عالياً عالياً، انظروا إليها تتدلّي من عُنقِ السَّماء. انظروا إليها تُسيَّجُ بأهداب الملائكة. لا يَسْتَخدمْ أحدٌ قدميه في التوجّه إليها، يمكن أن يستخدمَ جبينَه، والكتف، وربّما السرّة. اقرعوا بابَها حُفَاةً، يفتحهُ نبيٌّ يُعلّمكم السّيرَ، وكيف تَنحنون. مَسرَحٌ يقودُه القديرُ الجَبّار. ويفعل الربّ هذا كلّه من أجل أبنائه. - "هوذا أنا. طَيْفٌ للقدس": صَرخت علي المسرح دميةٌ بثلاثة رؤوسٍ وغابَتْ. - "شَكا بيت المقدسِ إلي ربّه الخرابَ، فأوحي الله إليه: لأَمْلأَنّكَ خدوداً سُجَّداً تحنّ إليكَ حنينَ الحمامِ إلي بَيْضها". - "إِتَّقِ الله يا كَعْب، هل لبيتِ المقدسِ لسان؟" - "نعم. وله قَلْبٌ مثلكَ". (عن: كعب) مسْرحٌ يقوده القديرُ الجَبّار. كثيراً رَجَوْتُ الخبزَ أن ينتقدَ الملح. كثيراً سمعتُ من يسألني، خِفْيةً: "لماذا يتأخّر الموتُ في القدس، ويظلّ تقدّم الحياةِ موتاً آخر؟ وكيف يُسجن رأسٌ في قَبْو الكلماتِ التي ابتكرها هو نفسه؟" حقاً، يمكر الغيبُ في القدس، وهو سيّدُ الماكرين. في زاويةٍ، في أَقْصي صحرائي، غزالةٌ تبكي. أعرفُ اسمكَ، أيّها العَصْرُ الراكض في شوارع القدس. أُمِرْتُ أن أقدّمَ لك عصيرَ اليورانيوم. وسوف أقول للقمر أن يوقع علي دفتركَ، وللشمس أن تؤرّخ لهذا التوقيع. وانظرْ: ها هي جدرانٌ تريقُ حليبَ أحزانها علي الأرضِ، فَرحاً بكَ. وتعرف أيها العصر، أنّ النَّمل أكثر علوّاً من الكواكب: قَدِرَ النَّمل أن يتحدّث مع سليمان، ولم تقدر الكواكب. ربما، لهذا يتنبّأُ النمل: الأحزمة، الأقنعة، الخنادق، الجَرّافات، القنابل، الصواريخ، الحقائب، الدواليب، الأدمغة الإلكترونية: تلك هيَ الأيامُ المقبلة. ربما لهذا، تتحوّل السماء إلي ثُقْبٍ سرّيّ في سَقْف التاريخ. "بيت المقدسِ أرض المحشر والمَنْشَر". (عن: أبي ذرّ) "مَن مات ببيت المقدس، فكأنّه مات في السّماء". (عن: أبي هريرة) لكن، ها هُوَ امرؤ القيس! هوذا في طريقه إلي بلاد الرّوم مروراً ببيت المقدس. قبل أن يضع قدميه علي العتَبة، قرأ: لِلدّم الذي أُريق علي ضِفاف المتوسّط منذ البدايات، تاريخٌ مُدنَّس. لهذا التّاريخ الأرضيّ مُوجزٌ سماويّ اسمه القدس. لكن، لماذا النّاس فيها اثنان: ميّتٌ يُقيم في القَفر، وحيٌّ يُقيم في القَبْر؟ كان اللّيل والنّهارُ في صراعٍ يحاول كلاهما، باسم القدس، أن يخنقَ الآخر. وكان الوقت يُحوّل المَشْهَد إلي شريطٍ وثائقيّ. غير أَنّ امْرأَ القيس قال مودّعاً: في بدء العالَم، كانت الكلمة في بدء الكلمة، كانتِ الدّماء. مَسرحٌ يقودهُ القديرُ الجَبّار. هل تَعبتَ، يا امرأَ القيس، من السّير في تلك الشوارع التي شَقَّها الغيب؟ ما أبرعَها في فَنّ الاقتفاء، ما أَنْبَهَ جُدْرانَها في التنصّت. كلّما حاولتَ أن تعانق امرأةً، يسألك حارسٌ: هل استأذَنْت السماء؟ بلي، كلّ ثَمرٍ مُرٌّ في هذه الشوارع. مع ذلك، ها أنتَ تتابع سيركَ أكثرَ إلحاحاً مِن ذَكَر نَمْلٍ جائعٍ، صانِعاً من خطواتكَ أوتاراً لموسيقي لم تجئ بعد، محفوفاً بقَصبِ أحلامٍ تنفر من ذكورتها بويضاتُ الظنّ. ظَنُّكَ أنّ سريركَ ليلٌ آخر، وثمّةَ ما يوشوشكَ: يكذب اللّيل هو كذلك، ولو أنّه صديق الشمس الأكثرُ وفاءً. غيرَ أنّكَ تعوّدت أن تبدأ دائماً من الصّفر، لأنك تعوّدتَ أن تَتَنشَّقَ عِطرَ اللانهايات. كانت جدّتكَ، السماءُ العُكاظيّةُ، تَضَعُ في جيوب أبنائها عملةً ليست إلا نَرْداً، وكانت تُوصيهم أن يطرحوها ليلاً، بين رَمْلٍ النجوم، إن كانوا يريدون أن يتماهوا مع أحلامهم. ووفقاً لوصاياها، كانوا ينثرون قصائدهم علي الرمل، تبرّكاً واحتفاءً. أنتَ الآن تحت سماءٍ أخري. حولكَ جدرانٌ تنزفُ دماً. رؤوسٌ شِبْهُ مقطوعة لا تتوقف عن الكلام. اطمئني، أيتها الريح، الأشراك التي تنصبينها تخبئ وراءها غاباتٍ من النار. وثمة ينابيع من الدم تسيلُ من ثقب إبْرةٍ تتدلّي من يد السماء. - كلماتٌ حرابٌ وأسنّةٌ والبصير هو دائماً فَرِيستُها. - ملائكةٌ آثروا أن ينقلبوا إلي عُشّاقٍ، وأن يكون المِسْكُ العربيّ فضاءً لِتشرّدهم بين الحجاز والقدس. - سماؤك نقشٌ لغويّ. أرضكَ حَمّالةُ أوهام. كلّما شهقَت كلمةٌ في هذا النقش، تصطكّ أسنان التاريخ، فيما تنحدرُ الرؤوس كمثل كُراتٍ دون اتجاه، وفيما تبدو النجوم كمثل حُزَم من القَشّ. - تاريخٌ حليبٌ يفرّ من أثداء أمّهاتِنا لكي يُرْضِعَ القمر وبقيّةَ الكواكب. - حين تهجم العاصفة لا تتسلّح إلا بأجسامنا. تملأُ أيامَنا بغيومٍ سوداء لا يستطيع، أحياناً، أن يقرأها حتي الضوء. - هكذا سنظلّ نصنعُ النعوشَ قبل الأوان. ندهنها بِعطرٍ مما قَبل التكوين. ونقطَعُ باسمها وريدَ الأرض لكي نُغذّيَ شَرَيان الغيب. - إقرأْ بُرْجَكَ، أيها التاريخ، وسوف تري كيف تنقلبُ التوهمات إلي أبراجٍ من الحقائق. - إلي سرير الفلك، يَسْتَسْلم جسم التاريخ. وها هو يفكّ أزراره. الريح تقرأ الوَرْدَ والعطر يكتبه. دَخلت العاشقة حديقة بيتها في القدس حيث يُقيم حبّها. الأزهار كلها تحوّلت إلي شِباكٍ تطوّق خطواتِها. ضحكت وقالَت: هَلْ عليّ، إذاً، أن أخيطَ من جديدٍ ثوباً آخر لكل زَهْرة؟ أمسِ، حين التقيتُها، همسَ الليل في أذنيَّ: العطر ابْنٌ للوردة، لكنه يُولد شاباً. (توتّر. مقتل. قَبض. إسعاف. مطافئ. ضحايا. إدانات. منع. تمرّد. خَرْق. استحقاق. معتقل. اعتقال. سجون. هدم. احتلال)، قلتُ لخيالي: تجرّأ. ضع يديك علي كتفي القدس. وقلت للقدس: لماذا أنا المقبل إليكِ، لا أعرف أن أسيرَ إلا إلي الوراء؟ (إرهاب، خطف. جهة مجهولة. تشدّد. اتّهام. نَفْي. نَعْي. شَرْع. فساد. كُفّار. تزوير. حملة. عنف. قضاء. قاعدة. خطَر. صراع. هيمنة. ملاذ. غزو. اكتساح). الطريقُ خيط عنكبوت. وثمّةَ كونٌ بصيرٌ يزدردهُ كونٌ أعمي. المدنُ احتضارٌ، والزمن هدهدٌ عابر. إلي متي ستظلّين، أيتها السماء نائمة بين يدي أرضٍ حمراء؟ (صواريخ. عصابات. طوائف. طقوس. هجمات. ألغام. تجارة. اقتتال مذهبي. قَصف. انشقاق. تهدئة. سيادة. مُرابَحة. أشلاء. جثث. معارك. حلفاء. أعداء. مُسلّحون. اغتيالات. قبائل)، طِفْلٌ له هيئةُ النّعش تحمله أيْدٍ غيرُ مرئية، في اتجاهٍ بلا اتّجاه. قولوا للأبديّ: فُرْقَتكَ التي تدير المسرح مجبولةٌ من طينٍ اسمه القَتْل، وتلبس الفرقة نَسيجاً اسمه الهواء. (نفط: يورانيوم. اختراقٌ للصوت. ذخائر. فضائح. تحقيق. تهريب. قوانين. يمين. يسار. مفاوضات. خيانة. تعذيب. نزوح... إلخ)، "في القمر شِقٌّ إيروسيٌّ تحفره السياسة"، قال عالِمٌ فَلكيّ، "في الأرض ثقوبٌ تتشبّه بثقوب الجسم الإنسانيّ"، قال عالِمٌ في الطبيعة، بينهما، كان الجُودِيُّ الجبَلُ يتحوّل إلي وشاحٍ أحمرَ يلفّ السفينة. وكان كاحِلُ الهواء يُموسِقُ رقصه علي إيقاع غبارٍ ذَرّيّ. خيوطٌ وأسلاكٌ تنسج عباءاتِ إلكترونيّةً لمسافرين يجهلون المكانَ، يجهلهم المكان. أكداسُ كتبٍ تَرزح تحتَها رؤوسٌ لحِججٍ واهيةٍ خَطَّها قلمُ المعجزة. لم أقل ذلك لأي ملاكٍ. قلته لِشهابٍ أخرس، لم يكد يشتعلُ حتي انطفأ. هناك من تلطّخ، فانقلب خارجه إلي داخل. هناك من قرأ فأصابته عدوي الجهل بكل شيء. هناك ثالثٌ لا رابعَ له إلا ظِلّه. الرُّعب نفسُه نغمٌ في قيثار الشمس. - "يا رسول الله، أيّ الخَلق أوّلُ دخولاً إلي الجنّة؟ - الأنبياء. - ثمّ من. - الشهداء. - ثمّ مَن؟ - مؤذّنو بيت المقدس". (عن: جابر) "لم يُستَشْهد عبدٌ قطُّ، في بَرٍّ أو بَحْرٍ إلا وهو يَسمع أذَان مؤذّني بيت المقدس من السماء". (عن: كعب) "صخرة بيت المقدس علي نَخْلةٍ، والنخلة علي نَهْرٍ من أنهار الجنّة. تحت النخلة آسيا امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران، تنظمان سُموطَ أهل الجنة إلي يوم القيامة". (عن: عُبادَة بن الصامت) ماذا نكتب، إذاً، وكيف؟ - كتابة الواقع استنساخ. انفصالٌ آخر عن الواقع، وعن الكتابة. - إن لم نكتب الممكن، فكأنّنا لا نكتب. - أهناك معني لما لا يدخلُ في اللغة؟ - وما يدخلُ في اللغة، اليس دخولاً في صحراء؟ - لماذا تكون أحزانُ العقل قبوراً لرغبات الجسد؟ - لا نكتب الشيء حقّاً إلا إذا رأيناه بطريقةٍ يبدو فيها كأنه هو نفسه يرانا. - كتابةٌ لا هُوَّة فيها، لا هويّةَ لها.