في اطار احتفالية مركز الفنون بمكتبة الاسكندرية الأحد قبل الماضي بمرور سبعين عاما علي ميلاد أمل دنقل, والتي شهدت أنشطة عديدة ومتنوعة, أقيمت أمسيتان لشعر أمل, احداهما ألقي فيها مجموعة من أبرز شعراء مصر القصائد الأثيرة لديهم مما كتبه أمل. أما الثانية فكانت أمسية غنائية قدم فيها الموسيقي شريف محيي الدين مزجا لمقاطع من بعض قصائده. ولأن أجمل احتفاء بالصوت الجميل هو أن نسمعه, اخترنا هنا للشاعر الذي يولد في قلوبنا كل عام, بعض ما اختاره محبوه لنسعد به معا. البكاء بين يدي زرقاء اليمامة أيتها العرافة المقدسة.. جئت إليك.. مثخنا بالطعنات والدماء أزحف في معاطف القتلي, وفوق الجثث المكدسة منكسر السيف, مغبر الجبين والأعضاء. أسأل يا زرقاء.. عن فمك الياقوت عن, نبوءة العذراء ع(1) لا تصالح! ..ولو منحوك الذهب لا تصالح! مقطع(1) و(2)أتري حين أفقأ عينيك ثم أثبت جوهرتين مكانهما.. هل تري..؟ هي أشياء لا تشتري..: ذكريات الطفولة بين أخيك وبينك, حسكما- فجأة- بالرجولة, هذا الحياء الذي يكبت الشوق.. حين تعانقه, الصمت- مبتسمين- لتأنيب أمكما.. وكأنكما ما تزالان طفلين! تلك الطمأنينة الأبدية بينكما: أن سيفان سيفك.. صوتان صوتك أنك إن مت: للبيت رب وللطفل أب هل يصير دمي- بين عينيك- ماء؟ أتنسي ردائي الملطخ بالدم.. تلبس- فوق دمائي- ثيابا مطرزة بالقصب؟ إنها الحرب! قد تثقل القلب.. لكن خلفك عار العرب لا تصالح.. ولا تتوخ الهرب! (2) لا تصالح علي الدم.. حتي بدم! لا تصالح! ولو قيل رأس برأس أكل الرؤوس سواء؟ أقلب الغريب كقلب أخيك؟! أعيناه عينا أخيك؟! وهل تتساوي يد.. سيفها كان لك بيد سيفها أثكلك؟ سيقولون: جئناك كي تحقن الدم.. جئناك. كن- يا أمير- الحكم سيقولون: ها نحن أبناء عم. قل لهم: إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك واغرس السيف في جبهة الصحراء إلي أن يجيب العدم إنني كنت لك فارسا, وأخا, وأبا, وملك!ن ساعدي المقطوع.. وهو ما يزال ممسكا بالراية المنكسة عن صور الأطفال في الخوذات.. ملقاة علي الصحراء عن جاري الذي يهم بارتشاف الماء.. فيثقب الرصاص رأسه.. في لحظة الملامسة! عن الفم المحشو بالرمال والدماء!! أسأل يا زرقاء.. عن وقفتي العزلاء بين السيف.. والجدار عن صرخة المرأة بين السبي. والفرار ؟ كيف حملت العار.. ثم مشيت ؟ دون أن أقتل نفسي ؟! دون أن أنهار ؟! ودون أن يسقط لحمي.. من غبار التربة المدنسة ؟! تكلمي أيتها النبية المقدسة تكلمي.. بالله.. باللعنة.. بالشيطان لا تغمضي عينيك, فالجرذان.. تلعق من دمي حساءها.. ولا أردها! تكلمي... لشد ما أنا مهان لا الليل يخفي عورتي.. كلا ولا الجدران! ولا اختبائي في الصحيفة التي أشدها.. ولا احتمائي في سحائب الدخان! .. تقفز حولي طفلة واسعة العينين.. عذبة المشاكسة (- كان يقص عنك يا صغيرتي.. ونحن في الخنادق فنفتح الأزرار في ستراتنا.. ونسند البنادق وحين مات عطشا في الصحراء المشمسة رطب باسمك الشفاه اليابسة.. وارتخت العينان!) فأين أخفي وجهي المتهم المدان ؟ والضحكة الطروب: ضحكته.. والوجه.. والغمازتان! ؟ *** أيتها النبية المقدسة.. لا تسكتي.. فقد سكت سنة فسنة.. لكي أنال فضلة الأمان قيل لي' اخرس..' فخرست.. وعميت.. وائتممت بالخصيان ظللت في عبيد( عبس) أحرس القطعان أجتز صوفها.. أرد نوقها.. أنام في حظائر النسيان طعامي: الكسرة.. والماء.. وبعض التمرات اليابسة. وها أنا في ساعة الطعان ساعة أن تخاذل الكماة.. والرماة.. والفرسان دعيت للميدان! أنا الذي ما ذقت لحم الضأن.. أنا الذي لا حول لي أو شأن.. أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان, أدعي إلي الموت.. ولم أدع الي المجالسة!! تكلمي أيتها النبية المقدسة تكلمي.. تكلمي.. فها أنا علي التراب سائل دمي وهو ظمي ء.. يطلب المزيدا. أسائل الصمت الذي يخنقني: ' ما للجمال مشيها وئيدا.. ؟!' أجندلا يحملن أم حديدا.. ؟!' فمن تري يصدقني ؟ أسائل الركع والسجودا أسائل القيودا: ' ما للجمال مشيها وئيدا.. ؟!' ' ما للجمال مشيها وئيدا.. ؟!' أيتها العرافة المقدسة.. ماذا تفيد الكلمات البائسة ؟ قلت لهم ما قلت عن قوافل الغبار.. فاتهموا عينيك, يا زرقاء, بالبوار! قلت لهم ما قلت عن مسيرة الأشجار.. فاستضحكوا من وهمك الثرثار! وحين فوجئوا بحد السيف: قايضوا بنا.. والتمسوا النجاة والفرار! ونحن جرحي القلب, جرحي الروح والفم. لم يبق إلا الموت.. والحطام.. والدمار.. وصبية مشردون يعبرون آخر الأنهار ونسوة يسقن في سلاسل الأسر, وفي ثياب العار مطأطئات الرأس.. لا يملكن إلا الصرخات التاعسة! ها أنت يا زرقاء وحيدة... عمياء! وما تزال أغنيات الحب.. والأضواء والعربات الفارهات.. والأزياء! فأين أخفي وجهي المشوها كي لا أعكر الصفاء.. الأبله.. المموها. في أعين الرجال والنساء! ؟ وأنت يا زرقاء.. وحيدة.. عمياء! وحيدة.. عمياء! الجنوبي أولي قصائد ديوان أمل الأخير أوراق الغرفة8 صورة هل أنا كنت طفلا أم أن الذي كان طفلا سواي هذه الصورة العائلية كان أبي جالسا, وأنا واقف.. تتدلي يداي رفسة من فرس تركت في جبيني شجا, وعلمت القلب أن يحترس أتذكر سال دمي أتذكر مات أبي نازفا أتذكر هذا الطريق إلي قبره أتذكر أختي الصغيرة ذات الربيعين لا أتذكر حتي الطريق إلي قبرها المنطمس أو كان الصبي الصغير أنا ؟ أو تري كان غيري ؟ أحدق لكن تلك الملامح ذات العذوبة لا تنتمي الآن لي و العيون التي تترقرق بالطيبة الآن لا تنتمي لي صرت عني غريبا ولم يتبق من السنوات الغريبة الا صدي اسمي وأسماء من أتذكرهم- فجأة- بين أعمدة النعي أولئك الغامضون: رفاق صباي يقبلون من الصمت وجها فوجها فيجتمع الشمل كل صباح لكي نأتنس. وجه كان يسكن قلبي وأسكن غرفته نتقاسم نصف السرير ونصف الرغيف ونصف اللفافة والكتب المستعارة هجرته حبيبته في الصباح فمزق شريانه في المساء ولكنه يعد يومين مزق صورتها واندهش. خاض حربين بين جنود المظلات لم ينخدش واستراح من الحرب عاد ليسكن بيتا جديدا ويكسب قوتا جديدا يدخن علبة تبغ بكاملها ويجادل أصحابه حول أبخرة الشاي لكنه لا يطيل الزيارة عندما احتقنت لوزتاه, استشار الطبيب وفي غرفة العمليات لم يصطحب أحدا غير خف وأنبوبة لقياس الحرارة. فجأة مات! لم يحتمل قلبه سريان المخدر وانسحبت من علي وجهه سنوات العذابات عاد كما كان طفلا يشاركني في سريري وفي كسرة الخبز, والتبغ لكنه لا يشاركني.. في المرارة. وجه من أقاصي الجنوب أتي, عاملا للبناء كان يصعد' سقالة' ويغني لهذا الفضاء كنت أجلس خارج مقهي قريب وبالأعين الشاردة كنت أقرأ نصف الصحيفة والنصف أخفي به وسخ المائدة لم أجد غير عينين لا تبصران وخيط الدماء. وانحنيت عليه أجس يده قال آخر: لا فائدة صار نصف الصحيفة كل الغطاء و أنا... في العراء وجه ليت أسماء تعرف أن أباها صعد لم يمت هل يموت الذي كان يحيا كأن الحياة أبد وكأن الشراب نفد و كأن البنات الجميلات يمشين فوق الزبد عاش منتصبا, بينما ينحني القلب يبحث عما فقد. ليت' أسماء' تعرف أن أباها الذي حفظ الحب والأصدقاء تصاويره وهو يضحك وهو يفكر وهو يفتش عما يقيم الأود. ليت' أسماء' تعرف أن البنات الجميلات خبأنه بين أوراقهن وعلمنه أن يسير ولا يلتقي بأحد. مرآة - هل تريد قليلا من البحر ؟ - إن الجنوبي لا يطمئن إلي اثنين يا سيدي البحر و المرأة الكاذبة. - سوف آتيك بالرمل منه وتلاشي به الظل شيئا فشيئا فلم أستبنه. . - هل تريد قليلا من الخمر؟ - إن الجنوبي يا سيدي يتهيب شيئين: قنينة الخمر و الآلة الحاسبة. - سوف آتيك بالثلج منه وتلاشي به الظل شيئا فشيئا فلم أستبنه بعدها لم أجد صاحبي لم يعد واحد منهما لي بشيء - هل تريد قليلا من الصبر ؟ - لا.. فالجنوبي يا سيدي يشتهي أن يكون الذي لم يكنه يشتهي أن يلاقي اثنتين: الحقيقة و الأوجه الغائبة!