رأي كثيرون في موت ألبير كامو في سن الأربعين تجسيداً لفلسفته الوجودية ونظرته العدمية وتعامله مع الحياة باعتبارها سلسلة من الأحداث العبثية. وكان الشاعر الأمريكي مارك ستراند يتبني نفس الأفكار تقريباً، إلا أنه توفي منذ عدة أيام، وهو في الثمانين من عمره، بعد حياة حافلة بالشعر والترجمة والعمل الأكاديمي. بدأ ستراند حياته الأكاديمية عام 1962، وعمل بالتدريس في عدة جامعات، وشارك في عدد من ورش الكتابة، وجماعات الشعر. وفي عام 1964، أصدر ديوانه الأول "النوم بعين مفتوحة"، وكان انطلاقة مميزة له في عالم الشعر. وعن التوتر والقلق الذي اتسمت به قصائد الديوان، قال في حديث إذاعي إن الديوان عكس ما كان يشعر به من قلق إبان الحرب الباردة بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتي. تأثر الكاتب الأمريكي بالفلسفة الوجودية التي ظهرت في أعماله بوضوح، وكانت أزمة الحياة/ الموت واحدة من أبرز الموضوعات التي تناولها وألح عليها في قصائده، ولعله نموذج لجيل ما بعد الحرب العالمية الثانية من الشباب، الذين تطور وعيهم أثناء الحرب الباردة، وتأثروا بآراء جان بول سارتر، وحاولوا التعبير بعد ذلك عن أزمة الوجود الإنساني. إلا أن ستراند ظل مخلصاً لأفكاره أكثر من إخلاصه للشعر، فلم يتسم بالدأب، وأعلن اعتزاله الشعر أكثر من مرة، وأصدر تصريحات مفادها انه لم يعد يحب كتابة الشعر. لكنه كان ما يلبث أن يعود إلي الشعر من جديد، ربما ينطبق عليه وصف هنري كول بأنه مزاجي ومرواغ. ويري الناقد ديفيد كربي أن القصائد الأولي التي كتبها ستراند تتسم بالتركيز علي الذات وعلي الهوية، وأنها تشف عن ذات مشطورة وحائرة بين عالمين.. لا ترتاح في أيهما، وتعيش حالة أقرب إلي حالة الحلم. ويقول في وصف طريقة ستراند في الكتابة: "إنه يتعامل مع التيمات الرئيسية للقصائد بقلق متصاعد، ما يخلق حالة من التوتر لدي المتلقي حيال قدرة الشاعر علي إرباكه". ويتفق النقاد أن شغف ستراند بالهوية كموضوع، والذي ظهر في ديوانه الأول، صاحبه بعد ذلك في مُجمل أعماله. وفي ديوانه الثاني، "أسباب للرحيل"، الصادر عام 1968، ظهرت الروح السوداوية والاحتفاء بالموت، وتنامي الروح العدمية. ويري هارولد بلوم أن ديوان ستراند الثالث "الأكثر ظلمة"، الصادر عام 1970، امتداد للفكرة المسيطرة عليه منذ البداية. اتخذ ستراند موقفاً وجودياً من الوجود الإنساني، وكان يري أن الحياة بلا قيمة ولا معني مُتأثراً بالطبع بالموجة الفكرية التي ضربت أوروبا في الستينيات؛ والتي كانت مقولات سارتر في القلب منها. ولم يكن له مخرج من هذا المأزق الوجودي سوي بالشعر. فالقصيدة هي استعادة فردوس الطفولة المفقود، وهي المرح في الجنة الأولي علي جزيرة الأمير إدوارد، حيث العالم يشبه حلماً بلا زمن، والحركة فيه لا تخضع لصرامة قوانين الجاذبية. حاول الشاعر قدر استطاعته أن يجد قيمة للحياة ومُبرراً للوجود بالدأب علي كتابة الشعر. ولهذا وصفه الشاعر الأمريكي الكبير هنري كول بأنه: "شاعر مزاجي، يسعي إلي تجميع شتات جزيئات الحياة، ويعيش في فضاء مفتوح، يمارس فيه الحنين إلي الماضي". وفي عام 1980، أصدر ستراند ديوان قصائد مُختارة، وأعلن بعدها أنه اعتزل كتابة الشعر، لأنه لم يعد يحب ما يكتب، ولم يعد يعتقد في جدوي قصائد السيرة الذاتية. وبدأ يكتب قصصاً للأطفال. ويمكن اعتبار ما أقدم عليه ستراند من هجر للشعر (الذي كان يعني له استعادة عالم الطفولة الأول) والاتجاه إلي الكتابة للأطفال نوعاً من الهدوء النفسي والاستعداد لتقبل الحياة، أو بالأحري الاستسلام لها. فبعد التقلب بين الأفكار، وعدم امتلاك اليقين، والتوجه إلي القاريء بخطاب حائر ومُحير، تحول إلي صياغة قوالب فكرية نمطية وبسيطة، أعزم أن عقله الحر قبلها واستكان لها قبل أن يطلقها إلي العالم. أصدر ستراند عدة كتب في نقد الفن التشكيلي، يستعيد فيها شغفه القديم بهذا الفن، وتناول فيها أعمال بعض التشكيليين الأمريكيين العظام. وفي مطلع التسعينيات، عاد إلي الشعر من جديد بديوانه "الحياة المستمرة". ولقد لاحظ النقاد تغيراً علي أفكار ستراند ومعجمه اللغوي وطريقته في الكتابة. وتم اختياره في نفس العام كأمير لشعراء أمريكا، وهو ما لفت الانتباه إلي ديوانه الجديد علي نطاق واسع، كما حظي ديوانه التالي عام 1993 "الميناء المظلم" بمتابعة نقدية كبيرة، واتسم الديوان بالسخرية من الذات، وتناول المواقف غير المحسومة بلغة سوريالية علي حد تعبير جوديث هال. ويمكن اعتبار المرحلة التالية لانقطاع ستراند عن الشعر استكمال لما بدأه كشاعر علي مستوي اللغة والأفكار، والموقف والوجود، والحنين إلي الماضي. وفي عام 1999، نال ستراند جائزة بولتزر للشعر، وعاد بعدها للانقطاع عن كتابة الشعر من جديد إلي أن أصدر ديواناً بعنوان "قصائد مُختارة"، عام 2007، وصدر له ديوان أخير في بداية عام 2014، بعنوان قصائد مُجمعة. إلا أنه في ذات الفترة أنجز عدة مجموعات قصصية وعدة ترجمات. ولنا أن نستنتج أن ستراند عاش أزمة حقيقية مع الشعر كأداة للتعبير عن الذات، وليس أزمة مع الكتابة بوجه عام، أو ربما ارتبط الأمر بدوراته المزاجية وتقلباته، ورغبته في مناورة القراء والحياة.