الاعتماد على الله وتحقيق السعادة المادية والروحية    أدعية السفر: مفتاح الراحة والسلامة في رحلتك    سلمى أبوضيف: «أعلى نسبة مشاهدة» نقطة تحول بالنسبة لي (فيديو)    أطفال غزة يشاركون تامر حسني الغناء خلال احتفالية مجلس القبائل والعائلات المصرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كونشيرتو القدس
نشر في أخبار الأدب يوم 16 - 10 - 2010


I. موجز سماوي
عالياً عالياً،
انظروا إليها تتدلّي من عُنقِ السَّماء.
انظروا إليها تُسيَّجُ بأهداب الملائكة.
لا يَسْتَخدمْ أحدٌ قدميه في التوجّه إليها،
يمكن أن يستخدمَ جبينَه، والكتف، وربّما السرّة.
اقرعوا بابَها حُفَاةً،
يفتحهُ نبيٌّ يُعلّمكم السّيرَ، وكيف تَنحنون.
مَسرَحٌ يقودُه القديرُ الجَبّار.
ويفعل الربّ هذا كلّه من أجل أبنائه.
- "هوذا أنا. طَيْفٌ للقدس":
صَرخت علي المسرح دميةٌ بثلاثة رؤوسٍ وغابَتْ.
- "شَكا بيت المقدسِ إلي ربّه الخرابَ،
فأوحي الله إليه:
لأَمْلأَنّكَ خدوداً سُجَّداً تحنّ إليكَ
حنينَ الحمامِ إلي بَيْضها".
- "إِتَّقِ الله يا كَعْب،
هل لبيتِ المقدسِ لسان؟"
- "نعم. وله قَلْبٌ مثلكَ".
(عن: كعب)
مسْرحٌ يقوده القديرُ الجَبّار.
كثيراً رَجَوْتُ الخبزَ أن ينتقدَ الملح.
كثيراً سمعتُ من يسألني، خِفْيةً: "لماذا يتأخّر الموتُ في القدس، ويظلّ تقدّم الحياةِ موتاً آخر؟
وكيف يُسجن رأسٌ في قَبْو الكلماتِ التي ابتكرها هو نفسه؟"
حقاً، يمكر الغيبُ في القدس، وهو سيّدُ الماكرين.
في زاويةٍ، في أَقْصي صحرائي،
غزالةٌ تبكي.
أعرفُ اسمكَ، أيّها العَصْرُ الراكض في شوارع القدس.
أُمِرْتُ أن أقدّمَ لك عصيرَ اليورانيوم. وسوف أقول للقمر أن يوقع علي دفتركَ،
وللشمس أن تؤرّخ لهذا التوقيع.
وانظرْ: ها هي جدرانٌ تريقُ حليبَ أحزانها
علي الأرضِ، فَرحاً بكَ.
وتعرف أيها العصر،
أنّ النَّمل أكثر علوّاً من الكواكب:
قَدِرَ النَّمل أن يتحدّث مع سليمان،
ولم تقدر الكواكب.
ربما، لهذا يتنبّأُ النمل:
الأحزمة، الأقنعة، الخنادق، الجَرّافات،
القنابل، الصواريخ، الحقائب، الدواليب، الأدمغة الإلكترونية:
تلك هيَ الأيامُ المقبلة.
ربما لهذا،
تتحوّل السماء إلي ثُقْبٍ سرّيّ في سَقْف التاريخ.
"بيت المقدسِ أرض المحشر والمَنْشَر".
(عن: أبي ذرّ)
"مَن مات ببيت المقدس، فكأنّه مات في السّماء".
(عن: أبي هريرة)
لكن، ها هُوَ امرؤ القيس!
هوذا في طريقه إلي بلاد الرّوم مروراً ببيت المقدس.
قبل أن يضع قدميه علي العتَبة، قرأ:
لِلدّم الذي أُريق علي ضِفاف المتوسّط
منذ البدايات، تاريخٌ مُدنَّس.
لهذا التّاريخ الأرضيّ
مُوجزٌ سماويّ اسمه القدس.
لكن، لماذا النّاس فيها اثنان:
ميّتٌ يُقيم في القَفر،
وحيٌّ يُقيم في القَبْر؟
كان اللّيل والنّهارُ في صراعٍ يحاول كلاهما، باسم القدس، أن يخنقَ الآخر.
وكان الوقت يُحوّل المَشْهَد إلي شريطٍ وثائقيّ.
غير أَنّ امْرأَ القيس قال مودّعاً:
في بدء العالَم، كانت الكلمة
في بدء الكلمة، كانتِ الدّماء.
مَسرحٌ يقودهُ القديرُ الجَبّار.
هل تَعبتَ، يا امرأَ القيس، من السّير في تلك الشوارع التي
شَقَّها الغيب؟
ما أبرعَها في فَنّ الاقتفاء،
ما أَنْبَهَ جُدْرانَها في التنصّت.
كلّما حاولتَ أن تعانق امرأةً، يسألك حارسٌ:
هل استأذَنْت السماء؟
بلي، كلّ ثَمرٍ مُرٌّ في هذه الشوارع.
مع ذلك، ها أنتَ تتابع سيركَ أكثرَ إلحاحاً مِن
ذَكَر نَمْلٍ جائعٍ،
صانِعاً من خطواتكَ أوتاراً لموسيقي لم تجئ بعد،
محفوفاً بقَصبِ أحلامٍ تنفر من ذكورتها بويضاتُ
الظنّ.
ظَنُّكَ أنّ سريركَ ليلٌ آخر،
وثمّةَ ما يوشوشكَ:
يكذب اللّيل هو كذلك، ولو أنّه صديق الشمس الأكثرُ وفاءً.
غيرَ أنّكَ تعوّدت أن تبدأ دائماً من الصّفر،
لأنك تعوّدتَ أن تَتَنشَّقَ عِطرَ اللانهايات.
كانت جدّتكَ، السماءُ العُكاظيّةُ، تَضَعُ في جيوب
أبنائها عملةً ليست إلا نَرْداً،
وكانت تُوصيهم أن يطرحوها ليلاً، بين رَمْلٍ النجوم، إن كانوا يريدون أن يتماهوا مع أحلامهم.
ووفقاً لوصاياها،
كانوا ينثرون قصائدهم علي الرمل،
تبرّكاً واحتفاءً.
أنتَ الآن تحت سماءٍ أخري. حولكَ جدرانٌ تنزفُ دماً. رؤوسٌ شِبْهُ مقطوعة لا تتوقف عن الكلام.
اطمئني، أيتها الريح،
الأشراك التي تنصبينها تخبئ وراءها غاباتٍ من النار.
وثمة ينابيع من الدم تسيلُ من ثقب إبْرةٍ تتدلّي من يد السماء.
- كلماتٌ حرابٌ وأسنّةٌ
والبصير هو دائماً فَرِيستُها.
- ملائكةٌ آثروا أن ينقلبوا إلي عُشّاقٍ، وأن يكون المِسْكُ العربيّ فضاءً لِتشرّدهم بين الحجاز والقدس.
- سماؤك نقشٌ لغويّ. أرضكَ حَمّالةُ أوهام. كلّما شهقَت كلمةٌ في هذا النقش، تصطكّ أسنان التاريخ، فيما تنحدرُ الرؤوس كمثل كُراتٍ دون اتجاه، وفيما تبدو النجوم كمثل حُزَم من القَشّ.
- تاريخٌ حليبٌ يفرّ من أثداء أمّهاتِنا لكي يُرْضِعَ القمر وبقيّةَ الكواكب.
- حين تهجم العاصفة لا تتسلّح إلا بأجسامنا. تملأُ أيامَنا بغيومٍ سوداء لا يستطيع، أحياناً، أن يقرأها حتي الضوء.
- هكذا سنظلّ نصنعُ النعوشَ قبل الأوان. ندهنها بِعطرٍ مما قَبل التكوين. ونقطَعُ باسمها وريدَ الأرض لكي نُغذّيَ شَرَيان الغيب.
- إقرأْ بُرْجَكَ، أيها التاريخ، وسوف تري كيف تنقلبُ التوهمات إلي أبراجٍ من الحقائق.
- إلي سرير الفلك، يَسْتَسْلم جسم التاريخ. وها هو يفكّ أزراره.
الريح تقرأ الوَرْدَ
والعطر يكتبه.
دَخلت العاشقة حديقة بيتها في القدس حيث يُقيم حبّها.
الأزهار كلها تحوّلت إلي شِباكٍ تطوّق خطواتِها.
ضحكت وقالَت:
هَلْ عليّ، إذاً، أن أخيطَ من جديدٍ ثوباً آخر لكل زَهْرة؟
أمسِ، حين التقيتُها، همسَ الليل في أذنيَّ:
العطر ابْنٌ للوردة،
لكنه يُولد شاباً.
(توتّر. مقتل. قَبض. إسعاف. مطافئ. ضحايا. إدانات. منع. تمرّد. خَرْق. استحقاق. معتقل. اعتقال. سجون. هدم. احتلال)،
قلتُ لخيالي: تجرّأ. ضع يديك علي كتفي القدس.
وقلت للقدس:
لماذا أنا المقبل إليكِ، لا أعرف أن أسيرَ إلا إلي الوراء؟
(إرهاب، خطف. جهة مجهولة. تشدّد. اتّهام. نَفْي. نَعْي. شَرْع. فساد. كُفّار. تزوير. حملة. عنف. قضاء. قاعدة. خطَر. صراع. هيمنة. ملاذ. غزو. اكتساح).
الطريقُ خيط عنكبوت. وثمّةَ كونٌ بصيرٌ يزدردهُ كونٌ أعمي. المدنُ احتضارٌ، والزمن هدهدٌ عابر.
إلي متي ستظلّين، أيتها السماء نائمة بين يدي أرضٍ حمراء؟
(صواريخ. عصابات. طوائف. طقوس. هجمات. ألغام. تجارة. اقتتال مذهبي. قَصف. انشقاق. تهدئة. سيادة. مُرابَحة. أشلاء. جثث. معارك. حلفاء. أعداء. مُسلّحون. اغتيالات. قبائل)،
طِفْلٌ له هيئةُ النّعش تحمله أيْدٍ غيرُ مرئية، في اتجاهٍ
بلا اتّجاه. قولوا للأبديّ:
فُرْقَتكَ التي تدير المسرح
مجبولةٌ من طينٍ اسمه القَتْل،
وتلبس الفرقة نَسيجاً اسمه الهواء.
(نفط: يورانيوم. اختراقٌ للصوت. ذخائر. فضائح. تحقيق. تهريب. قوانين. يمين. يسار. مفاوضات. خيانة. تعذيب. نزوح... إلخ)،
"في القمر شِقٌّ إيروسيٌّ تحفره السياسة"، قال عالِمٌ فَلكيّ،
"في الأرض ثقوبٌ تتشبّه بثقوب الجسم الإنسانيّ"، قال عالِمٌ في الطبيعة،
بينهما، كان الجُودِيُّ الجبَلُ يتحوّل إلي وشاحٍ أحمرَ يلفّ السفينة. وكان كاحِلُ الهواء يُموسِقُ رقصه علي إيقاع غبارٍ ذَرّيّ.
خيوطٌ وأسلاكٌ تنسج عباءاتِ إلكترونيّةً
لمسافرين يجهلون المكانَ،
يجهلهم المكان.
أكداسُ كتبٍ تَرزح تحتَها رؤوسٌ لحِججٍ واهيةٍ خَطَّها قلمُ المعجزة.
لم أقل ذلك لأي ملاكٍ. قلته لِشهابٍ أخرس، لم يكد يشتعلُ حتي انطفأ.
هناك من تلطّخ، فانقلب خارجه إلي داخل. هناك من قرأ فأصابته عدوي الجهل بكل شيء. هناك ثالثٌ لا رابعَ له إلا ظِلّه.
الرُّعب نفسُه نغمٌ في قيثار الشمس.
- "يا رسول الله، أيّ الخَلق أوّلُ دخولاً إلي الجنّة؟
- الأنبياء.
- ثمّ من.
- الشهداء.
- ثمّ مَن؟
- مؤذّنو بيت المقدس".
(عن: جابر)
"لم يُستَشْهد عبدٌ قطُّ، في بَرٍّ أو بَحْرٍ
إلا وهو يَسمع أذَان مؤذّني
بيت المقدس من السماء".
(عن: كعب)
"صخرة بيت المقدس علي نَخْلةٍ،
والنخلة علي نَهْرٍ من أنهار الجنّة.
تحت النخلة آسيا امرأة فرعون،
ومريم ابنة عمران،
تنظمان سُموطَ أهل الجنة إلي يوم القيامة".
(عن: عُبادَة بن الصامت)
ماذا نكتب، إذاً، وكيف؟
- كتابة الواقع استنساخ. انفصالٌ آخر عن الواقع، وعن الكتابة.
- إن لم نكتب الممكن، فكأنّنا لا نكتب.
- أهناك معني لما لا يدخلُ في اللغة؟
- وما يدخلُ في اللغة، اليس دخولاً في صحراء؟
- لماذا تكون أحزانُ العقل قبوراً لرغبات الجسد؟
- لا نكتب الشيء حقّاً إلا إذا رأيناه
بطريقةٍ يبدو فيها كأنه هو نفسه يرانا.
- كتابةٌ لا هُوَّة فيها، لا هويّةَ لها.
II. سماءٌ علي الأرض
القدس. حلمٌ _ لغة. لغةٌ يمتزج فيها التاريخ بما قبله، وما بعده. يمتزج بالإنسان والواقع، نهايةً ولا نهاية. إنها التّراب والماء _ ولكَ أن تجبلَ ما تشاء /
(...)
... "كلَّم الله موسي في أرض بيت المقدس،
تابَ الله علي داود وسليمان في أرض بيت المقدس،
رَدّ الله علي سليمان ملكه في بيت المقدس،
بَشّر الله زكريّا بيحيي في بيت المقدس،
سَخّر الله لداود الجبال والطّيرَ في بيت المقدس،
تتغلَّب يأجوج علي الأرض كلّها غير بيت المقدس،
ويهلكهم الله في أرض بيت المقدس،
أُوتيت مريم عليها السّلام فاكهة الشتاء في الصّيف،
وفاكهة الصّيف في الشّتاء في بيت المقدس،
ولد عيسي عليه السّلام وتكلّم في المهد، في بيت المقدس،
وأنزلت عليه المائدة في أرض بيت المقدس،
ورفعه الله إلي السّماء من بيت المقدس،
وينزل من السماء إلي الأرض في بيت المقدس.
هاجر ابراهيم عليه السلام من كوثا إلي بيت المقدس،
أُسْرِي بالنبيّ إلي بيت المقدس،
تكون الهجرة في آخر الزّمان إلي بيت المقدس،
يُنْصَبُ الصّراط علي جهنّم إلي الجَنّة ببيت المقدس،
ينفخُ إسرافيل في الصُّور ببيت المقدس،
والحوتُ الذي الأرضونَ علي ظهره:
رأسهُ في مطلع الشّمس،
وذنبَهُ بالمغرب،
ووسطه تحت بيت المقدس،
تخرب الأرضُ كلّها ويعمرُ بيت المقدس،
أوّل بقعةٍ بُنِيت من الأرض كلّها موضع صخرةِ بيت المقدس.
تظهر عين موسي في آخر الزّمان ببيت المقدس..."
(...)
(عن: قاضي القضاة، أبو اليمن القاضي، مجير الدين الحنبلي 068 _ 829ه في كتابه: الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل).
... إنّها القُدرة علي تحويل الحُوتِ إلي كناريٍّ، والبقَرةِ إلي مِنْجَلٍ للحصاد.
..." وبذلك الطّريق سارت قطعان عدَدٍ لا يُحصي من الزّعماء الكباش والنّعاج المسمّنة والخراف والحملان المجزوزة الصّوف والإوزّ البريّ والعجول المخصيّة المتوسّطة الحجم والأفراس المصدورة والعجول الجَمّاء والأغنام الطويلة الصّوف والحيوانات الاستيلاديّة..."
(...)
"وهناك أصوات وطْء أقدام وقَوْقأَة وجُؤَار وخُوار وثغاء وخرخرة ونخار وقَضم واجترار للخراف والخنازير والأَبْقار الحُبْلي
(...)
"... يحملون سعفَ النّخيل القيثارات السّيوف تيجان الغار (...) أصفاد فؤوس أشجار جسور أطفال في أحواض اغتسال أصداف مقصّات مفاتيح ثعابين بأجنحة ومخالب خنازير مصابيح ملاعق نجوم أفاعي سفادين علب فازلين أجراس عكّازات كلاليب قرون وعول صقور أحجار رحيً وحيد القرن (...)
يرتّلون فاتحة القُدامَي التي تبدأ قومي استنيري يا أورشليم (...) ويقولون:
كلّها تأتي من شَبا".
(عن: جيمس جويس، يوليسيس،
ترجمة: صلاح نيازي).
ما هذا الرّأس الذي ينخلهُ الهذيان؟ ما هذا الجسم الذي تَنْخرُهُ مخالِبُ التوهّم؟ هل الإنسانُ هو نفسه خُرافَةُ الدّم واللّحم؟
هياكلُ عظميّةٌ، جماجمُ، أوردةٌ وشرايين، آذانٌ وعيون:
أدواتٌ وآلاتٌ يحفظها الغبارُ في ثيابه وتحتَ وسائده.
لكل أداةٍ ولكلّ آلةٍ أسنانٌ من الذّهَب، كمثل آياتٍ تَنْحتُ ذَهَبَ الكلام.
لو كان الغبارُ يعرف أَنْ يقفَ علي قدميه، لكانت السّماء مجرَّد سِوَارٍ ضيّقٍ علي كاحله.
ما لِلدّهشة تَفْتَرُ؟ ما للوقت يستسلمُ لِتَباريحه؟ إن كانت هناك أبديّةٌ فهي الثلجُ المعمِّر شقيقُ الغبار. وانظروا: علي كلّ عتَبةٍ، وفي كلّ مُفتَرقٍ مَيْتٌ يحَارُ فيه نعشه:
هل تحملهُ الملائكة،
أم أنّ عليه، هو، أن يحملَها؟
يا قدس، يا قدس!
في عصركِ البرونزيّ، كانتِ التّفاحة امرأة.
في عصركِ النفطي _ الالكترونيّ، صارت التُفّاحةُ قنبلةً:
تحوّلٌ
لا تتّجه فيه الصّواريخُ إلاّ نحو بيوت العُشّاق.
عُشّاقٌ: بعضهم يحمل أوراقه ويمضي في اتّجاه عصر الحجَر، وبعضٌ يحمل أوراقَه ويضيع: يجهل أَنّي يمضي، وأين، وكيف يَتّجه؟
من بين أثداء الكواكب، يهرب ملائكة اليقين، ويجيئونَ إليكِ. يغتسلون بمائكِ، وينحنون لنخيلكِ. يشدّون السّماءَ من شعرها، ويقودونها إليكِ. تَنْسلِبُ السّماء من السّماء، وتُمسك حبالهم بعنق الأرض.
توازنٌ ديموغرافيّ!
أناسٌ يجيئون إلي القدس من أطراف العالم،
أناسٌ ينبتون في طينها ومائها.
ثلاثة وافدين مقابِلَ مقيمٍ واحد.
المقيم يرحل، والوافد يقيم
توازنٌ ديموغرافيّ!
وليس هناك بابل ولا آشور.
إنّه الهَدْمُ، هدم الحجَر والبشر.
إنّها السّياسة _ مِعْماراً آخر.
لا شَرْق في شرق القدس، والقُرَي حولها سديم.
مُنْعزَلاتٌ تحفّ بها الشرطة من كلّ نوع.
- وأين القانون الدولي؟
- لا يُقرّ ذلك. بل يعدّه جريمة.
- ولماذا يظلّ صامِتاً.
- لعلّه التّجاوُبُ مع "التّرحيل الصّامت". أو لعلّه الصَّدي.
إنّها القدس تتشقَّق وتنهار _
الحوضُ المقدس الحوض التّاريخي،
قديمُ المدينة،
سفوح جبل الزيتون الغربيّة،
سلوان
وادي حلوة،
حَيّ البستان،
حي الشيخ مدّاح،
وادي الربابة... إلخ، إلخ.
إنْغَرسْ أيّها الوافد،
انْقَلِعْ أيّها المقيم:
تلك هِي اللاّزمة في موسيقي الله.
والمجدُ لإسطبلات سليمان:
اسْرَحي فيها كما تشائين، وحَمحِمي، يا خيول الملائكة!
بَطْنُ المكان ينتفخ،
والوقت يلتهم الأجنّةَ وأرحامَها.
ما هذه الظّلال التي تجهلها الشَّمس،
ما هذه الأجراسُ التي تنكر أصواتَها،
ما هذا النَّرجسُ اللاّهوتيّ الذي يتمرأي في الغيم؟
بلي، بين الواقع واللّغة خنادِقُ لا تُرْدم،
وأهلاً بكَ، أيّها اللاَّ شيء الملك.
لا حياة في الحياةِ، يا مَرْيم،
لا حياة إلاّ في الصُّورة،
غداً، من سيُلقي عليكِ السَّلامَ،
في هذه الظّلمات التي تتعانَقُ وتتآخي؟
رئة الكلام تَخْرجُ من قَفصِها الصَّدريّ،
وبين جداريْن: البكاء والمبكي،
يأتي ويذهب قطار التاريخ.
لماذا، لماذا تكذبين أيّتها النّجوم؟
طرقٌ كمثل أخاديدَ في وجه المعني،
تشقّها عرَباتُ الأباطرة.
حولها بَشرٌ يَحتفون،
حولها مِنصّاتٌ من الآلاتِ والبيارق،
حولها أكفانٌ وحَفَّارونَ وقبورٌ.
دَمُ الآلةِ يهدرُ،
دم الطّفولة يتخثّر،
عَلّمينا، أيّتها الأرضُ كيف نغسلُ هذه الصِّبْغة؟
هل سنظلّ إلي الأبَد،
نُصْعَقُ ونُجَرُّ
وراءَ جحافلِ أَنْسابِنا؟
"علي هذه الأرض ما يَستحقُّ الحياةَ"، يقولُ زرادشت بلسان نيتشه،
أين هي، إذاً،
مطرقةُ الحريّة؟
أين هو، إذاً، سندانُ العَقْل؟
كيف للإنسان، خالِق المعني،
أن يكونَ مصيرُه مُرْتَسِماً في لفظةٍ؟ وكيف لروحه أن تنسكبَ في جدار؟
لم يعد أحدٌ يعرف إلا الاسم،
كأنّ الأشياءَ غير موجودةٍ إلاّ لَفْظاً.
القشرة تلتهم اللّبّ
والغبارُ اسْمٌ آخر لِلغيب.
وما أشدّ في هذا كلّه بؤسَ الإنسان:
يَهبط في قارورةِ الأَنْتَ أنتَ،
يَصعد في دخان لَبّيكَ لَبّيك.
وها أنتِ، أورشليم _ القدسُ،
تتزلّجين علي ثَلْج المَعْني
وللسّماء فيكِ جِنٌّ وعفاريتُ
يهيمنون علي محيطات اللّغة.
من قَبْرٍ، مِن نَقْشٍ، من عشبةٍ لها شكل الثّديين، من طحلبٍ يتسلّق حائطاً رطباً،
تنبعث رائحةً تتمازج فيها الرِّقَّةُ والرِّقُّ، وتطوف حوله الشياطين والملائكة في رقْصٍ كأنّه الموج.
أنا، الفقيرَ إلي رغيفٍ، يلذّ لي أن أكون فيكِ الإعصارَ والزّلزلة،
أَشهد فيكِ النّهاية واللانهايةَ في نَبْضٍ واحد،
وأُشهد عليكِ الطّبيعةَ _
الطَّبْعَ والجِنْسَ والحَدْس.
III. حَبْلٌ بين النّاقة والدبّابة
أ _ تاريخ / الرّاوي:
"الواقديّ (ت 207ه.)، اليعقوبيّ، الطبريّ، ابن البطريق، الإصطخري، المسعودي، المقدسي، ابن عساكر، أسامة بن منقذ، العماد الأصبهاني، ياقوت الحموي، ابن الأثير، أبو شأمة، ابن العبري، ابن فضل الله العمري، ابن خلدون، المقريزي، ابن شاهين، ابن تَغْري بردي، شمس الدين السّيوطي، مجير الدّين الحنبلي (ت 928ه).
هؤلاء كلّهم رَسموا صورةَ القُدْس: وانتشوا بمعناها، وبشّروا به".
ب _ تلخيص / المحلِّل
"قالوا: ليست القدس في عقل المسلم وفي مخيّلته، أرضاً بقدر ما هيَ سماءٌ _ جَنّة.
في صورتها ذابَ المسلم: أصبحَ موجوداً، لا في نفسه، بل في هذه الصّورة. وفيها خرج من نفسه، وراح يتشرّد في لغتها _ في اللّغة. كلامه عليها لا يصدر عن ذاته. يصدرُ عن هذه الصّورة، لكن بلسانه. بل إن هذه الصّورة _ المخيّلة هي التي تتكلّم".
ج _ توثيق / الدِّين
"من أرادَ أن ينظرَ إلي بقعةٍ من بقاع الجنّة،
فلينظرْ إلي بيت المقدس".
(عن: ابن عبّاس)
أرضٌ _ في كلّ حَجرٍ تتناسَلُ دبّابةٌ، في كلّ شجرة تُعسكر قنبلة.
فوقهما وَحْيٌ يتدلّي في شكل دُخانٍ أحمر.
من المتوسّط، هذا البَحْر الواحد الأحد، يَنْبَجِسُ يَرَقانُ العَصْر.
جدرانٌ تمتلئ بالأكوان كلّها وتفرغُ من جَميع الأَسْرار. فَضاءُ قَشٍّ وكبريت. وثمّة أصنامٌ تعقد أحلافاً ضدّ الكلمات. وثمّة دُميً تتذابَحُ تحتها. هنا وهنالك مَسْرحٌ لصلب البشر علي قرون الملائكة.
مَهْلاً، أيّها الطّوفانُ الذي لا يحمل في فلكه إلاّ الجنّة. وانظري، أيّتها الفُلْكُ، هل تستطيعين أن تَري علي الضّفافِ، أو في الأعالي، رجلاً أو امرأة؟ اللّحظَةُ حديدٌ سَفّاح، وكلّ دَواءٍ داء.
ثلاثَ مرّاتٍ، ارتجفت الأرضُ في فَم السَّماء. ملايين المرّات ارتجفت أفواه البشر. وليس لمجهول الكون بيضةٌ تلوّح لعجيزة أنثي نبويّة، أو تسقط ناضجةً في حضن ديكٍ إلهيّ.
أظنّ، مع ذلك، أنني سأستقبل حافيَ القدمين، أنثي هذا المجهول في حديقة الشعر، ذات لَيْلةٍ مقبلة، وسوف نقول معاً ليد الحبّ: امشطي شعر القدس وقَدّمي لها مرآةَ الشِّعر لكي تتمرأي فيها.
يا قدس، يا قُدْس. عجباً، لا تلدين إلاّ نفسَكِ، مع أنّ فَرْجَ الدّنيا يتأرجحُ بين فخذيكِ. لصَدركِ شكل القَبر، ولحنجرتكِ شكلُ القنبلة. أين الأغنية التي ستوحّد فصولكِ في نبضٍ واحد؟ أين الطّريق التي ستقرأ خطواتكِ كأنّها كتابٌ كريم؟ أسألكِ. وأعرف أنّ السّؤالَ هو نفسه الويْل.
وماذا لو أحصينا عددَ الجماجم التي تدحرجت باسمكِ، في أنفاقِ التّاريخ وعلي مدارجه؟ ألن تكون كافيةً لكي نرفعَ سماءً أخري بحجم السّماء؟
هل نقول، إذاً، طُوبي للسماوات التي لا يَرويها هي أيضاً إلاّ دَمُ الأرض؟ وهل نقول: طوبي لهذه الأرض التي لا تقدر، احتفاءً بالسّماوات، إلاّ أن تكون مقبرةً؟
انتبهوا، أيّها العابرون. لكلّ منكم علي هذه الأرض هاويةٌ في تلك السّماء.
آهِ، لو ترينَ، لو رأيتِ كيف تتمزّق رئاتُ البشر، أطفالاً وشيباً، رجالاً ونساءً، وتتبعثر باسمكِ بين أحْذيةِ السَّائحين وأكداسِ الصَّلوات. كيف تُرتَجلُ باسمكِ القيامةُ، وتنقلب أَرحامُ الأشياء إلي جُثَثٍ وأشلاء. كيف تَصْطَكُّ البيوتُ والشّوارعُ والأجواء في القَصْفِ الإلهيّ المتواصل تحقيقاً للنبوءات والرّسالات. كيف تلجأ الكائنات العَزْلاء، حشراتٍ وزواحفَ، هرباً مِن الهَوْل، إلي ظِلّ رجاء، أو إلي وِكْر دعاء.
"لا تقتلوا الخفّاش، فإنه استأذنَ البحر أَن يأخذ من مائه، فيطفئ بيت المقدس حيث حرّق" (ولهذا الكلام هذه التتمة: "ولا تقتلوا الضّفادع فإنّ نقيقها تسبيحٌ).
(عن: عبدالله بن عمرو بن العاص)
آهِ لو ترين، لو رأيتِ كيف ينكسر الشَّجَرُ والزّهْرُ، وتنخسفُ الحُقول، وينقصِفُ السَّرْوُ، وكيف تحاول الأحجارُ نفسها أن تفرَّ إلي أحضانِ أمّها الطّبيعة، في أيّ اتّجاهٍ، في أيّ مكانٍ، بعيداً بعيداً عنكِ.
وها هو الأفق يئنّ، والفضاء يرتعد، فيما يترصَّد الزَّلازل الآتية. كلّ نهاية بداية: لا شيء تعلّمينه إلي أبنائكِ إلاّ الموتَ. وما هذه الحياة التي لا تحيا إلاّ رهينةً في قَفَصٍ إلهيّ؟
كلاّ، لا أخافُ
لا أخاف إلاّ من جموعكِ التي لا تعرف شفاهُها أن تَنْفصِلَ عن ثدي الموت.
كأنّكِ فَرَسٌ يقاتِل بعضها بعضاً في ساحةٍ واحدة، في معركة واحدة، انتصاراً للواحد. فرسٌ كلّ عُضْوٍ فيها يرقصُ علي جثّةِ عضْوٍ آخر. يا لهذه المائدة المتواصلة: سلالةٌ لسماءٍ واحدة يأكلُ رأسُها قدميها، وتلتهم أنيابُها ما تَبقّي.
هكذا تحرثين الفراغ، ولن تكون لكِ أيّة معجزة. ليس في جسدكِ غيرُ التصدّعات، ودمكِ في احتضارٍ بَطيءٍ، بِطيء.
هل أَخْطأَتِ السّماءُ فيكِ، أم تعرفين مُخْطِئاً آخرَ أشدَّ غَطْرَسةً وفتكاً؟
وها هي نواحيكِ: لا تُقاس إلاّ بالأشلاء.
صَمْتاً، صَمْتاً، أيّها الشاعر،
قُرْصانٌ يُمْسِكُ بيَدِ القمر ويُهيّئ الزَّحْف. هل سيحدث، يوماً، أن تَشهقَ السَّماءُ غضباً، وتَصرخَ:
كلاّ، لا رجاءَ فِيَّ، ولستُ السّماء؟
IV. جسرٌ نحو أيوب النبيّ
أ _ حارة المغاربة
هل سيقدرُ ذلك المُتحف، "متحف حائط المبكي"، أن يسلّم علي سُنُونوّةٍ، أو يُصافِحَ البحر الأبيض المتوسّط الذي صافحه قدموس وعُوليس؟ هل سيعرف كيف يُحيّي امرأةً تسمّت أوروبّا باسْمِها؟
سَلامٌ عليكِ، أيّتها الخطوات البشريّة التي تحوّلت إلي عُمْرانٍ كأنّه الطّبيعة.
حَقًّا، للتاريخ طبقاتٌ سُفْلي. والغبارُ يستهزئ بحقائقِ الماء. وما هذا التّاريخ الذي يَجهل الفَرْقَ بين الدّمع والحِبْر، وبين المسمار والحَرْفِ الأبجديّ؟
حَفْرٌ في الرّأس، لا في التّراب. زياراتٌ لأطياف وَحْيٍ غير مكتوب. زبَدٌ يُطيح بعرش الماء. يا لهذا النّظام الذي لا ينهض إلا علي أشلائه. بين بِرَكِ سليمان تبحر سفينةٌ لا من الغرب لا من الشّرق.
من هباء المعني.
تَبرّكوا بهذه البِرَك.
لا مرفأَ في حارة المغاربة إلا في اللّغة _ جرحاً مفتوحاً، كشعر أيوب.
قل لي، يا شعر أيوب:
السّجن، التّنكيل، التعذيب، التجويع، الطّردُ، النّفي، القتل _ أهذه هي حَقّاً تلك الملاعق التي تركتها علي موائدك الكريمة العالية؟
ب _ أغنية
رَجلٌ عاشِقٌ قَيْدهُ
زوجةٌ في نقابٍ،
طفلةٌ في حجابٍ
ولحمٌ حَلالٌ.
فندقٌ مطعمٌ، ومقهي، وجَبّانَةٌ.
لا تناقُضَ إلاَّ
بين تُفَّاحَةٍ وابْنِ رُشْدٍ.
أيّتها المائدة التي يرتجف تحتها صدر الأرض، تضوّري جوعاً إلي ملعقةٍ تخرج الآنَ من جوف حوت، وإن شئتِ إلي الحِبْر، ذلك الوَحْل الملائكيّ. بالألوانِ تطمئنين التّاريخ. ترسمين لوحةً للعَصا التي تحوّلت إلي حَيّةٍ. للبحر الذي فتح فخذيه لكي يعبر بينهما التائهون. للجبل الذي استضاف نوحاً وطوفانه وفُلْكه. لِلرّعب الذي لا تَتّسع له أيّة لوحةٍ ويَسْخَرُ من جميع الألوان.
تضوّري، تضوّري جوعاً أيّتها المائدة.
ج _ تأمّلات
ماذا يقول الأطفال لهذه الكرة التي يُدحرجونها والتي سَمّوها الحياة؟ كيف يُمسكون بالعالم والقيود كلّها تُحبك حول أعناقهم، منذ نشوئِها في مِنْجَم الغَيْب.
آثارُ وَحْيٍ تتموّج في شعر أيّوب. جنانٌ. أنهارُ عَسَلٍ. وِلْدانٌ. بقايا كتُبٍ محتها الكتابة.
إلي الساحة، أيّها الجنود الملائكة. القادة يسبحون في غبار سَراويلهم.
الستارة سوداء، ولا ضوءَ تُمسك به النّوافذ.
د _ رواية
لم أرَ القمرَ مرّةً يقاد مخفوراً إلي مرفأ الكتب السّماوية كما رأيته ذلك اليوم. كان كمثل حصاةٍ تُفرك بين الأصابع. لا هذه التي تزدهي بها اليدان، بل تلك التي تتوّج القدمين. وكان يجلس مُنهكاً في لباس العمل كأنّه رضيعٌ فصلته أمّه الشمس عن ثدييها. وكان يحيط به شِعرُ أيّوبَ، القَبْلُ والبَعْدُ، الغضروف والعَظْم في سُرادقٍ من طيور الجنّة.
قِشْرُ تُفَّاحةٍ
تنزلق عليه قدَمُ حوّاء.
هَتفَ الزّقاقُ:
- "أين القوسُ، أيّها البارئ؟"، ولم تكن العَصا التي تحوّلت إلي حَيّةٍ تعرف أنّ كلّ زقاقٍ في القُدْسِ مستودَعٌ لدعاءٍ يناقض بعضه بعضاً. أو أنّ الصلواتِ التي تعرج علي سُلّمها الخاصّ مُلقّحةٌ بأنين أصواتٍ مِمّا قبل الطّوفان.
ه _ أُغنية
ما الذي يقرأ الدِّينُ أو يكتب الشّعر، إن قَصَمَ الغيبُ ظَهْرَ البلادِ، و"زُلْزِلَت الأَرضُ زلزالها"؟ - وَهِيَ الأَرضُ، كوكبُ أيّامنا الشاردَهْ:
الملائك فيها، وشياطينُها
والألوهةُ _ مرموزةً ومحسوسةً،
رَحِمٌ واحدهْ؟
و _ خبر
تلميذٌ يعبر حاجزاً.
- دَنَّس ما لا يُدَنَّس.
- يكفيه السّجن إلي أن يلاقي فيه الشَّيخوخة.
رائحة دَمٍ في الزّقاق يتدفّق منذ الطّوفان. يخضع التدفّق إلي فَحْصٍ مدنيّ، وإلي رقابةٍ عَسْكريّة.
لا يفيد العطش إلي المعرفة إلاّ إذا كانت خوذةً.
علي جَبَلٍ من القمامة تَرْقُص الذرَّة.
جيشٌ إلكترونيّ يقوده مَلاكٌ أحمر.
وكلّ آلةٍ آفة.
ز _ قول
لم أرَ القمرَ يقاد مخفوراً إلي مرفأ الكتب السّماويّة، كما رأيته ذلك اليوم. كان كمثل حَصاةٍ تُفرَكُ بين الأصابع. لا هذه التي تزدهي بها اليدان، بل تلك التي تتوّج القدمين. وكان يجلس مُنْهكاً في لباس العمل كأنه رضيعٌ فصلته أمّه الشمس عن ثدييها. وكان يحيط به شعر أيوب، القَبْلُ والبَعْدُ، الغُضروف والعظمُ في سُرَادقٍ من طيور الجَنّة.
قشْرُ تُفّاحةٍ تنزلق عليه قدم حواء.
إلي أيّ جدارٍ تُشير، يا شعر أيّوب؟
هذا الجدارُ يصعد من رَمْلٍ لم يحدث مرّةً أن صارَ مَتَاهةً. حدث أن صارَ شَرْعاً. واختلطَ فيه ذهَبُ القوانين بفضّة الهياكل.
ويهبط ذلك الجدارُ من ناطحاتِ كواكبَ لم يحدث مرّةً أن صارت أفقاً. حدث أن صارت أسلاكاً شائكةً، وطيشاً في رأس الهواء.
للجدار أكثر من حياةٍ داخلَ هذه الفانية _ الدُّنيا. غيرَ أَنّه في الآخرة الباقية مجرّد قميصٍ عسكريّ، يحرسُ مأوي يَغَصُّ ببشَرٍ يعذّبهم جَلاّدون إِلهيّون.
قلَقٌ في شِقٍّ شماليّ من الجدار. مع ذلك، تظلّله كلماتٌ تعرف الغيب. يظلّله كذلك نومٌ يكاد أن يكونَ يَقظةً. وتجرؤ الشمس فوقه أن تعترفَ بأنّها شَيّخَت. وأَنّ لها في ظِلّه نافذةً تُطلّ علي المتوسط _ البَحْرِ، لا توسُّطَ فيها: إمّا القَبْرُ، وإمّا السَّماء.
لكن، ما أقربَ القبر، وما أبعد السّماء. ماذا أقول؟ كلاّ، لم تعد هناك سماء: السّينُ سيفٌ، والميمُ موتٌ، والألفُ أبوّةٌ، والهمزةُ فراغ.
ح _ أسئلة
أسألك، يا شعر أيّوب،
كيف يقيم جسراً يَصل بين طرفين،
شخص لا يري إلاّ طرفاً واحداً؟
وماذا تقول امرأةٌ تتغطّي بحجابٍ من القطن أو الحرير،
لامرأةٍ تتغطّي بحجابٍ من الفولاذ؟
(...)
"من الأمم الذين حواليكم تقتنون العبيدَ والإماءَ، وتَقتنونهم أيضاً من أبناء الغرباء المقيمين معكم ومن عشائرهم الذين عندكم، المولودين في أرضكم. هؤلاء تأخذونهم لكم، وتُورِثُونَهم لبنيكم مِن بعدكم ملكاً لهم، فيستعبدونهم ما داموا أحياء..."
(اللاّويين 25: 44 _ 64)
وأسألكَ أخيراً:
ما تكونُ بلادٌ يديرها القتل، أو تؤسّس لها الجريمة؟
(...)
"ويلٌ لمن يبني مدينةً بالدّماء، ويؤسّسها بالإثم".
(حَبقّوق، 2: 12)
ط _ أسئلة أخري
حين أقرؤكَ يا شعر أيوب، أري كيف تتأرجح فيكَ وتتكسّر هذه القصبة التي تُسمّي الإنسان.
أليس الآخر نبضَ اللانهاية فيك؟ أليس ذاتكَ الثانية؟ أين آخَرُكَ يا شِعر أيوب؟ ولماذا لا تكفّ عن مَحْوه؟ كأنّك لا تكفّ عن مَحْوِ نفسكَ، أنتَ أيضاً.
أأنتَ سفرٌ إلي الأطراف القُصوي؟
إذاً، أنتَ والآخَرُ واحد.
أين آخَرُكَ يا شعر أيوب؟
V. تشريح
I. اسطبلات سليمان / المسجد المَرْوانيّ
النّملُ، هو كذلك، يُصلّي لسليمان. لم يبق طائرٌ إلاّ نقلَ رسالةً إلي إحدي نسائه. وكان مروان أَوّلَ بين الأوائل الذين صَدّقوا وآمنوا.
II. تلّة باب المغاربة، أيضاً وأيضاً
تتدلّي فوقها مقبرةٌ علي حَبْلٍ يربط سُرّةَ الشّرق بشفتي الغرب. مقبرة شبه طائرة. تكاد أن تملأ الأجواءَ بأنينها. بين ساحة البُراقِ والحَرم الشّريف تضحك أشجارٌ يلتصق عليها الغُبار. الهواءُ مِهذارٌ. لا يَنامُ إلاّ في غُرفٍ صامتة. يحرسها الأَمْنُ جلوساً في مركبات عسكريّة تقذفها الملائكة في أحضان القدس.
III. حائط المبكي / حائط البُراق
البكاء بَرْقٌ حيناً، وحيناً بُراق.
يتعطَّرُ الحائطان بخطوات الله وأنبيائه ورسله "الذين لا نفرّق بين أحدٍ منهم".
للورد الأحمر بين الحائطين ظِلٌّ يتدثّر بثوبٍ أسود.
IV. النّفق الغربي / نفق عين سلوان / نفق وادي حلوة
سَتُضاء الأنفاق بمشاعلَ تحملها الآفاق.
أنفاقٌ تَتجشَّأُ الموت، فيما تبتلعُ الحياة.
أصواتٌ تنبعث من جوف الأرض. أهي حوارٌ بين سليمان والهدهد وبلقيس؟
النَّملُ يغارُ، ويَسْترقُ السَّمع.
V. كنيس أوهل يتسحاق
اسألوا الصّلاةَ نفسَها، وسوف تقول لكم: خيرٌ لي أن أكون رَقْصاً.
العقار الذي بني فيه الكنيس لا يزالُ يشكو. يرافقه، بُكاءً، حَمّام العَين. يرافقه المسجد الأقصي، أحياناً. ويكون خان تنكز المملوكي مأخوذاً بالبحث عن ماءٍ للوضوء. دائماً تفوته صلاة العشاء.
يتسلّل إلي ساحة البراق ويراقب فيها وحولها ملائكة الحزن.
VI. بيت هتسلام / بيت شارون
ما جدوي بيتٍ يفتقد حتي الماءَ والهواء؟ وليس حوله أيّ طائر. هُسْ! عسكريٌّ يتنكّر في شَكْل عمود.
VII. باب العمود
ماذا لو زُلزل المعجم، وسُمّيَ الباب عموداً، والعمود باباً؟
تضع الطّريق الرّومانية قبّعتها علي باب العمود، حاملةً زهرةً في اتّجاه طريق الواد _ كاردو _ ديكامانوس. بيزنطية، الخلافة الأمويّة، الخلافة العبّاسية، الصّليبيّون، الأيوبيون، المماليك، الإنكليز _ تُسمع أصواتُهم اليوم، وتُمكن حتي الآن، رؤية الغرف التي ينامون فيها، وأسرّة الجواري.
VIII. مغارة سليمان / (مغارة الكتان)
هل ثوب المرأة جزءٌ من بشرتها؟
أعترف أنّ في السّؤال جرعةً من شرابٍ مُسكر.
هل يقدر سليمان أن يتحدّث مع مغارته؟
IX. أرض الصَّبْرة
ما أغربَ عذاب الأرض:
لا يمزّقها هي. يمزّق من يَسيرُ فوقها.
X. سوق الخواجات
ماذا تفعل الذّكريات التي تتجوّل في أكياسِ القمامة؟ سِروالٌ: قَرْنا غزال.
XI. برج اللَّقلق
موسيقي تبكي في أجنحة اللّقالق. رقصٌ يعتذر لأعشاشِها.
XII. عين سلوان
لِلسّحر في فلسطين عينٌ لا ترَاها العين.
XIII. أرض صيام
لا بأسَ أن ترجئَ صيامكَ، أيّها الأفق. أَفْطِرْ، لكي تقدر أن تُمطر.
XIV. وادي النّار / وادي حلوة
نارُ الوادي وادي النّار. وكلّ وادٍ حوض، غير أنّ وادي حلوة سؤال.
XV. تلة الضهور (مدينة داود)
عجباً! كيف قبلت مدينة داود أن ينقلبَ اسمُها إلي تلّة الضّهور؟ وكيف لم تتزلزل قارّة اللّغة؟
أيّتها الدبّابات، أيتها القنابل، تقول لكِ الطّاقة: مَزّقي البشرَ، أوّلاً. ثمّ الكائنات الأخري، لكن بلطفٍ، وسمّي هجومكِ دفاعاً، أو سعياً إلي السّلام. تعرفين أنّ الله هنا كائِنٌ مُتخيَّلٌ، وأنّ الشيطان كائنٌ واقعيّ. اصرخي، إذاً، عليك أيّها المؤمن أن تفرّ من الواقع. ولماذا تعيش فيه؟ الهربَ، الهرَبَ إلي ما وراءه.
XVI. عين أم الدَّرج
امرأة ليست سمكةً ولا جنّيةً ولا حوريّةً تعيش هانئةً في هذه العين.
XVII. شارع السّلسلة
سلسلةٌ من أجنحة اليمام تجرّ، برفْقٍ، يمامةً جريحة.
XVIII. شارع الواد
من يعرف كيف يختبئُ داخل صوته؟
XIX. طريق الآلام
لا شيءَ خُلِق، لا شيء يخلق في فلسطين إلا بدءاً من هذه الطريق.
والقَبْرُ مَنِيٌّ قُدْسيّ.
XX. قُبّة الصّخرة
هل تكفي فلسطينَ صَرْخةُ أَن تتأرجح فوق رأسها قُبّةُ العالم؟
هل يكفيها أن تثقبَ دموعُها صخرَ التّكوين؟
نَهارُها يمتطي فَرَس اللّيل،
وليلُها يَمْتطيه البُراقُ:
بعض السّفَر تاريخٌ،
وبعضهُ تآويل.
وفي كلّ ضالّةٍ تَنْحفر هاويةً للضّلال.
يا لهَذهِ الطّبيعة / الجنينِ _ الطفل _ القبر / القَبْر _ الجنين _ الطّفل
خذُوها في استدارةٍ، في مُثلَّثٍ، كيفما شئتم، أَنّي شِئتم،
لا نهايةَ
إلاّ في هذه اللاّنهاية.
كانت يمامَةٌ تَشهق في كنَفِ القُبّة. كان سِراجُ القبّة يرفرفُ كمثل فراشةٍ تتجنّح باللّهَب.
رجلٌ وامرأة يتعانقان أبيض سوداء انتظروا ألوانَ الولادات.
لا ترفع إصبعكَ أيّها التّاريخ لكن أنتِ ارفعي إصبعَكِ، أيّتها الأبديّة.
XXI. النَّفق _ (عين سلوان، وادي حلوة، النَّفق الغربي _ أيضاً، وأيضاً).
النَّفَقُ هو أن تُولدَ حيث تشاء، قبل أن تُولد. أن تكون لك جذورٌ وأَنْساب حيث لا تعرف ولا مكان لها. أن تقول: ما فوق النَّفق لي، وما حوله، وما قبله، وما بعده. و"لتنفجر السّماء غيظاً"، يقول سيّد النّفق. وقل يا سيّد النّفق: سأنتخب الرّيحَ التي أشاءُ لكي تحمل بساط المعنَي. وسآمرُ الفضاء لكي يأمرها بأن تكون ليّنةً رُخاءً مطيعةً لا تخرج من نَفَقٍ إلا لكي تدخلَ في آخرَ أكثر امتداداً وعمقاً.
وأنتَ أيّها المقيمُ، تكوّرْ داخلَ بيتكَ. لا تخرج إلاّ عندما يقول الضّوء الحارس الطالع من النّفقِ: اخرجْ. إذ لا مهربَ من نَفَقٍ إلاّ عِبْرَ نَفَقٍ آخر. المستقبل أنفاق.
الأطفالُ في هذا المستقبل صناديقُ، دُميً، عُلَبٌ ملغومة، صراصيرُ مقنبلة، حديدٌ مطبوخٌ بتوابلَ من كلّ نوع.
من النّفق تخرج أسراب أسماء. لكلّ اسْمٍ زيٌّ. لكلّ زيّ قَبْرٌ كتبت عليه هذه الشاهدة: مِن التّراب جاء العرب وإلي التّراب يعودون.
النّفق تاريخٌ آسِن.
حتي لو تركتَ النّفقَ إلي فراغه، أيّها المُتاجر بما ليس إلا فراغاً، فإن النّفقَ لن يتركك.
"ثمّة شموسٌ لا تشرق إلاّ ليلاً"، يقول لك، فيما يمدّ لك حبل الغواية.
اسْتَرقِ النّظرَ إلي بداية النّفق، وسوف تري فيه نهايتكَ.
النّفَق نعشٌ آخر.
الطريق هنا ضيّقةٌ لكن غير بعيدةٍ عن الجَنّة.
تاريخٌ _ ماءٌ اصطناعيٌّ تسبح فيه السّلالات وأَنسابُها.
لم يترك شيئاً إلاّ تحدّث عنه _ لكنه لم يقل أيّ شيء.
أعمي له شكلُ ملاكٍ يتكئ علي باب النّفَق:
هل ما يقال هنا حقيقة؟
أوه، كيف إذاً، تجرّأتَ علي النُّطْق؟
أَكمِل أيّها الأعمي:
النّفق مليءٌ بالنساء، لكن، ليس فيه إلاّ رحِمٌ واحدة، رحمُ امرأةٍ كان اسمها حوّاء، طلّقها زوجُها، وكان اسمه آدم.
هكذا، للنّفق عاشِقٌ واحدٌ: الجدار.
مع أنّ في النّفق أنفاقاً كثيرة.
لا نزال نتأرجح علي فُوّهة الهاوية، يقول الأعمي.
لم أكد أقول: القدس ثوبٌ، حتي هجم العرب جميعاً لكي يلبسوه، قال النّفق.
VI. تباريح
أ _ أسئلة
لماذا كلّ ذرّةٍ في رماد فلسطين جرح مفتوح؟ لماذا، هذا الجرح يصنع الحياةَ، لكن بآلات الموت؟
هل تاريخ فلسطين خَريفٌ هاجَرَ خارج الفصول؟
لماذا يتجعّد في لغة القادة العرب وجه الخليقة؟ ولماذا تعجّ هذه اللغة بقطاراتٍ لا تحمل إلا الطّرقَ التي لا مخرج لها، والتي لا تنتهي؟ ولماذا يرسم هذه الطُّرقَ قادة آخرون لا يتشاجرون إلاّ مع الشجر والماء؟
ب _ رسالة إلي حزقيال النبي
حزقيال أنتَ الرّائي،
حَدّقْ أيضاً وأيضاً. لا يزال الخرابُ خبزاً يومياً في أَرْضِ الله. هل تتحوّل النّبوءات هي كذلك إلي حصار؟ هل تَنْحفِرُ الخنادقُ في كلماتها؟ هل تتشظّي رؤاها في صواريخ، في قنابلَ، في براكينِ غازٍ وفوسفور؟ وهل حَقّاً أصبحتَ، أيّها الرائي، صديقاً لمِنخرَيْ هذا التنّين؟
وأكادُ أن أسألكَ: هل التقيتَ هيروديا؟ وما لوحش الزّمن يتقنّع بملاك الأبدية؟ وما لتلك المسكينة، أَتَانِ النبوّة، بَدأَتْ تتعثّر وتَعرُج؟ وماذا نفعلُ، نحن أبناء الجارية، والأرضُ كلّها جاريةٌ في أحضان النبوّات؟
فاضَ الحديدُ صاعداً هابِطاً علي سلالم الصّلاة.
الورَمُ والدُّهْنُ آدمُ الحياة وحوّاؤها. النّهار أهدابٌ تحترق، والدّقائق ترجمُ أصولَها.
هل نَحفظُ بطون النّساء، وندّخر أجنَّتهنَّ إلي حين؟
هل نَقول للأثداء: ترحّلي إلي ملكوتٍ آخر؟
أمن الخطواتِ تجيء السّلاسل؟
هل الأرحامُ هي القبور؟
حزقيال، أيّها الرّائي،
لا يليق بنبوءاتكَ إلا الرَّعد
اسمحْ لي، إذاً، أن أصرخ:
هيروديا، هيروديا
الدّم يتدفَّقُ من العتبات ومن الجُدران ومن النّوافذ،
وتعرفين جيّداً قلوبَ السّادة _ الأنبياء والسَّاسَةِ.
قولي، إذاً، بماذا تنبضُ هذه القلوب وكيف ترِقّ، ومتي، وما سِرّها؟
لا ترغب الوردة في عطر غيرها. لا يطير طائِرٌ حاملاً عُشَّه.
الأرضُ رحمةٌ، والتّرابُ هو الأخيرُ والأوّل.
لماذا إذاً تشعوذ الكتُب؟ لماذا يُوضَع لكلّ حَرْفٍ قَيْدٌ، ولكلّ لسانٍ لجامٌ؟
لماذا لا تُري السَّماءُ إلاّ مملوكةً وموسومةً وموشومةً ومحروسةً ومسوّرة؟ أهي زريبةٌ للّغة؟ أهي خزانَةٌ لذهب النبوّات؟
هيروديا، هيروديا شيما،
لا يكاد اسْمُكِ يُلفظ حَتّي تنطفئ الحواسّ.
كلاّ، لستِ الرَّقْصَ، ولستِ العشيقة، ولستِ امرأة.
عفواً، عفواً حزقيال، أيّها الرّائي.
ج _ اعتبار
- كيف تستقبلُ الصّخرةَ ببَوْلٍ؟ كيف تستقبلُها بغائط؟
إمضِ. غَطّ قدميكَ بالمصابيح، وَاسْتَغفِرْ.
(المياه العذبَةُ والرّياحُ اللّواقح
تخرجُ من تحت صخرة بيت المقدس")
(عن: أبي هريرة)
سَقَتِ النّبوّاتُ عطشَ الفَوْضي،
ورمت زهورَها في الشوارع.
حيث الشُّعراء ذئابٌ ومغاور، وحيث نقتحمُ، نحن العربَ، المُدنَ لكي نغنّي بصوتٍ واحد:
بسريرٍ مُفْرَدٍ، نفتح فندقاً،
بفندقٍ مفرَدٍ، نصنع قارّةً.
أقدامنا أكثر علوّاً من صلواتِنا
والشمس نفسها تغارُ مِنّا.
الحمد والشكر لله الذي خَصَّنا بهذه الصّفات.
ما أشقي أمثالي _ ولست أيوب، ولستُ فم الذّهب.
د _ أُوميغا (فلسطينية _ يهودية)
حَسَنٌ أن تتنزّه نجوم فلسطين _ إسرائيل في زيّ يبتكره الجينز المقدسيّ. حسنٌ أن يتزلّج كوكبٌ عربيّ بنقابٍ مثقّبٍ علي حائط المبكي. حسنٌ أن يكون الكاكاو الإفريقيّ ريّاً لعطش الخلايا في غوايات فلسطين _ إسرائيل.
غَيْمُ الذرّةِ يسحّ، والنّقاب فتوي السّاعة.
من أين تطلعُ هذه القبضات المختلفة المؤتلفة التي تضرب وَجْه الغيب؟
مِن رؤوسِ الملائكة؟ من جهنم الذرّة؟ من قيامة العالم؟ من الحوض المقدّس؟
الحَوْض المقدّس _ حاضت نجمة الماضي، وانحفرَ فيها المستقبل. همَس الغيمُ في أذن الشاعر:
لا تثقْ. كيف يستريح الله؟ أله كرسيّ؟ أهناك كرسيٌّ يتّسع له؟ أله سريرٌ ووسادة؟ ألَه أتانٌ يَمْتطيها؟ هل يستولي علي أرض ابْنٍ له، لكي يمنحها إلي ابْنٍ له آخر؟
لا شيء يقود إلي المعرفة كمثل الشجرة. قالت الطّبيعة. والإشارة هنا ليست إلي تلك التي عرفها آدم. الإشارة إلي الشجرة التي هي لا جنَّةٌ ولا جحيمٌ، "لا شَرقيّةٌ ولا غربيّة".
لكن، انتبهْ، تقول الطبيعة. واحذر ذلك الكائن المجنّح وراءك.
في شفتيه حمَلٌ، وفي كلّ كلمة يتفوّه بها، سكِّين أو فأس. ولك الحق هنا، أيها الشاعر، أن تشك في أن يكون إنساناً كلّ كائنٍ يحملُ بين كتفيه رأساً آدميّاً.
سأمدّ لكَ حبلاً تتسلّق عليه أو ترقص من آخر الأرض إلي أول السماء من آخر السماء إلي أول الأرض. قالت الطبيعة لهذا الشاعر. وسوف تستقطر عطرك _ شعرك من نباتٍ يشبّ حول خواصر النّساء. الكذب نفسه سيكون وحده الصّدق. هكذا ستسأل، ويسأل معك آخرون، دون دهشة: أيّة مجزرة هي هذه السماء؟ أيّ تعفّنٍ هي هذه الأرض.
ه - نشيد يُمهّد للختام
في رأسي شَعَرٌ شائبٌ كثير
لكن ليس في أحشائي إلاّ زغَبُ الطفولة.
خُذْ كيمياءك أيها الشعر: ثَقِّفْها، هَيْمِن عليها، علّمها كيف تمزج جسدينا بأحلامنا،
وكيف يكون الزّمن جديراً بأن ينتمي إلي نهارنا وليلنا.
وكيف تحمحم الدقائق في عروقنا كأنها أفراس جامحة.
باسمك أنخلع من نفسي لكي أكون نفسي،
وباسمك أكون الفرح والحزن في شهقة واحدة، وسوف أطبق شفتي علي أسرارك.
السّماء كمثل لوحة فريدةٍ في متحف الأرض.
وكلٌّ يحارب لكي يصحّ زعمه أنه سارقها الفريد.
في الأعلي، سقف السماء السابعُ يترجرج ويكاد أن يسقط. أواجبٌ، إذاً، أن يُعطَي للعاهرين والعاهرات دورٌ عظيمٌ آخر؟
وباسم السماء يجب أن نوقظَ أيوب وإرميا وإشعيا من نومهم لكي يروا عذابهم من جديد في بيت المقدس. ولكي يشهدوا كيف كانوا أحراراً سعداء.
والآن، اذهبي أيتها السّماء،
اتركيني قليلاً لكي أتفقّد أعضائي.
VII. نشيد افتتانٍ لِلاشيء
لا أُومنُ بعقل الجموع
أومن بالضّوء _ يشعُّ، ويخترق، ويشير.
يا شجرة الحكمة،
كيف أتآخَي مع غابة القُدس؟
مع هذه الوحدانيّة التي لا تؤمن إلا بالكثرة؟
وما هذا الواحد الذي لا يحضر إلاّ في جِنازةٍ، أو علي عرش؟
بَعْدُ، لم تأت الكارثة. بعد لم يَحنِ الطّوفان.
البحر الأبيض يتهيّأ، والمحيطاتُ تجأرُ وتضطرب.
من يَمْنَحُ هذا الرّأس الرُّخاميَّ لملكِ الصّناعات؟ من يقول لهنيبعل: غلبتكَ روما. لكن أنتَ الذي انتصرت؟ ومِن رأسكَ يطلعُ فجرٌ آخر.
ليس جسدي أثيراً. جسدي ترابٌ وعظمٌ. فيزياءُ أَوردةٍ وشرايين. أسكنُ في كوخٍ دخانٍ، وأتدثّر بثوبٍ غيمٍ. وعبثاً أحاول أن أداويَ السّماء.
يا ليَ من مجرمٍ يعيش بريئاً كالمطر. وذنبي، هذه الآونة، أَنّني أُنافِسُ الضّوء.
انغلقي، إذاً، في وجهي، أيتها السّماء. ولكِ هذا العَهد: لن تريني علي بابكِ أبداً.
وأنتِ، أيتها الكواكب، لن أطلبَ أن تكوني سلّماً لخطواتي.
ما أكثر الكواكبَ في أحشائي.
غَنِّ، أيّها العاشق.
هل حنجرتكَ هي عشيقتك؟ هل عشيقتكَ هي حنجرتك؟
لا تُجِبْ. غَنِّ.
الزَّمنُ يتدحرج صخرةً صخرةً من بين يدي ربّه، وأطفالهُ جبالٌ من البكاء. ألمح فوقَ رأسكَ نجمةً تنطفئ. أَسْتَشِفُّ أشرعةً تتمزّق في بحيرات أحلامكَ.
غَنِّ.
مَوْجٌ يرتسم في تقاطيعكَ. غناؤكَ مدٌّ وجزرٌ. حمداً للغناء.
حمداً للعشق: فيهما _ الصَّوابُ والخطأ توأمان، والحقيقة جرحهما المُشترَك.
وها هو يُقرع جرَسُ المعني،
لكن، هل هناك مَن يُصغي؟
وماذا يُجدي أن تمدّي يَدكِ إلينا، أيّتها الشّمس؟
غَنِّ، أيها العاشق،
النّبؤات تفرُّ غيرةً منكَ،
وإليك تنتمي فتنةُ الدَّهر.
VIII. نشيد افتتانٍ لكل شيء
حَقّاً، للفضاء في القدس شكلُ القَفَص: الكونُ كلُّه ألْفٌ واحد من الأمتار المربّعة!
كومةٌ من الورَقِ تقفُ علي المفارقِ في شكل كتُبٍ مُستطيلة. نري فيها الحِبْرَ يسيلُ بسرعة عشرينَ قرناً في الحَرْف وثلاثين قَرْناً في الفاصلة، وقروناً لا تُحصي في النُّقطة.
يا لهذه الكَوْمة التي يَنْقُرها سَطْراً سطراً هُدهُد سليمان.
هل سَقطت الكتبُ المقدّسة في الجُبّ؟
"صخرة بيت المقدس من صخور الجَنّة"
(ابن عبّاس)
رومٌ، أقباطٌ، آشوريون، كلدانٌ، سريانٌ، كاثوليكٌ، أرمنٌ، أحباش، أكراد، أتراك، شراكسة، أفارقة، مغاربة، لاجئون، فَلاّحون، مدنيّون، يهودٌ، عرَبٌ
رطوبة، حرارة، فلافل، بخورٌ، استيطانٌ، احتلالٌ، يمام، حمام، سيّاراتٌ، بيبسي كولا، مآذن، أجراسٌ،
كيلومتر مربَّع واحد، لا أكثر!
"باب المقدس أرضٌ المحشر والمنشر"
(عن: أبي ذرّ)
"من أَهَلَّ بحجّ أو عُمرةٍ من المسجد الأَقْصي
إلي المسجد الحَرام، غَفَرَ الله ما تقدّم من
ذنبه، وما تأخّر، ووجبَتْ له الجنّة"
(عن: أمّ سلمة، زوج النبي).
البيت يودّع ذاكرته، والغبار حوله يشمّر عن أطرافه،
في ريحٍ تُشَعِّثُ رؤوسَ الأيّام
في عُنْفٍ _ جَرادٍ يلتهمُ نَباتاتِ الوَقْت.
وكانت النّساء قد زرعن أرحامهنَّ في أرض الحلم، وفوَّضْنَ لله أمرَ الحَصاد.
بينهنّ من تموتُ مساءً وتُولَدُ فجراً،
بينهنَّ من تكتب تنهّد العاشقِ بِصبر الحكيم،
وبينهنّ من تَسير وعلي كتفيها نِيرٌ تحسبه فَرْواً.
لا صوتَ إلاّ ما يخرجُ من أعاصيرَ ترتطم بالمعدن. يقفز الضّوء حيرانَ من معدنٍ إلي آخر. أشباحٌ في أشكالٍ تُفَكّك وتُركَّبُ، تحت إِبْطِ الفضاء.
ويبدو المتوسّط البحر كأنّه عرش ذَرّيٌّ تارةً، وتارةً كأنه كرسيّ الله.
والعَصر شحمٌ تتناهبُهُ أَيْدٍ معروقةٌ. علي المعدنِ، يجلس جسمُ الشّهوة. علي الإسفلت تتمدّد روحُها.
وأنتَ، أيّها الماءُ،
هل حَقًّا سَتَنفصلُ عن الطّين؟
بَعْثِرْ نجومكَ علي القُدْس، أيّها اللّيل.
أنبياء اليقظة يَنامُون بين أشلائِها، وبين قدميها يقف الطّين ويَنقسم صَحارَي وأنفاقاً.
ماذا سيحدث لتلك الألواح السّماوية التي هَبطت عليها؟
ماذا سيحدث للشياطين وجيوشهم، للملائكة وآلهتهم؟
وماذا سيحدث للأرض وأبنائها؟
هَلْ أحدٌ يعرف القُدسَ غيرُ النّجوم؟
(بيروت بلومبرغ باريس، تموز آب2010 )


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.